في 13 آذار/مارس الماضي، صُدِم المشاهدون المتسمِّرون أمام شاشات التلفزة، من دعوةٍ إعلاميّة صريحة ومباشرة توجّه بها رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون إلى العائلات البريطانيّة، كي تتهيَّأ نفسيّاً لفقدان أحبّائها عندما يصابون بفيروس “كوفيد -19”! بوريس (كما باتوا ينادونه تجاوباً مع شعبويّته على الطريقة الترامبيّة) حَلَم، طفلاً، بتزعُّم العالم، وطُرِد، شاباً، من صحيفة “التايمز” بسبب فبركته للتصريحات، وفشِل، حاكماً، في صوْغ تصريحٍ مقتضب، ولو من آمالٍ كاذبة بالنجاة، يمكن أن يساعد شعبه في مواجهة المحنة.
قد يُعتَبَر بوريس جونسون الأجرأ بين زملائه، شرقاً وغرباً، كونه أعلن جهاراً فشله المدوّي (بفضل شعبويّته إيّاها ربّما)، في امتحان قيادة سفينة المملكة المتّحدة في بحر الجائحة الهائج. بينما تصارع الآخرون، بشبه صمتٍ مطبق، مع الأمواج العاتية، فعرّت ما كان مستوراً لدى هؤلاء الزعماء، الأقوياء منهم قبل المغلوب عليهم، من ضحالةٍ وهُزال وغيابٍ لكلّ قدرةٍ عندهم ليكونوا ربابنة ناجحين. ففي هذه الساعات المفصليّة التي يعيشها سكان كوكب الأرض، أيقنت شعوب العالم حجم افتقادها لهامات قادة كأولئك الذين لعبوا، في ما مضى، أدواراً عظيمة، وقادوا تحوّلات عميقة الفعل والأثر في مجتمعاتهم، وامتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما يكفي للانتقال من واقعٍ إلى واقع. ماذا تعني القيادة؟
حظي موضوع القيادة باهتمام الباحثين في معظم العلوم الإنسانيّة؛ فقليلون هم الفلاسفة الذين لم يعرّجوا على مفهوم القيادة (على أنواعها)، بدءًا من كونفوشيوس الفيلسوف الصيني الذي أسّس في القرن السادس قبل الميلاد لنظريّات التفاعل الاجتماعي، وصولاً إلى برتراند راسل الفيلسوف الإنكليزي الذي اعتُبِر أحد أهمّ علماء المنطق في القرن العشرين.
واهتمّ علماء الاجتماع، أيضاً، بـ”القيادة” باعتبارها ظاهرة اجتماعيّة وعاملاً من عوامل تماسك الجماعة وتضامنها وتنظيمها، ورأى إليها علماء النفس الاجتماعيّون كمحورٍ أساسي من محاور ديناميّات الجماعة.
أمّا علم السياسة، فأولى القيادة أولويّة عندما ركّز على دورها في النظم السياسيّة وعلى أهميّة القائد في صناعة القرار السياسي للدول وفي تسيير الشؤون العامّة وإدارة المؤسّسات. غير أنّ ظاهرة القيادة لم تُدرَس على أسسٍ علميّة ومنهجيّة إلّا في بداية القرن التاسع عشر، حيث اجتهد العلماء، على اختلاف اختصاصاتهم، في تفنيد أنواع القيادة ورسم شروطها والسمات المطلوب توفّرها في شخص القائد الناجح، ولا سيّما في سلوكه الاجتماعي (الإنساني) في أوقات الكوارث والنوائب.
ثار بركان الكورونا في ساعة غفلة، فوقفت الكرة الأرضيّة على “قدمٍ واحدة” وهُرع زعماؤها ليطفئوا الحِمم بسطول المياه، سائلين مرعوبين: من أين نبدأ بإخماد الحريق؟ المشهد سوريالي. فلم يكن ينقص عالمنا المثخن بالتحدّيات، إلاّ هذه الكورونا كي تُرينا، في استعراضٍ مريب، كيف يقف ولاة أمر البشريّة حيارى مطأطئي الرأس في زمن الأسئلة الصعبة والمصيريّة.
فعجزْهم الموصوف أمام الجائحة، أثبت أنّ “المسألة المفتاحيّة” الواجب التساؤل بشأنها، من الآن فصاعداً، ليس الأسباب التي أدّت إلى ظهور الفيروس وتفشّيه، بل لماذا خارت في “ساعةٍ سمّاعة” إمكانيات دول العالم المتطوّرة، ولماذا توارت مقولة دور الأفراد (القادة) في زمن الأزمات؟ سؤالٌ ثانٍ. في عصر العولمة والمعلومات، لماذا فاجأت الكورونا القيادات “الجبّارة” التي تروِّع أساطيلها وحاملات طائراتها وأقمارها الصناعيّة شعوب المعمورة، بخاصّة أنّ أكثر من دراسةٍ علميّة كانت أكدت منذ سنوات أنّ ما حصل كان متوقَّعاً ومنتَظَراً؟ سؤالٌ ثالث. هل نحن أمام أزمة قيادة، أم أزمة قادة، أم الأزمتيْن معاً؟
في دولنا النامية (لتخفيف وطأة نعتها بالمتخلّفة)، حيث تُغيَّب كلمة الشعوب ويتحكّم العامل الخارجي في قرار الحكم في شتّى الأقطار، فالقادة يأتون إمّا بانقلاباتٍ عسكريّة أو بالتناسل من رحم بعض الأُسر والعائلات المالكة والحاكمة
من الصعب على المرء، وأينما وُجِد في هذه الدنيا الموبوءة، ألّا يلاحظ أنّ مجال السياسة، بعامّة، قد أصبح خلال السنوات الثلاثين الماضية أقلّ مهارةً وتحضّراً ودماثةً، وأنّ “معسكر” القادة، بعامّة أيضاً، قد صار أقلّ بأساً وكفاءةً و…أخلاقاً. فلنحاول تسجيل بعض النقاط:
أولاً، ولّى زمن القيادات الحكيمة وجاء زمن أباطرة المال، فباتوا، هم وحدهم، العقول المدبّرة والمقرّرة والموجّهة في الدول والمجتمعات التي اعتنقت “مذهب” سياسات الليبراليّة الحديثة، وتركّزت السلطة لدى حفنةٍ من الأيدي، تجاهلت (وتتجاهل) العمليّة الديمقراطيّة الفاعلة. صحيحٌ أنّ الناس تختار وتنتخب المرشّحين بملء إرادتها، لكنّ المشكلة تكمن في مكانٍ آخر؛ توجد تحديداً، في آليات “صناعة” هؤلاء المرشحين، بعدما أمست هذه الصناعة مضبوطة على إيقاع ثنائيّة “رأس المال – الإعلام (الخاص)”، والتي باتت تمثّل اللاعب الأساسي في تقديم، هذا المرشح أو ذاك، كمنقذٍ وحيد للأمّة من ضلالها وضياعها.
في دول “الغرب الليبرالي”، ومَن يدور في فلكها من بلدان العالميْن الثاني والثالث، أُعطي زمام الأمور، في الإدارة والقرار، لـ”أسياد البشريّة” (بحسب تعبير آدم سميث أبرز روّاد الليبراليّة)، والمقصود بهم، حالياً، كبار رجال الأعمال وتجّار العقارات وأصحاب المعامل والمصانع والتكتّلات والشركات المتعدّدة الجنسيات والمؤسّسات الماليّة الضخمة. أمّا في دولنا النامية (لتخفيف وطأة نعتها بالمتخلّفة)، حيث تُغيَّب كلمة الشعوب ويتحكّم العامل الخارجي في قرار الحكم في شتّى الأقطار، فالقادة يأتون إمّا بانقلاباتٍ عسكريّة أو بالتناسل من رحم بعض الأُسر والعائلات المالكة والحاكمة. عدا ذلك، تحكم أنظمة جمهوريّة في بعض الدول، وتتشكّل من خلال انتخابات “شعبيّة” للرؤساء، أو استفتاءات تقترب نتيجتها، غالباً، من المئة بالمئة من أصوات المواطنين، ولا تُسجَّل فيها، لحسن الطالع، أيّ طعون أو مخالفات دستوريّة أو خروقات قانونيّة، ولا حتى حوادث عنف وإكراه.
ثانياً، معلومٌ أنّ مواكب التاريخ كانت تتقدّمها دولٌ وتتأخّر فيها دول، وبين حقبة وأخرى تتبدّل فيها المواقع، ولكن، في كلّ الحقبات والمواقع، كانت تبرز أسماء قادة لامعين ومؤثّرين في حركة التاريخ التي هي، في جوهرها، توثيق لحركاتٍ سياسيّة واجتماعيّة. وعندما نقول “قادة لامعون”، نكون نعني بهم، أشخاصاً وصلوا إلى سدّة الحكم لكونهم يتمتّعون بسماتٍ حميدة ومميّزة ومحدّدة، تبدأ بالثقة بالنفس واتّزان الشخصيّة والذكاء والطموح، ولا تنتهي بالمرونة والشجاعة والابتكار واللباقة والصحّة النفسيّة و…الكاريزما.
لقد تعمّمت النظريّة المروِّجة لشعار “كلّ شيء ممكنٌ في السياسة”، ولا مكان، بالتالي، للأخلاق والطهرانيّة، بل من واجب كلّ مَن يلج بوابة “جنّة الحكم” أن يركن ضميره، جانباً
وفي استعراضنا للائحة السمات المطلوبة لشخصيّة القائد (خمس عشرة سمة أساسيّة بحسب علماء الاجتماع والسياسة)، لاحظنا أنّه لا يؤتى على أيّ ذكرٍ لسمة “القوة”، كشرطٍ ضروري أو كافٍ للزعامة والقيادة. فلنتوقف لحظة هنا. هناك اتفاق واسع وشبه مطلق في كلّ الأنظمة (الديموقراطيّة والثوريّة والسلطويّة والشموليّة)، على حَمْد الزعيم القوي الذي يعني، بصفةٍ عامّة، القائد الذي يجمع قدْراً ضخماً من السلطة في يده، ويسيطر على مساحة كبيرة من السياسة العامّة والحزب السياسي الذي ينتمي إليه. وهذا معناه، أنّه كلّما زادت سلطة الزعيم الفرد يجب أن يزيد انبهارنا به “وهذا محض وَهْم”، كما يستنتج الكاتب الإنكليزي آرشي براون في مؤلّفه المرجعي “خرافة الزعيم القوي” (صادر عام 2014). إذْ يعتبر براون، أنّ ثنائيّة “الضعف والقوة” إنّما هي مسألة سطحيّة وأسلوبٌ عاجز عن تقييم الزعماء؛ لأنّ هناك سماتٍ أخرى مطلوبة (بشدّة) في شخص القائد السياسي أهمّ بكثير من “القوة”، التي هي المعيار المفضَّل استخدامه، كما يقول، للحُكم على رافعي الأثقال أو عدّائي المسافات الطويلة. ثالثاً، انقلب النظام القيمي للحكم والقيادة والزعامة في عالمنا المعاصر، فارتفعت قيمٌ وتراجعت أخرى، ودائماً وفق إعمالٍ، حصْري، لمعياريْ الربح والخسارة في تقييم كلّ نشاط مطلوب القيام به من قِبَل الناس بعامّة، والقادة بخاصّة. فلقد تعمّمت النظريّة المروِّجة لشعار “كلّ شيء ممكنٌ في السياسة”، ولا مكان، بالتالي، للأخلاق والطهرانيّة، بل من واجب كلّ مَن يلج بوابة “جنّة الحكم” أن يركن ضميره، جانباً. المنادون بهذه الفلسفة للقيادة والحكم، إنّما يتذرّعون، عن فهْمٍ أو غير فهْم، بالمقولة المكيافيليّة الشهيرة “الغاية تبرّر الوسيلة”، والتي تحوّلت، في ما بعد، إلى عصب دراسات العلم السياسي.
لقد اتّخذ السياسيّون والقادة تلك الكلمات الثلاث، دستوراً للتفنّن في النفعيّة السياسيّة، والأسوأ أنّهم اعتمدوها دليلاً لابتداع أساليب في التضليل والمكر والكذب والقمع وعدم الرحمة، سواءٌ في مواجهة الخصوم، أو لضمان الإبقاء على سلطتهم واستمراريّتهم وتحقيق مصالحهم ومصالح مَن يمثّلون. يؤكدّ معظم حكّام هذا العصر، مرةً واثنتيْن وثلاث، على أنّ السياسة ليست غايتها الأخلاق، بل النجاح، متوسّلين “النظريّة المكيافيليّة” (المجتزأة)، للمضي قُدماً في الانحدار الأخلاقي، ما يُعتَبَر انتهاكاً فادحاً وإهانةً كبيرة، ربّما، بحقّ مكيافيلي الذي لا بدّ وأنّه يتقلّب في قبره الآن.
كلمة أخيرة. في كتابه “القيادة الفاضلة”، يقول الكاتب الفرنسي ألكسندر هافارد: “ليست القيادة موضوع أسلوب أو طبع يخلق مع الإنسان. إنّها شيءٌ أعمق من ذلك بكثير. فجوهر القيادة هو الخُلْق، ونحن نكتسب الفضائل بجهودنا. والجهد الذي نبذله لاكتسابها، إنّما هو عمل قيادة. باختصار، يصير الإنسان قائداً كما يصير فاضلاً”.
إقتضى التمنّي بأن يُوَلّى علينا قادة فاضلون.