بدا واضحاً للجميع أنّ البلاد ستكون أمام معركة توزيع خسائر في المرحلة القادمة، مع إستنفاذ النموذج الإقتصادي القائم قدرته على الصمود والبقاء، ولعل المعني الأوّل بهذه المعركة سيكون بلا شك القطاع المصرفي الذي لطالما إرتبط نموّه وأرباحه بتضخّم الدين العام. وعمليّاً، سيكون القطاع أمام أسئلة كبرى ستعيد تحديد حجمه وتركيبته ودوره في إطار المنظومة الإقتصاديّة اللبنانيّة، وسترتبط الإجابات عن هذه الأسئلة بالمعالجات التي ستتم سواءً من ناحية الإلتزامات المترتبة على الدولة، أو من ناحية أزمة السيولة التي يواجهها القطاع والنظام المالي بأسره منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019.
لم يتوانَ رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب نفسه عن إعطاء الإشارات الكفيلة بتأكيد ذلك، وذلك في سياق كلمته التي أعلن فيها قرار تعليق سداد سندات اليوروبوند. دياب، وبعد حديثه عن تضخّم الدين العام، أشار إلى تضخّم القطاع المصرفي بالتوازي مع ذلك، مقارنةً بحجم الإقتصاد المحلّي، وشدد، بكلمات أوضح، على ضرورة إعادة هيكلة القطاع في المرحلة المقبلة.
وقبل الموقف الذي أطلقه رئيس الحكومة اللبنانية، وبعده، يجري الحديث عن خيارات قيد التداول بين صنّاع القرار في الحكومة والقوى السياسيّة الداعمة لها وبعض الخبراء المحليين والدوليين، ترتبط جميعها بسيناريوهات محتملة للتعامل مع الدين الداخلي، بما فيها أفكار يمكن أن تطال الودائع الكبيرة وهيكليّة القطاع المصرفي.
وبمعزل عن الخطط الحكوميّة، يدرك القيّمون على القطاع المصرفي أنّه وبمعزل عن الخطط الحكوميّة المقبلة، ثمّة ما يكفي من ضغوط ماليّة خارجيّة مقبلة جراء التدهور الحتمي للتصنيف الإئتماني للبنان والقطاع المصرفي، وهو ما سيزيد من تعقيد المشهد النقدي والمالي في لبنان.
ببساطة إذاً، هناك الكثير من العوامل التي أدّت إلى إندفاع القطاع المصرفي إلى البحث باكراً عن أدوات المواجهة المقبلة، بحثاً عن السبل الممكنة لحماية مصالحه قدر الإمكان، أو على الأقل الحد من الخسائر الممكنة. فالقطاع يهمّه أوّلاً ان ينال غطاءً قضائياً وقانونياً في المرحلة القادمة لكل إجراءاته المتخذة بعد تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، وبالأخص تلك التي تُعنى بضبط السيولة، للحؤول دون إستعمال هذه الثغرة تحديداً للضغط عليه من خلال أية إجراءات قانونيّة ممكنة.
والجدير بالذكر أن إبقاء هذه النافذة مفتوحة (السيولة)، يعني ببساطة وجود مجال للتصويب على ملاءة المصارف وقدرتها على السداد للمودعين، في أي تجاذب محتمل مع أطراف داخليّة أو خارجيّة. ومن ناحية أخرى، يبدو أن المصارف تندفع لتسهيل كل ما من شأنه إرباك أية عمليّة إقتصاص تصاعديّة منظّمة من الودائع الكبيرة، في سبيل التعامل مع الدين العام الداخلي، خصوصاً أن المصارف تعتبر هذا النوع من الإجراءات يمس بمصداقيّة القطاع على المدى الطويل.
المصارف إعتبرت أنّ المطلوب هو البحث عن غطاء قضائي يقفل باب الضغط عليها من زاوية طريقة تطبيق إجراءات ضبط السيولة، والتهم التي يتم توجيهها إليها بالإستنسابيّة في تطبيق هذه الإجراءات
البحث عن الغطاء القضائي
خلال الأسبوع الماضي، قرر النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسّان عويدات تجميد قرار المدعي العام المالي علي إبراهيم، الذي قضى بوضع إشارات منع تصرّف على أصول عشرين مصرفاً لبنانيّاً. مع العلم أن القرار جاء على خلفيّة تحقيقات المدعي العام المالي مع المصارف اللبنانيّة في ما يتعلّق بالتحويلات التي جرت خلال فترة إقفال المصارف في الفصل الأخير من العام 2019 والإستنسابيّة في تطبيق ضوابط السيولة، وعمليّات بيع سندات اليوروبوند التي تملكها لمصلحة الدائنين الأجانب. وقد جرى تجميد القرار فعليّاً من قبل عويدات بعد عمليّة تهويل كبيرة قامت بها بعض ماكينة سياسية ـ مصرفية ـ إعلامية حذّرت من أن يؤدي القرار إلى المساس بحقوق المودعين وبطبيعة النظام الإقتصادي اللبناني الحر و”أيقونته” المصرفية!.
في الواقع، لم يرتبط هذا القرار بأي شكل بالودائع المصرفيّة، والتي تُعد عمليّاً إلتزامات من ناحية المطلوبات في الميزانيّات المصرفيّة وليست أصولا في خانة الموجودات. كما أن قرار القاضي إبراهيم لم ينص على مصادرة أية موجودات أو على منع لإستعمالها، بل نص تحديداً على منع التصرّف، وهو ما يعني قانونيّاً منع أية عمليّات يمكن أن تؤثّر على هويّة مالكي هذه الأصول. ولعل نقطة الضعف الوحيدة الفعليّة في قرار النائب العام المالي عدم إستثنائه بشكل صريح للأصول والحسابات الماليّة التي تحتاج المصارف التصرّف بها عادةً لمتابعة أعمالها التقليديّة، برغم أن القاضي علي إبراهيم أوضح لاحقاً أن قراره لم يشمل عمليّاً “أي شيء من الأموال”.
في كل الحالات، سرعان ما ربطت المصارف من جهتها بين قرار إبراهيم وبين التجاذبات التي كانت تدور خلال تلك الأيام بين مختلف الأقطاب حول الخيارات المتاحة تجاه إستحقاق سندات اليوروبوند، وجرى التركيز على كون القرار وسيلة للضغط على المصارف للقبول بخيارات معيّنة في ما يخص هذا الإستحقاق. وهكذا، يبدو أنّ المصارف إعتبرت أنّ المطلوب هو البحث عن غطاء قضائي يقفل باب الضغط عليها من زاوية طريقة تطبيق إجراءات ضبط السيولة، والتهم التي يتم توجيهها إليها بالإستنسابيّة في تطبيق هذه الإجراءات. أما الأهم بالنسبة إليها، فهو قطع الطريق على ما تعتبره “تحريكاً قضائياً” لهذه القضاياً من قبل أطراف سياسيّة معينة، لحشرها في سياق التفاوض على قضايا أخرى في الشأنين المالي والنقدي، خصوصاً أن المصارف تتحضّر لتحديات ومواجهات ستكون أقسى وأصعب في مرحلة ما بعد التخلّف عن سداد الديون السياديّة.
اللقاء القضائي ـ المصرفي: سد ثغرات حالية
من هذه الزاوية، يمكن فهم اللقاء الذي جرى برعاية القاضي عويدات، بحضور ممثلين عن المصارف والقاضي إبراهيم، والذي نتج عنه إقرار مجموعة من القواعد التي ترعى علاقة المصارف مع مودعيها. وقبل الدخول في مضمون هذه القواعد، كان هذا اللقاء في الشكل محل إستغراب الكثير من المحللين، خصوصاً أن مهام النائب العام لدى محكمة التمييز (عويدات) لا تشمل إستحداث قواعد ترعى علاقة القطاع المصرفي مع المودعين، فإقرار هذا النوع من القواعد – وبالإستناد إلى المراسيم والقوانين القائمة ــ من المفترض أن يكون من مهام مصرف لبنان المركزي بحسب قانون النقد والتسليف، فيما يتطلّب أي خروج عن قانون النقد والتسليف تشريعاً خاصاً من مجلس النوّاب.
حاكم مصرف لبنان إبتعد منذ البداية عن تحمّل أي مسؤوليّة مباشرة في ما يخص الإجراءات المصرفيّة المتخذة منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، برغم أن قانون النقد والتسليف ينص على تحمّله هذه المسؤوليّة
لكنّ وبحسب كل المعطيات المتوفّرة، جاء اللقاء ليسد ثغرة قانونيّة وتنظيميّة أساسيّة لدى القطاع المصرفي. فحاكم مصرف لبنان إبتعد منذ البداية عن تحمّل أي مسؤوليّة مباشرة في ما يخص الإجراءات المصرفيّة المتخذة منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، برغم أن قانون النقد والتسليف ينص على تحمّله هذه المسؤوليّة، بينما إشترط الحاكم ريتض سلامة وجود نص تشريعي يمنحه صلاحيّات إستثنائيّة قبل التدخّل في هذه المسألة. وهكذا، جاء اللقاء مع عويدات ليمنح المصارف غطاءً قضائياً مؤقّتاً خلال الفترة المقبلة، وليمنع أي محاولة للضغط على المصارف من باب علاقتها مع مودعيها في المحاكم.
عمليّاً، جاءت قواعد اللقاء لتشرّع جميع الإجراءات التي تقوم المصارف بتطبيقها في الوقت الراهن، من دون تعديل جوهري أو إضافة في هامش الحقوق التي يتمتّع بها المودعون. فإمكانية سحب الودائع والرواتب بالليرة اللبنانية موجودة أساساً بضوابط غير مشددة وبسقوف مرتفعة نسبيّاً (25 مليون ليرة شهريّاً بالنسبة للودائع مثلاً)، لا بل تشجّع عليها المصارف، إذا كان المطلوب سحب الرواتب أو الودائع المقوّمة بالدولار لكن بالليرة اللبنانيّة، إذ أن ذلك يعني عمليّاً تخلّي المودع عن دولاراته وفق سعر الصرف الرسمي المنخفض. أمّا القواعد الأخرى مثل حريّة التصرّف بالأموال الجديدة Fresh Money ودفع كلفة التعليم والأقساط في الخارج وعدم تحويل الودائع المقوّمة بالدولار إلى الليرة اللبنانيّة فهي قواعد متبعة حاليّاً ولم يوفّر اللقاء أي جديد فيها.
أمّا الأهم هنا، فهو عدم تطرّق اللقاء إلى إمكانيّة السحب النقدي بالدولار الأميركي، وعدم وجود أي إتفاق على السقوف المتعلّقة بذلك. عمليّاً، يشير ذلك إلى ما يتم تداوله على نطاق واسع من إتجاه المصارف إلى وقف السحب النقدي بالدولار الأميركي كليّاً، في الأسابيع المقبلة، خصوصاً مع تضاؤل حجم حساباتها لدى المصارف المراسلة، والضغوط التمويليّة المتوقّعة عليها بعد دخول لبنان في مرحلة التخلّف عن سداد الديون رسميّاً. مع العلم أن حاكم مصرف لبنان مهّد لذلك من خلال فتوى قانونيّة أعلنها سابقاً، حين إعتبر أن المصارف ملزمة بسداد قيمة الودائع لديها بالليرة اللبنانيّة، وليس بالدولار الأميركي، فيما أعتبر أن إمكانيّة السحب النقدي بالدولار خدمة إضافيّة تقدّمها المصارف.
البحث عن غطاء قانوني
إذا كان البحث عن غطاء قضائي كافياً للمدى القصير، فالمصارف ستنتظر وبفارغ الصبر الغطاء القانوني اللازم على المدى الأطول. وهذا ما سيحققه عمليّاً مشروع القانون المرتقب الذي يُعنى بتنظيم إجراءات ضبط السيولة، والذي من المفترض أن تحيله الحكومة إلى المجلس النيابي لإقراره، على أن يقوم مصرف لبنان فوراً بإصدار التعاميم الضروريّة لتنظيم تطبيق القانون بعد إقراره في المجلس النيابي.
المصارف مدينة بما يقارب ال163.76 مليار دولار للمودعين، وفقاً لأرقام ميزانيّاتها، في نهاية العام 2019. أمّا من ناحية الموجودات، فالمصارف إستثمرت ما يقارب 70% من موجوداتها في أدوات الدين السيادي
وإذا قرأنا آخر المسودّات التي تم تداولها لمشروع القانون المذكور، والتي من الممكن أن تخضع لمزيد من التعديلات من قبل وزير الماليّة غازي وزني قبل إحالتها إلى مجلس الوزراء، يتبيّن أن المطروح حاليّاً لا يختلف عن القواعد التي تقوم المصارف حاليّاً بتطبيقها على المودعين. فمشروع القانون ينص – تماما كما جاء في القواعد التي أقرّها إجتماع عويدات ــ على حريّة التصرّف بالأموال الجديدة، وحريّة تداول الأموال ضمن النظام المصرفي اللبناني، ويحدد سقف السحب النقدي بالليرة عند مستوى 25 مليون ليرة لبنانية شهريّاً. أما ما جرى تداوله من زيادة لسقف السحب بالدولار لغاية 50 ألف دولار سنويّاً، فيخص عمليّات التحويل إلى الخارج للغايات الشخصيّة الملحّة، كما هو متبع حالياً. بمعنى آخر، فمشروع القانون سيساهم إلى حد ما في فرض ضوابط موحدة على جميع المودعين، لكنّه لن يقدّم أي جديد على مستوى هامش الحقوق التي سيتمتّع بها المودعون في الفترة المقبلة. أما النقطة الأهم، فهي عدم تضمّن مشروع القانون أي بند يخص السحوبات النقديّة بالدولار، شأنه شأن القواعد التي صدرت عن الإجتماع القضائي ــ المصرفي.
في إنتظار إعادة الهيكلة
لن ينتج عن كل هذه المساعي، للحصول على غطاء قضائي وقانوني للإجراءات المصرفي، إلّا بعض التنظيم المقونن لعلاقة المصارف مع المودعين. لكنّ هذا التنظيم لن يعالج المسألة الأهم، والتي سيكون على المصارف التعامل معها مستقبلاً. فالمصارف مدينة بما يقارب ال163.76 مليار دولار للمودعين، وفقاً لأرقام ميزانيّاتها، في نهاية العام 2019. أمّا من ناحية الموجودات، فالمصارف إستثمرت ما يقارب 70% من موجوداتها في أدوات الدين السيادي، سواء مباشرةً عبر شراء سندات الخزينة، أو بشكل غير مباشر من خلال التوظيف لدى مصرف لبنان. هذه النسبة من الإنكشاف على الدين السيادي، هي تحديداً الفجوة في الميزانيّات المصرفيّة، والتي ستحدد إعادة هيكلة القطاع كيفيّة معالجتها. بإختصار، ثمّة من ينبغي أن يتحمّل بعض الخسائر في هذه العمليّة.
المصارف بدأت تدرك هذا الأمر، ولذلك فهي بدأت منذ فترة بالتساهل مع عمليّات فتح حسابات جديدة بالدولار، للسماح للمودعين بتوزيع ودائعهم على حسابات مختلفة، من أجل الهروب من أي عمليّة “قص شعر” ستطال الودائع الكبيرة. هذا النوع من الممارسات، هو تحديداً ما سيربك أي إجراءات عادلة محتملة لمعالجة الفجوة في ميزانيّات القطاع المصرفي، مع العلم أنّ المصارف تملك غايتها من هذه الأمر، فهي لطالما إعتبرت أن أي “مس بالودائع” سيعني تضرر مصداقيّتها في المستقبل.
من المؤكّد أن المرحلة القادمة ستكون حافلة بالمناورات الإستباقيّة من قبل أصحاب النفوذ في القطاع المالي، وهذه ستشكل سمة أساسيّة لمعارك توزيع الخسائر التي تلي عادةً الإنهيارات الإقتصاديّة والماليّة الكبرى. وخلال هذه المرحلة الحسّاسة تحديداً، سيكون على اللبنانيّين تتبّع الخطط الحكوميّة وطريقة تفاعل المصارف معها، فهذه التطوّرات هي تحديداً ما سيحدد مصير ودائعهم في المصارف، والكلفة التي ستتحمّلها الدولة في سياق الخروج من الإنهيار الحالي.