لا شيء في لبنان إلا وغلافه طائفي بإمتياز. نبشت كل القوى خرائطها ومخاوفها. الكل ذهب إلى تحصين مناطقه وزواريبه مخافة الجوع الآتي وإحتمال إفلاس الدولة وعجزها حتى عن دفع رواتب موظفيها. ومع كل صباح، لنا أن نكتشف أنفسنا. لكل طائفة رئيسها ووزراؤها ونوابها وجهازها ومكونها. عامر الفاخوري إنقسمنا حول براءته أو عمالته. كورونا قسّمنا. من لحظة إعلان الحالة الأولى، إنبرى خطاب طائفي يحمّل الشيعة وحزب الله وإيران و”طائراتهم” مسؤولية تفشي الوباء. عندما إكتشفنا أن هناك حالة عارضة آتية من روما وأن كورونا تفشى بفرقة من الرهبان، انفجرت شماتة إعلامية معاكسة. عندما قررنا عزل منطقة عن غيرها وحظر التجول فيها، كان الجواب “هيهات منا الذلة”. ليس مسموحا أن يقال أن هذا القضاء المسيحي موبوء أكثر من غيره. طيب فليكن أكثر من قضاء. أبداً. قررنا أن نفتح ملف الإغتراب. نقاش طائفي مقيت حول القارات والدول والجاليات والطائرات ومن ينقل ويستقبل ويأوي ويدفع الكلفة. فلتكن إذاً الصيغة كالآتي: طائرة سنية من الخليج وثانية شيعية من أفريقيا وثالثة مسيحية من أوروبا. كيف ننقلهم وأين ينزل هؤلاء ومن يدفع عنهم؟ كانت الأجوبة طائفية بإمتياز. أطلقت النار على شركة الميدل إيست. دافع مديرها العام عنها. رُجم من “الآخرين” حتى صار في مصاف الأولياء في طائفته. قررت الحكومة أن تبت بسلسلة تعيينات. كل طائفة تسمي موظفيها. ممنوع التعدي على حقوق هذه أو تلك. حتى سعد الحريري فاجأنا من عزلته الباريسية برفضه المس بموظف محسوب على طائفته، وهكذا دواليك. هذه بضعة أمثلة من عمر حكومة نالت ثقة مجلس النواب قبل أقل من شهرين فقط. لو عدنا إلى ما يجري في مجلس الوزراء، لوجدنا وقائع كثيرة أفدح. يُسجل لميشال عون وجبران باسيل أنهما كسرا القاعدة، بتركيزهما على تكسير وتهشيم صورة كل ماروني يمكن أن يعترض سبيل مرشحهما الأوحد لرئاسة الجمهورية، حتى لو كان موظفا مارونياً برتبة قائد للجيش أو حاكم للمصرف المركزي. المهم أن نحمي صورة وحيدة… والباقي تفاصيل. حاولت وزيرة العدل ماري كلود نجم أن تستفيد من وهج الحراك. ردّت التشكيلات القضائية لمجلس القضاء وناشدتهم أن يتجاوزوا الإعتبارات الطائفية فقط، لعلهم بذلك يؤسسون لمقاربة جديدة لا تخل بالأوزان والتوازنات الطائفية. بدا أن النظام اقوى منها بكثير. حاول وزير المال ممارسة صلاحياته بتقديم من يراهم مناسبين للمراكز المالية، لكن النظام أيضاً أقوى منه. كل من يريد أن يغامر ويشمر عن زنوده غير الطائفية أو المذهبية، سيجد هذا النظام الطائفي له بالمرصاد. بعد ذلك، يأتي من يقول لك بأن لبنان بألف خير. لا لبنان ليس حتى بصفر من الخير.
جاء وباء كورونا ليأخذنا أكثر إلى معازلنا. إلى خوفنا. إلى صورتنا. إلى إقتصادنا وإجتماعنا. لم يوحد حتى الإنسان فينا. صرنا كالوحوش والضباع. نراقب عداد الإصابات في منطقتنا وطائفتنا ومذهبنا وعشيرتنا وقريتنا وعائلتنا
لا خير في بلد ليله ونهاره طائفي. جهاته وحدوده طائفية. مدنه وقراه وأقضيته طائفية. حجارته وصخوره وتاريخه. بحره ونهره. نفطه وبلوكاته ومياهه. سهله وجبله وساحله. ما تسمى مؤسساته ووظائفه. أعياده ومدارسه وجامعاته. مستشفياته ومستوصفاته. مطاعمه وفنادقه ومتاجره. طائراته وسياراته. كنائسه وجوامعه وسجونه ومدافنه. طرقاته وجسوره وأنفاقه. حتى الهواء الذي نتنفسه كان وما يزال طائفياً.
جاء وباء كورونا ليأخذنا أكثر إلى معازلنا. إلى خوفنا. إلى صورتنا. إلى إقتصادنا وإجتماعنا. لم يوحد حتى الإنسان فينا. صرنا كالوحوش والضباع. نراقب عداد الإصابات في منطقتنا وطائفتنا ومذهبنا وعشيرتنا وقريتنا وعائلتنا. نراقب غيرنا كيف يأكل ويشرب ويعيش ونحسده على من يقف إلى جانبه من كبار ملته.
حتماً لن يمر كورونا، إلا ويكون قد ولد شيء جديد في العالم. لا أحد يستطيع أن يتنبأ به منذ الآن، لكن العالم الذي عرفناه أو عشناه أو قرأنا عنه، لن يعود. وعندما تتغير معادلات الدول، تتبدل أحوال منطقتنا. هذا هو التاريخ.
لبنان دولة ـ حاجز، يعرفها جورج قرم كالآتي: “دولة واقعة في وسط منطقة مواجهات إستراتيجية بين قوى إقليمية أو دولية، وهذه الدولة الحاجز تتميز بوجود سلطة هشة أو متزعزعة غالباً ما يرافقها تشرذم إجتماعي لا تنجح الدولة في تقليصه، وهذه الطبيعة الهشة للدولة الحاجز تجذب الدول الكبرى التي تجعل من أراضيها مكانَ تواجه مناسباً”.
لأن لبنان كذلك منذ العام 1840، ولأنه بتركيبته الطائفية، ساحة تجاذبات، وهذه المرة بين القطبين السني (السعودي) والشيعي (الإيراني) وإمتداداتهما المحلية وغير المحلية، ولأن المصير اللبناني لا ينفصل تاريخياً عن مصير بلاد الشام، لن يكون سهلاً أن نحاول التعرف على هويته وتوازناته وصيغته. هل علينا أن ننتظر جلاء مشهد العالم ما بعد كورونا، وهل سنكون أمام إعادة صياغة للنظام الدولي الذي تعرفنا عليه منذ إنتهاء الحرب الباردة بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في العام 1991، وهل سيليه ترسيم جديد للنظام الإقليمي؟
ماذا يمنع أن نجد غداً في لبنان من يطالب بأن يعود مردود النفط له، كما هو حال الأكراد في العراق؟ وماذا سيكون نصيب بعض الأقليات التي لا منفذ لها على البحر اللبناني؟ هل المطلوب أن نعود إلى زمن الغزوات؟
يطرح ذلك علينا أسئلة كثيرة. هل الفيدرالية التي خرجت من حسابات البعض لبنانيا مع ولادة اتفاق الطائف في العام 1989، يمكن أن تعود إلى “أجنداتهم” اليوم، بعناوين ومبررات وأسباب موجبة جديدة؟
هل يكون مطلب تنفيذ بنود اتفاق الطائف، وتحديداً بند اللامركزية الإدارية (ونضيف عليه اللامركزية المالية) هو الممر الإلزامي لطروحات كانت حتى الأمس القريب من المحرمات في الأدبيات السياسية اللبنانية؟
هل يمكن لأي نقاش لبناني بالفيدرالية أن يكون معزولاً عما يصاغ لكل من العراق وسوريا؟
لم يعد خافيا أن دولا خليجية طرحت عشية “عاصفة الحزم” وبعدها سيناريوهات تقسيمية لليمن، فإذا كان إمساك هذه المشيخات باليمن كله متعذرا، فليكن بنصفه أو حتى أقل من ذلك. أصل الموضوع أنه ليس مسموحاً بنفوذ مطلق لإيران في يمن موحد ولو كان غير سعيد!
كيف يمكن أن تنشأ أوعية اقتصادية متكاملة إلى جانب الأوعية السياسية الجديدة، ففي العراق، على سبيل المثال لا الحصر، يملك الشيعة ثروة بترولية كبيرة بينما هم لا يملكون المياه الموجودة في القسم الشمالي (السني) الذي يحتوي أهم نهرين وهما دجلة والفرات؟ وكيف يمكن أن تنشأ أوعية جغرافية مقفلة لا إمتداد لها نحو البحار أو المحيطات (وربما حتى الأنهار والسواقي)، وماذا إذا لم تجد بيئة إقليمية حاضنة تعترف بها، كما هو حال الأكراد في العراق. هل يكونون جزيرة معزولة عن محيطهم؟
ماذا يمنع أن نجد غداً في لبنان من يطالب بأن يعود مردود النفط له، كما هو حال الأكراد في العراق؟ وماذا سيكون نصيب بعض الأقليات التي لا منفذ لها على البحر اللبناني؟ هل المطلوب أن نعود إلى زمن الغزوات؟
ماذا يضمن ألا يؤدي التقسيم، إن حصل، إلى هجرات سكانية وتغييرات ديموغرافية بالترافق مع حوادث أمنية كبيرة جدا على غرار ما حصل من نزوح لأكثر من عشرة ملايين على حدود باكستان ـ الهند بعد تقسيم الأخيرة في العام 1947 أو كما حصل في جنوب السودان؟
صنعت لنا “الأمم” كيانا قبل ثمانية عقود من الزمن.. وهي تعيد رسم خرائط المنطقة من جديد اليوم. الخوف كل الخوف أن تأتي لحظة سياسية ما.. ولا تكون الأرضية اللبنانية مهيأة لما يُرسم لنا من سيناريوهات، فيكون لا بد من فرضها علينا بالحديد والنار، حتى لو كانت ارادتنا تشي بغير ذلك.. والتجارب كثيرة عبر العصور.
هذه دعوة إلى فتح نقاش صريح وموضوعي وبارد حول قضية اللامركزية الإدارية. قضية ناقشها اللبنانيون مراراً على مدى سني كيانهم، لا سيما بعد ولادة إتفاق الطائف. لم يخل بيان وزاري من عبارة اللامركزية الإدارية ولم يتجاهل أي بيان حزبي أو تفاهم سياسي هذه “العبارة السحرية”، وعندما وُلدَ “تفاهم معراب”، كان نبيه بري يضع خطاً باللون الأصفر تحت عبارة “اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة”. تنافست المنظمات غير الحكومية والسفارات على تمويل ورشات عمل بالعنوان نفسه، ولو أن الأهداف، أقله، ليست واحدة.
في زمن الكورونا، لا بأس من التفكير. لنقل أننا نريد دولة أكثر مركزية من دولتنا هذه، ولكن لتكن دولة مدنية بالدرجة الأولى، وعندها لنذهب باللامركزية الإدارية، بمعناها التنموي والإجتماعي والإداري، أبعد مما يأمل الداعون إليها.. ولو كان إسمها فيدرالية!