نُكمل في هذا الجزء حديثنا السّابق عن أنّ البُعد الصّوفي-العرفاني للدّين هو البُعد الأهمّ والأرقى، مركّزين فيما يلي، وبشكل خاص، على مسألة: السّعادة. فكما يشدّد فيلسوف الأديان والطّرق الرّوحيّة المعاصر، الكاتب الفرنسي فريديريك لونوار[1]، إنّ السّعادة الصّوفيّة هي أقرب إلى التذوّق منه إلى التفكّر (بل ذهب الشّيخ الأكبر ابن عربي، إلى أنّ التفكّر لا يعوّل عليه في مسائل كهذه، وكما رأينا في الجزء الأوّل).
إنّ الفكرة الأساسيّة لهذا المقال تقوم على نقاط ثلاثة رئيسيّة. الأولى، وهي أنّ البُعد الصّوفي-العِرفاني (بالفرنسيّة: La Dimension Mystique) - النّظري والعملي - للإسلام وللأديان والمدارس الرّوحيّة كلّها: كان ولم يزل البُعدَ الأهمّ والأرقى لهذه الأديان والمدارس (بما فيها الإسلام طبعاً)، والحجرَ الأساسَ لما تقدّمه للإنسان-الفرد وللبشريّة من أجوبة ومن طُرُق.
فتحت "شطحات" أهل التصّوف في العصر الكلاسيكي الباب واسعاً من أجل معرفة "الخالق" وتفادي عنجهيّة الفكر الديني المتزمّت. لذلك يمكن أن نصف "شطحاتهم" بالأحلام التي يمكن أن تساعد في الهروب من الواقع إلى الكمال، لعلّ الكمال يصبح واقعاً.
التصوّف (على أنواعه) هو من أهمّ وأنجح التيّارات الدينيّة في الإسلام. نجده في كامل الجغرافية التي تمدّد فيها الدين الإسلامي. نما وترعرع، فكراً وممارسةً، داخل وخارج المذاهب التقليديّة (السنّيّة والشيعيّة)، وتبعه معظم المسلمين بين القرنين العاشر والتاسع عشر. لكنّه ضعف في زمن الإستعمار ونفر منه المسلمون في زمننا الحالي طمعاً بالحداثة الغربيّة.
ما رأيناه حتّى الآن يمكن وضعه، في الأعم الأغلب، ضمن نقاش نظريّة المعرفة، أو نقاش الأبستيمولوجيا، وهي فرع من فروع الفلسفة الكبرى يهتمّ بالسؤال الأساسي الذي انطلق منه عمانوئيل كانط: "ماذا يمكنني أن أعرف؟".