يطرح تهاوي نظام آل الأسد وبالتالي طي حقبة حزب البعث في كل من سوريا والعراق، تساؤلات كثيرة عن دور الأطراف الفاعلة سورياً في الوصول إلى هذه النتيجة السريعة، بدءاً بتركيا وليس انتهاءً بإيران وروسيا و”إسرائيل”، ناهيك بدور الجيش السوري، ليس فقط حيال ما حصل، بل أيضاً حيال الآتي من الأيام.
ما زلنا في خضم حدث زلزالي تاريخي سيترك بصماته على المنطقة لعقود من الزمن، لذا، من الواجب انتظار ما ستؤول إليه الأمور في الآتي من أيام، إلا أن ذلك لا يمنع من محاولة تلمس حقيقة ما حصل من خلال الآتي:
أولاً؛ منذ ما يقارب الثلاث سنوات، غرق الحليف الروسي للنظام السوري في وحول حربه في أوكرانيا، وبالتالي تخلى عن الدور الذي لعبه منذ تسعة أعوام في دعم نظام بشار الأسد عبر سلاح الجو، لأن حربه هناك تستنزف الكثير من اقتصاده وموارده العسكرية والبشرية في مواجهة أمريكا وكل دول حلف الناتو الذين وقفوا بقوة خلف الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وقدّموا له مساعدات وأسلحة فاقت قيمتها مئات مليارات الدولارات.
ثانياً؛ بات الحليف الإيراني الذي كان يكتفي بإرسال الخبراء والمستشارين العسكريين لإدارة حلفاء ايران في الميدان السوري في وضع يصعب معه لعب هذا الدور لا سيما بعد أن أنهك حزب الله في الحرب الضروس التي شنتها “إسرائيل” على لبنان على مدى شهرين وتمكنت خلالها من القضاء على قيادة الحزب العسكرية والسياسية وعلى رأسها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله الذي كان بلا شك القائد السياسي والميداني الأول لمحور المقاومة في المنطقة.
ثالثاً؛ تبين أن قدرات الجيش السوري على المواجهة شبه معدومة بسبب الانهاك المعيشي والإقتصادي الذي عانته وتعاني منه سوريا منذ عام 2011 وازداد تفاقماً مع “قانون قيصر” الأمريكي الذي ضيّق الخناق الإقتصادي على الشعب السوري أكثر وأكثر، وقد بات الراتب الشهري للجندي السوري لا يكفي لاعالة عائلة صغيرة لأكثر من ثلاثة أيام.
رابعاً؛ في المقلب الآخر، تبين أن “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) تميّزت بأداء عسكري ولوجستي وتدريبي كبير يُبين حجم الدعم الذي حصلت عليه طيلة السنوات الماضية من تركيا وبتشجيع من الولايات المتحدة التي تصنف “الهيئة” على لوائح الإرهاب لديها.
ما يجري في سوريا سيترك بصماته على الوضع ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في لبنان الذي أصبح في عين العاصفة السورية كما حصل معه في العام 2014، لذلك فإن المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا اليوم ستكون مرحلة انتظار قاسية لكل من سوريا ولبنان قبل أن يتبلور المشهد السياسي الداخلي السوري بصورة نهائية
وهنا ينبغي السؤال لماذا كل هذا الدعم من واشنطن وحلفائها في المنطقة لقوى مصنفة لديها أنها إرهابية؟
إن حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى) أحدث خللاً في النظام الإقليمي القائم منذ العام 1973، من اختلال وزن الكيان “الإسرائيلي” إلى الوهن الذي أصاب المحور الإيراني طيلة 14 شهراً من المواجهات في المنطقة من غزة إلى إيران مروراً بلبنان والعراق واليمن، إلى انكفاء روسيا إلى أرضها في مواجهة التحدي الأطلسي في أوكرانيا، فكانت الفرصة مؤاتية حتى يتقدم اللاعب التركي لتأدية مهمة مطلوبة أمريكياً وتصب في مصلحة “إسرائيل” ومشروع تغيير وجه الشرق الأوسط، كما قال بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، غداة الحرب الدموية التي شنّها على قطاع غزة وأعقبها بأخرى في الضفة الغربية ترافقت مع توسيع عمليات الاستيطان فيها وتوّجها بحربه على لبنان وصولاً إلى تدمير قدرات الجيش السوري بعد إمساك المعارضة بالسلطة هناك.
من خلال هذه الحروب، استطاع نتنياهو ضرب عصفورين بحجر واحد، فهو واءم بين المشروع الأمريكي لشرق أوسط جديد ومشروع الفاشية الصهيونية الصاعدة في إسرائيل لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”، فكانت النتيجة هي ضرب قدرات المقاومة في كل من فلسطين ولبنان. وبدا جلياً أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أدرك أهمية اللحظة الإقليمية فسارع إلى إطلاق العنان للجماعات المسلحة التي يرعاها على الأرض السورية من أجل شن هجوم على حلب بعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار في لبنان والاندفاع بسرعة نحو المحافظات والمدن السورية الأخرى كي لا يعطي فرصة لحلفاء إيران لالتقاط أنفاسهم من بعد 66 يوماً من المواجهات مع “إسرائيل”.. وبذلك يكون أردوغان أيضاً قد واءم بين مشروعه العثماني الجديد ومشروع أمريكا في قيام شرق أوسط جديد.
كيف حصل كل ذلك ولم تستطع القيادة الإيرانية قراءة المشهد بتفاصيله لا بل انزلقت إلى مواجهة غير متكافئة مع “إسرائيل” ومن خلفها أمريكا وكل دول الغرب؟
لم تكن القيادة الإيرانية على بينة من قرار حركة حماس القاضي بشن عملية “طوفان الأقصى” وبالتالي حُشِرت في معركة لم تكن قد أعدت العدة لها كما يجب، لكنها قرّرت ألا تترك المقاومة الفلسطينية وحيدة في هذه المعركة، فدخلتها وهي تراهن على الحليف الروسي لظنها أنه لن يتركها وحيدة في هذه المواجهة. ولكن مع عمليات الاغتيال التي طالت العديد من ضباط الحرس الثوري في سوريا والتي تُوّجت بالغارة “الإسرائيلية” على القنصلية الإيرانية في دمشق في مارس/آذار الماضي، وفي ظل تقاعس الحليف الروسي عن رد العدوان على الوجود الإيراني في سوريا، تلمست القيادة الإيرانية المأزق الذي وجدت نفسها فيه، فبدأت منذ ذلك الحين تسعى لوقف الحرب بطريقة تحفظ ماء وجهها ووجه حلفائها. لكن سبق السيف العذل، فالمحور الأمريكي الغربي “الإسرائيلي” وجد في التقاعس الروسي فرصة لضرب قدرات إيران ليس فقط في فلسطين وسوريا ولبنان، بل أيضاً في كل المنطقة.
ومع اطمئنان “إسرائيل” إلى أن ظهرها محميٌ من التحالف الأمريكي الغربي دفعت بجيشها في هجوم بري وجوي هو الأكثر دموية بين الحروب الستة التي شنتها “إسرائيل” على لبنان خلال النصف قرن المنصرم، وذلك سعياً منها إلى سحق المقاومة فيه إذا أمكن، وإن تعذر ذلك فعلى الأقل ضرب قدراتها العسكرية والتنظيمية إلى أقصى حد، والأهم محاولة قطع الأوكسيجين عنها من خلال قطع طريق الإمداد من بيروت إلى طهران عبر سوريا والعراق.
اليوم الأول لسيطرة “هيئة تحرير الشام” على دمشق شهد أوسع هجوم “إسرائيلي” جوي وبري على سوريا منذ حرب العام 1973، أدى الهجوم الذي لم يواجه أي مقاومة وفي ظل انسحاب الجيش السوري من مواقعه الى احتلال أكثر من 230 كيلومتراً مربعاً من الأراضي في جنوب سوريا وقصف جوي وتدمير أكثر من 300 هدف استراتيجي في سوريا فيما تولت الولايات المتحدة قصف حوالي 75 هدفاً في اليوم نفسه، وعندما سئل زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الجولاني (أحمد الشرع) عن الغارات الإسرائيلية قال إن سوريا غير جاهزة للحروب ولا تنوي الحرب ومصدر الخطر كان من الميليشيات الإيرانية وحزب الله وقد زال هذا الخطر!.
هذا الجواب وقبله الصمت لأيام عما تفعله إسرائيل في الأراضي السورية يطرح علامات استفهام كبيرة عن التوجه السياسي للقوى التي تُمسك بالسلطة في سوريا وهل تتجه للإنخراط في اتفاقيات ابراهام في ظل مواصلة “إسرائيل” احتلالها لمرتفعات الجولان التي ضمتها في العام 1981؟ وهل تتجه هذه القوى إلى لبنان أم أن الراعي التركي بدفع أمريكي سيحول دونها ودون ذلك؟
حتماً ما يجري في سوريا سيترك بصماته على الوضع ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في لبنان الذي أصبح في عين العاصفة السورية كما حصل معه في العام 2014 عندما تقدمت التنظيمات السلفية والإرهابية إلى جرود البقاع وشماله، لذلك فإن المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا اليوم ستكون مرحلة انتظار قاسية لكل من سوريا ولبنان قبل أن يتبلور المشهد السياسي الداخلي السوري بصورة نهائية.