السّعادة عندهم مسألة تُعاش بالوعي الكامل (En pleine conscience بتعبير الكتّاب الفرنسيّين المعاصرين)، لا مسألة مفهوم ذهني كما عند أغلب الفلاسفة (حتّى عند الأيبقوريّين والرّواقيّين منهم مثلاً)، ولذلك فمصطلح “الفرح” أفضل بكثير في سبيل وصف حالهم مع السّعادة، على حدّ تعبير السّهروردي المقتول (راجع ما يلي): “لا يطرَبون بغير ذِكر حبيبهمْ – أبداً، فكلُّ زمانهم أفراحُ”. إذن، هو فرحٌ واقعيٌّ ملموسٌ – ويُتذوّقُ – من جهة، ومن جهة أخرى فهو داخليّ وثابت ودائم، تماماً كالعشق الإلهي، لا يحدّهُ حدٌّ وليس مشروطاً بالشّروط الخارجيّة والنّفسيّة. فالسّعادة التي تتولّد من خلال القرب من الحقّ (أي الله جلّ وعلا) لا يمكن إلّا أن تتّصف بالصّفات تلك: الواقعيّة، الثّبات، الدّوام، اللّا-تناهي واللّا-شرطيّة.
“لونُ الماء من لونِ الإناء”!
لم يكن إمام العارفين أبو القاسم الجُنَيد البغدادي (ت. ٩١٠ م)، وهو الرّمز المركزيّ لدى أغلب طرق الصّوفيّة السّنّيّة التّقليديّة: لم يكن يحبّ ولا ينصح بالخوض في مسائل النّظريّات حول التّصوّف (بما فيها مسائل الوجود وطبيعته، كما أسلفنا عن ابن عربي مثلاً)، عداك عن رفضه القاطع للبَوح: أي “البَوح بالسّرّ” الصّوفي (وهو متعلّق بطبيعة الحال بمسألة وحدة الوجود على اختلاف تأويلاتها الجزئيّة وسبل تذوّقها من قبل المُريد والعارف). يحكي التّراث الصّوفي عن الاشكاليّة التي وقعت بين الحسين بن منصور (الحلّاج)، ذي المذهب “البَوحي” والثّوري – والمستفز – الواضح، وبين إمام العارفين الجُنَيد، حتّى أنّه يُنقلُ قولُ هذا الأخير متحسّراً على صديقه اللّدود الحسين بن منصور (بما معناه): “لقد فتحَ الحلّاجُ ثغرةً في الإسلام لن يسدّها إلّا رأسُه”. وقد تحقّقت هذه النّبوءةُ فعلا، اذ انتهى الأمر بالخلافة العبّاسيّة إلى قتل الحلّاج أبشع قتلة[2].
غير أنّ أتباع الجُنيد، خصوصا من متصوّفة أهل السّنّة والجماعة، وبالتأكيد، لا ينتمون إلى “عرفان عملي” أو “عرفان نظري” مختلف في الحقيقة عن عرفان الحلّاج وأمثاله. فالباطن واحد، كما مع أهل العرفان الشّيعة كالآملي وملّا صدرا، ولكنّ الاختلاف هو على مستوى الطّريقة والتّعبير كما أسلفنا، وهذه قناعتي العميقة واقعاً بعد غوص في هذه المسائل، مع مصاحبة لأهل التّصوّف والعرفان من مختلف الثّقافات.. ولذلك، يردّد أتباع الجُنيد جملاً رائعة من قبيل قولهم – تماماً كقول الحلّاج: “من لم يقفْ على إشارتنا، لم تُرشدْه عبارتُنا”.
أو قولهم الرّائع أيضاً، والباطني-المشفّر، والمنسوب إلى أبي القاسم الجُنيد نفسه: “لونُ الماء من لونِ الإناء”، أي أنّ الماء حقيقته واحدة، “هُوَ.. ماء”، ولكنّ لونه يتغيّر بتغيّر لون الإناء الذي يحتوي عليه. هل تغيّر الإناء يغيّر كون الماء ماءً مولانا؟ بعيداً عن التّشفير والاختباء خلف المسائل العمليّة حصراً: بأيّ نظريّة تذكّر هذه الجملة، إن لم تذكّر بوحدة الوجود (بمختلف مستوياتها العمليّة والنّظريّة)؟ “لونُ الماء من لونِ الإناء” جملة تستحقّ التّفكّر طويلاً ضمن مباحث وحدة الوجود – وتستحقّ التذوّق قبل ذلك وبعده وفوقه طبعاً! – لكن أيضاً، ضمن مباحث تعدّد الطّرق إلى الله، وتعدّد المفاهيم، وتعدّد الأديان والمذاهب ومستويات معرفة الحقّ سبحانه.
عودوا بنورِ الوصلِ من غسقِ الدُّجى ـ فالهجرُ ليلٌ.. والوِصالُ صباحُ!
لكن، خصوصاً في زماننا الرّاهن، هل يستقيم بعدُ القبولُ بفكرة عدم البوح؟ في العصرَين العبّاسي والأيّوبي وغيرهما، نعم، كان هناك خطر الصّلب والحرق والخنق[3] وقطع الرّؤوس ومحاكم التّفتيش بمختلف تجليّاتها وأدواتها الظّلاميّة.. وأديانها. لكن ممّا نخافُ اليومَ واقعاً؟ قد لا نخاف من الصّلب والحرق والخنق ومحاكم التّفتيش بنفس الشّدّة، لكنّنا للأسف لا زلنا نخاف من تكفير بعض الفقهاء والنّاس، وقد تتحوّل عبارة الجُنيد أعلاه إلى: “قد تفتحون يا أبنائي ثغرة في الإسلام لا يسدّها إلّا (خربان بيتكم)”… لذلك، يتوجّب على السّالك، حتّى في زماننا هذا، واللهُ أعلمُ: الحذرُ قدرَ المستطاع، والأخذُ بقول صاحب حكمة الإشراق، ومذهب “أنّ الصّباحَ خيرٌ من المِصباح[4]“، شهاب الدّين السّهروردي “المَقتول” (ت. ١١٩١ م):
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا
سترَ المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهمْ
وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
وَإِذا هُمُ كَتَموا، تَحَدّث عَنهُمُ
عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ!
بالمناسبة، فإنّ “شيخ الإشراق” (في الاصطلاح الشّيعي الغالب، أو “السّهروردي المقتول” في الاصطلاح الصّوفي السّنّي الغالب أيضاً) قد أمر بسجنه وقتله، في قلعة حلب، رجلٌ اسمه “الظّاهر” (فسبحان الله). وتحكي بعض الرّوايات أنّ أبا الظّاهر هذا، أي “الفاتح الأكبر” صلاح الدّين الأيّوبي (ت. ١١٩٣ م) هو الذي أمر بقتله شخصيّاً خوفاً من ضعف قلب ابنه أمام الفتك برجلٍ كشيخ الإشراق. والقصّة المشهورة هي أنّ الحرس الأيّوبي قام بخنق الرّجل في سجنه داخل قلعة حلب! لذلك، فقد يسأل السّائل الصّوفي: ماذا نفعَ صلاحَ الدّين حقيقةً تحريرُ القُدس، إذا لم يحرّر نفسَه مولانا؟ بالطّبع، إنّ التّحدي الفعلي للإنسان ليس في الجهاد الأصغر، كجهاد تسيير جيش لملاقاة الصّليبيّين الفرنجة أو ريتشارد “قلب الأسد[5]” الإنكليزي (ت. ١١٩٩ م)، وإنّما في الجهاد الأكبر وعاموده الحرب على الأنانيّة وأهواء النّفس والحُجُب (مجدّدا، راجع: كتاب الأربعون حديثا للسّيّد الإمام الخميني).
مع الالتزام الجدّي بثلاثيّة الشّريعة-الطّريقة-الحقيقة، يمكن اعتبار أنّ البُعد الصّوفي-العرفاني للإسلام وللأديان هو بُعدها الباطني والجوهري والأهم والأرقى، وهو أيضاً بعدُها الذي سيساعدها حتماً على البقاء على قيد الحياة رغم التّحدّيات والمتغيّرات أيّا كان نوعها أو كمّها
إذن، فقضيّة البوحِ هذه لا زالت تشكّل موضوع جدلٍ واسعٍ في الأوساط الصّوفيّة والعرفانيّة، داخل الثّقافة الإسلاميّة خصوصاً، ممّا يبقي التّصوّف إلى اليوم مثقلاً بتأثيرِ نوعٍ من “الطّابو” (Tabou)، داخل المدارس والجامعات الدّينيّة وخارجها. ونكرّر الإشارة ـ لا العبارة ـ إلى أنّ “السّرّ” عند الصّوفيّة مرتبطٌ دائماً وأبداً، وبشكل أو بآخر، بمسألة “وحدة الوجود” (نظريّا وعمليّا وتذوّقا، وبمختلف أشكال وتجلّيات وتصوّرات هذه المسألة بينهم). لن ندخل هنا في مسألة “الشّطحات”، لكن يأتي البوحُ عادة على شكل لعبة مرآة بين العبدِ والمعبود، كقول الحلّاج:
عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي
يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
أَدنَيتَني مِنكَ حَتّى
ظَنَنتُ أَنَّكَ.. أَنّي!
ولكي لا يقالَ إنّ قلبَ الكاتب وعقلَه يعيشان في العصر العبّاسي خصوصا، فمن الجدير ذكرُ حادثة حصلت منذ سنوات قليلة، مع مرشد الثّورة الإسلاميّة في إيران، الإمام السّيّد علي الخامنئي (أو “السّيّد القائد”). فقد انتشر فيديو[6] للمرشد الأعلى يتحدّث فيه – على ما يبدو واضحاً – إلى مجموعة من الفنّانين والشّعراء الإيرانييّن، وهو يضربُ لهم مَثَلَ الكتاب الشّعريّ الصّوفي الأشهر إسلاميّا وعالميّا وبلا أدنى شكّ: أي المثنوي، لسلطان العاشقين وشاعر العارفين، جلال الدّين البَلخي الرّومي[7] (ت. ١٢٧٣ م).
وبعدَ الأخذ بالحيطة اللّازمة فيما يخصّ التّرجمة من الفارسيّة، ونحن لا نلمّ بهذه اللّغة الجميلة للأسف وقد أخذنا التّرجمة من العارِضين مباشرة، يمكن اختصار قول الإمام الخامنئي كما يلي: إذ يحكي إنّه تحدّث يوماً عن المثنوي مع الشّهيد الشّيخ مطهّري (ت. ١٩٧٩ م)، وهو التّلميذ-الرّمز لصاحب تفسير الميزان أي العلّامة العارف الطّباطبائي الكبير (ت. ١٩٨١ م). والشيخ مطهّري هو أحد رموز الثّورة الإسلاميّة في إيران، وأحد كبار علماء وفلاسفة ومنظّري الشّيعة الإماميّة المعاصِرين. المهم، كما يُفهم من قول الإمام الخامنئي، وكما تُرجمَ لنا، أنّ الرّجلَين اتّفقا على اعتبار المثنوي كما اعتبره صاحبه: أي أنّه يحتوي على “أصلِ أصولِ الدّين”. أو – وأقولها مع الاحتياط اللّغوي اللّازم مجدّداً – أنّه ببساطة، أي المثنوي: “أصلُ أصولِ الدّين”. تخيّل، للحظة، من يقول ذلك: “السّيّد القائد” بنفسه، ويؤيّده فيه الشّهيد مطهّري! ماذا يقولان؟ يقولان إنّ مثنوي “مولانا” هو: أصلُ أصولِ الدّين[8]!
ولذلك قامت قيامة بعض ظاهريّة الشّيعة، واتُّهم الإمامُ المُرشِدُ بأنّه “صوفيّ” ويمتدح “بكريّا” و”عُمريّا” كالرّومي، وما إلى ذلك من اتّهامات وأوصاف لا يأتي بها إلّا أهلُ عالم الضّدّ والحُجُب (كما قلنا في الجزء السّابق: Ils sont chez lui). والحقّ يقال: فإنّ الجملة هذه جريئة جدّا (وجدّا!)، وهي بمثابة هزّة أرضيّة باطنيّة من العيار الثّقيل، وقد تساوي ألفَ ألفِ صاروخ في عالم القَلبِ والحَدس والعِشق.. فقد يجيب بعض الفقهاء والنّاس: كيف يكون كتاب كهذا هو أصلُ أصول الدّين؟ أين القرآن؟ أين السّنّة؟ أين تراثنا المكتوب والمنقول كلّه؟
والحقيقة هي أنّ الإمام الخامنئي كان يقصدُ ما قصدناه في الجزء الأوّل (والله أعلم بطبيعة الحال)، ونحن نعتمد قوله – مع غيره من الأقوال – كتأييد قويّ لطرحنا، وهو أنّه: مع الالتزام الجدّي بثلاثيّة الشّريعة-الطّريقة-الحقيقة، يمكن اعتبار أنّ البُعد الصّوفي-العرفاني للإسلام وللأديان هو بُعدها الباطني والجوهري والأهم والأرقى، وهو أيضاً بعدُها الذي سيساعدها حتماً على البقاء على قيد الحياة رغم التّحدّيات والمتغيّرات أيّا كان نوعها أو كمّها.
وقبل العودة إلى هذا الجانب، وبما أنّنا قد بدأنا مع “السّهروردي المقتول”، فلنكملْ مع هذا المقتطف الجميل لهُ، الذي يصفُ من خلاله سعادةَ العاشقين العارِفين – والذين قصدهم السّيد الخامنئي – وهي السّعادة الحقيقيّة برأينا كما سبق وأشرنا: لأنّها غير مشروطة بشرط، ولا مرهونة بسياق، ولا محدودة بحدّ، ولا مسجونة ضمن أفكار ومفاهيم. “هِيَ هِيَ”: تتجلّى من خلال الفرح الدّائم مهما كانت الظّروف النّفسيّة والخارجيّة. وأيضاً: لأنّها، أي هذه السّعادة ذاتها، لا ترى في وجود الشّرّ في هذا العالم، ولا في وجود المعاناة والابتلاء، إلّا نعماً من الله – وهي أصلا من تجلّياته ولا شيء في الوجودِ إلّا.. هُوْ! – ليساعدَ العبدَ بِها على تطهير نفسه وتزكيَتها والارتفاع بها إلى العوالم الأعلى. يقول الشّهيدُ المقتولُ إذن، وهو شيخ الإشراق السّهروردي:
لا يَطربونَ بِغَيرِ ذِكر حَبيبِهمْ
أَبَداً، فَكُلُّ زَمانِهم أَفراحُ
حَضَروا وَقَد غابَت شَواهِدُ ذاتِهم
فَتَهَتّكوا لَمّا “رَأَوه” وَصاحوا
أَفناهُمُ عَنهُمْ وَقَد كُشفَت لَهُم
حجبُ البقا.. فَتَلاشتِ الأَرواحُ
فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُمْ
إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرامِ.. فَلاحُ!
المصادر والمراجع:
[1] راجع كتابه الممتاز في هذا الإطار: Lenoir, Frederic, 2015, La puissance la joie, Paris : Fayard.
[2] تحكي المصادر التّاريخيّة عن لائحة من الأعمال الشّنيعة بحقّ الحلّاج: صلب و/أو تقطيع جسد و/أو حرق إلخ. والقصّة معروفة ومشهورة ولا داعي للولوج أكثر في تفاصيلها المؤلمة.
[3] عن “الخنق” الأيّوبي للسّهروردي “المقتول”، راجع ما يلي.
[4] أي أنّ الحقيقة التي تأتي عن طريق المكاشفة والمشاهدة، خير من “الحقيقة” التي نصل إليها من خلال التفكّر وبناء المفاهيم (راجع أبحاثنا حول بناء المفاهيم مع كانط على موقع180post أيضا).
[5] هذا، على الأرجح، رجل مضطرب محجوب آخر: في كثير من الأحيان، قلب النّعجة خيرٌ من ألف قلب أسد!
[6] موجود على “اليوتيوب” وشبكة الإنترنت عموماً.
[7] يلاحظ القارئ العزيز أنّني توقّفتُ عن إضافة كلمة “فارسي” عند كلّ اسم، حتّى لا يتحوّل المقال إلى دفاع عن الثّقافة الفارسيّة، وما هذا بهدفي طبعاً.. ولكنّني آمل أن تكون الرّسالة الجامعة قد وصلت في الجزء الأوّل (بالمناسبة، فالأغلب هو كون الجُنيد نفسه فارسيّا أيضا، عداك عن الأكيد حول الحلّاج والسّهروردي.. وهذا طبعاً بحث لا يعوّل عليه، إلّا في سبيل الرّدّ على من يرفع شعارات عنصريّة وقوميّة متطرّفة في زماننا هذا).
[8] بالطّبع، لا يتجرّأ على قول كهذا، حتّى في زماننا، إلّا وليٌّ قائدٌ.. وإلّا وقع في ورطة كبيرة في الأعم الأغلب.. لذلك، يمكن اعتبار أنّنا، برأيي، أمام ولّي فقيه جامع للشّرائط في زمن الغَيبة، ليس فقط الشّرائط الظّاهريّة منها، وإنّما أيضا الباطنيّة! وهذا رأي شخصيّ طبعاً.
(*) الجزء الأول: البعدُ “الصّوفي- العِرفاني” للدّين: مستقبلُ الإسلام.. ومستقبلُ الإنسان؟