ما أن إعتبر وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف،(14 آب/أغسطس)، في تصريح من بيروت، أن وجود البوارج الأجنبية قبالة بيروت “يُمثّل تهديداً للبنان والمقاومة”، حتى أعطى انطباعاً بأن الأمر يتعلق برسالة فرنسية ــ غربية ضمنية موجهة إلى حلفاء إيران في لبنان. فهل أرادت باريس والعواصم الغربية فعلاً توجيه رسالة من خلال إرسال هذه البوارج التي تنفذ عملياً مهمة تقنية وإنسانية وطبية، ولا تتخذ وضعية قتالية ولا تعكس أي شكل من أشكال التلويح الغربي باستخدام القوة؟
لا شيء يمنع من أن تكون الخطوة الغربية استباقية: استباق تدهور أمني محتمل في المستقبل، فتتولى تأمين إسعافات أو حماية قد تكون مطلوبة من قبل البعض. ولا يمكن استبعاد فرضية أن يتمثل الهدف غير المعلن من إرسال هذه السفن الحربية، حتى ولو كانت في وضعية غير قتالية (الآن)،هو توجيه إنذار رمزي إلى حزب الله وإيران. كذلك، من الممكن أن يكون تَمَرْكُز هذه السفن قبالة الشاطئ وفي مرفأ بيروت، استعراضاً محدوداً جداً للقوة، حتى الآن، هدفه الضغط على الطرف الآخر، أي حزب الله وإيران، في المفاوضات بشأن الوضع المتأزم في لبنان.
هذه الفرضية لا تنفي وجود فرضيات أخرى، بينها ما يسربه بعض الدبلوماسيين المحترفين في بيروت، بأن هذا التهافت الدولي، يدل على وجود “قطبة مخفية ما”. فهل تكون إسرائيل قد قامت بعمل أمني ما (وليس إطلاق صاروخ أو غارة)، في ضوء بنك أهداف غير دقيق، كما حصل في صيف العام 2006، وبالتالي، يكون هذا الحضور العسكري المتعدد الجنسيات، قبالة بيروت، بمثابة الحاجز الذي يمنع أي تدحرج في الموقف بين لبنان وإسرائيل؟
وللتذكير فقط، ثمة تجربة فرنسية سابقة حصلت في صيف العام 1989، أثناء “حرب التحرير” التي أطلقها العماد ميشال عون ضد القوات السورية في لبنان. عندما تصاعد القصف السوري بشكل عنيف، وبالتزامن مع تصلب الموقف السوري خلال مفاوضات الحل السياسي، وقبل صدور وثيقة الطائف، برعاية دولية وعربية، أرسلت فرنسافي أواسط آب/أغسطس 1989، بوارج حربية قبالة الشاطئ اللبناني.
في الشكل، برّرت باريس مهمّة أسطولها بغايات إنسانية لإسعاف وإنقاذ جرحى المعارك في “بيروت الشرقية”و”الغربية” معاً. وحرصت الدبلوماسية الفرنسية على عدم إعطاء انطباع بأي تدخل عسكري وشيك وجدّي. لكن ضمنياً، شكّل هذا التحرك الفرنسي عامل ضغط على سوريا. وانعكس ذلك تدنياً في حدة قصفها مما حال دون قلب موازين القوى في صيف 1989، لا سيما في معركة سوق الغرب الشهيرة، في سيناريو متكرر للعام 1983، عندما أرسلت الولايات المتحدة المدمرة “نيوجرسي”، فرسمت بقذائفها الخطوط الحمر التي منعت سقوط بلدة سوق الغرب أيضاً بأيدي مقاتلي “الحزب التقدمي الإشتراكي” المدعومين من سوريا والفصائل الفلسطينية الحليفة لها.
مرونة الدبلوماسية الفرنسية حيال الوضع اللبناني وتحديداً سلاح حزب الله، لا تمنعها من توجيه رسائل ذات “نكهة” خفيفة، بالتنسيق مع حلفائها الغربيين، لا للإنزلاق إلى مستنقع حرب لا أحد يريدها، بل لمحاولة إعادة التوازن إلى المشهد إذا أمكن. من هذه الزاوية، يمكن القول إن الرسالة وصلت
استعراض القوة الفرنسي الضمني في العام 1989، أتاح لباريس الضغط على دمشق أثناء مفاوضات الحل السياسي في ذلك الصيف الملتهب. فخرج اتفاق الطائف في تشرين الأول/أكتوبر 1989، متضمناً توجهات لم يكن يستسيغها الرئيس السوري، حافظ الأسد، أبرزها تمثل في البند المتعلق بإعادة انتشار القوات السورية بعد عامين على بدء تطبيق الطائف والعملية السياسية بعد الحرب. ولاحقاً، شكل هذا البند ركيزة أساسية للمطالبين بالانسحاب السوري وفقاً لاتفاق الطائف.
صحيح أن المناورة الفرنسية لم تكن مباشرة، وأن المعطيات لا تؤكد وجود قدرة ولا حتى رغبة فرنسية، للتدخل العسكري المباشر في تلك الحرب، لكن لا يمكن إنكار رمزية التحرك الفرنسي وإسهامه في الحصول على موقف سوري أقل تعنتاً. فهل تتكرر المعادلة مع حزب الله وإيران اليوم، على الرغم من اختلاف الظروف والوقائع والسياقات؟
في ظل لعبة التنافس الدولي والإقليمي على الغاز وخطوطه في منطقة شرق البحر المتوسط، ومع احتمال تصاعد التوترات فيها، لا يمكن استبعاد أي سيناريو. ومرونة الدبلوماسية الفرنسية حيال الوضع اللبناني وتحديداً حيال مسألة سلاح حزب الله، لا تمنعها من توجيه رسائل ذات “نكهة” خفيفة، بالتنسيق مع حلفائها الغربيين، لا للإنزلاق إلى مستنقع حرب لا أحد يريدها، بل لمحاولة إعادة التوازن إلى المشهد إذا أمكن. من هذه الزاوية تحديداً، يمكن القول إن الرسالة وصلت. فهل سيكون الرد عليها في الكواليس، مشابهاً لما كان عليه رد وزير الخارجية الإيراني في العلن؟
ثمة ترابط بين التحقيق شبه الدولي في متفجرة مرفأ بيروت وبين هذا التحشيد العسكري الأجنبي قبالة سواحل لبنان. إذا كان الأمر لا يتعدى البعد الإنساني، لن يكون مفاجئاً أن يستفيق اللبنانيون في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ولا يجدوا في البحر إلا بضعة سفن تجارية تفرغ حمولتها وأشلاء مترامية الأطراف لميناء بيروت.