قرار الإنسحاب الأميركي الذي ضبط بايدن توقيته على ساعة الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول، التي تعتبر الضربة الأسوأ ضد البر الأميركي منذ هجمات بيرل هاربور عام 1941 وكانت سبباً مباشراً لدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، كذلك فإن الهجمات على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون وتفجير طائرة ركاب في الجو فوق حقل بولاية بنسلفانيا، تركت ندوباً لا تزال تحفر في الوعي الأميركي، وكانت سبباً في إطلاق أطول حرب أميركية في الخارج.
في هجمات 11 أيلول/سبتمبر قضى ثلاثة ألاف أميركي، وفي أفغانستان قتل أيضاً ثلاثة ألاف أميركي وجرح 20 ألفاً آخرين مع كلفة تريلوني دولار. والأشد غرابة أن أميركا التي ذهبت إلى أفغانستان لإسقاط حكم حركة “طالبان” الإسلامية المتشددة التي كانت تؤوي تنظيم “القاعدة” الذي نفذ هجمات 11 أيلول، ها هي تضطر تحت وقع الإنهاك، إلى إبرام اتفاق مع الحركة نفسها، كي يتاح لها الخروج الآمن من هذا البلد بأي ثمن.
في مقال مشترك في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، تساءل السناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام والجنرال المتقاعد جاك كين قائلين :”كيف يمكننا تخيل أننا أوكلنا أمننا القومي إلى طالبان”، وطالبا بايدن أن يكون لديه الجرأة لإعادة النظر في قراره على غرار ما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب عندما تراجع عن قراره بسحب كامل القوات الأميركية من سوريا عام 2019.
وبعد تقويم لأجهزة الإستخبارات الأميركية تضمن تحذيراً من الإنسحاب الكامل وتشكيكاً بمدى قدرة حكومة أشرف غني المدعومة من واشنطن على الصمود، شكّك قائد القيادة المركزية التي تشرف على العمليات في أفغانستان الجنرال جون ماكينزي في جلسة استماع أمام الكونغرس قبل أيام، في امكان صمود الجيش الأفغاني الذي تسلّحه وتدربه أميركا منذ 20 عاماً، على الصمود في مواجهة “طالبان”.
هناك من يرسم سيناريوهات أسوأ، على منوال أن “الإمارة الإسلامية” التي ستقيمها “طالبان” مجدداً في أفغانستان، قد تعود لتشكل ملاذاً آمناً لتنظيم “القاعدة” وربما لـ”داعش” وتنظيمات جهادية أخرى، إلا أن ثمة من يقلّل من هذا الإحتمال بالإستناد إلى تكهن بأن “طالبان” بنسختها الجديدة قد تحاول النحو منحى الإعتدال
تحذيرات السياسيين والعسكريين المعارضين للإنسحاب، مبنية على حجج عدة بينها تجربة الإنسحاب من العراق عام 2011، وكيف كان ذلك سبباً لصعود تنظيم “داعش” وسيطرته على مساحات من العراق وسوريا أكبر من مساحة بريطانيا وإعلانه “خلافة” جذبت متشددين من أنحاء العالم، مما إضطر الولايات المتحدة للعودة وبناء إئتلاف دولي لمحاربة التنظيم.
وفي أفغانستان، لا شيء يمنع تكرار التجربة العراقية. فحركة “طالبان” تسيطر على مساحات واسعة من البلاد اليوم، وفي غياب القوات الأميركية والأطلسية، بات السؤال كم من الوقت يمكن أن تصمد حكومة كابول إذا ما قررت الحركة الزحف على العاصمة والإستئثار بالسلطة كاملة، وليس الإكتفاء بالمشاركة فيها، وفق ما جاء في اتفاق واشنطن مع الحركة العام الماضي.
وهذا الأمر يستدعي مقارنة بالمدة التي صمدت فيها الحكومة التي تركها السوفيات وراءهم في كابول بعد انسحابهم عام 1989. لم يتجاوز الأمر الأعوام الثلاثة، لكن “طالبان” هي اليوم أقوى بكثير من الفصائل الأفغانية التي كانت تدعمها أميركا وقتذاك في مواجهة حكومة موالية لموسكو.
ولحل هذه المعضلة، يحاول بايدن مع البنتاغون التحسب لمثل هذا الإحتمال، عبر نشر قوات أميركية في دول مجاورة لأفغانستان تتدخل عند الضرورة. وهذا بدوره يعني تورطاً أميركياً جديداً على الأرض، لأن الدعم من الجو لن يكون قادراً وحده على حماية كابول. وحتى لو تمكنت القوات الأميركية من حماية كابول، ماذا عن بقية المناطق؟
دواعي القلق عند معارضي الإنسحاب لا تتوقف عند هذا الحد. إذ أنهم يحذّرون من امتداد النفوذ الإيراني مجدداً إلى مناطق أتنية الهزارة، في حين أن روسيا تنسج علاقات مع “طالبان” آخذة في الإعتبار كل الإحتمالات المستقبلية. وطبعاً الصين ليست بمنأى عن خريطة ما بعد الإنسحاب الأميركي. علاوة على ذلك، تبدو باكستان الرابح الأكبر، لأن عودة “طالبان” ستعزّز من قبضتها على أفغانستان، بما يعنيه ذلك من توازن استراتيجي جديد مع منافستها الهند.
يُحكى أن حملة جرّدتها بريطانيا من الهند قوامها 17 ألف جندي لقمع التمرد الأفغاني عام 1842، عاد منها رجل واحد ليحكي عن المصير الذي لاقته الحملة
وهناك من يرسم سيناريوهات أسوأ، على منوال أن “الإمارة الإسلامية” التي ستقيمها “طالبان” مجدداً في أفغانستان، قد تعود لتشكل ملاذاً آمناً لتنظيم “القاعدة” وربما لـ”داعش” وتنظيمات جهادية أخرى، إلا أن ثمة من يقلّل من هذا الإحتمال بالإستناد إلى تكهن بأن “طالبان” بنسختها الجديدة قد تحاول النحو منحى الإعتدال ومحاولة عدم إستفزاز دول الجوار أو أميركا إذا ما عادت إلى الحكم.
أما دعاة الإنسحاب، فإنهم يؤثرون المخاطرة بكل ذلك أمام حقيقة أن الإنتصار في أفغانستان مستحيل، والبقاء هناك لن يعني سوى إنهاك أميركا في “حروب لا تنتهي”، لا سيما أنه لا يوجد مثال مشجع. فقد أنهكت أفغانستان الإتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، وأنهكت الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. يُحكى أن حملة جرّدتها بريطانيا من الهند قوامها 17 ألف جندي لقمع التمرد الأفغاني عام 1842، عاد منها رجل واحد ليحكي عن المصير الذي لاقته الحملة.
في مواجهة حقيقة الأمور في أفغانستان، يبدو الإنسحاب، أهون الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الولايات المتحدة على عكس الإصرار على الغوص أكثر في المستنقع الأفغاني. وتالياً ضعُف معسكر القائلين بمعادلة “لنقاتلهم هناك أفضل من أن نقاتلهم فوق الأراضي الأميركية”.
وعلى هؤلاء يرد وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في معرض دفاعه عن قرار الإنسحاب. يقول إنه لا يمكن أميركا أن تبقى تنظر إلى العالم، كما كانت تنظر إليه قبل 20 عاماً.
ولا شك أن الإنسحاب والتداعيات الجيوسياسية التي ستترتب عليه، هي ثمن طبيعي لمغامرتين مدمرتين قادتهما أميركا في أفغانستان والعراق.
فضلاً عن ذلك، حان أوان أن تشعر أميركا بالتعب.