“مغامرة” التحرير اللبنانية بعيون عراقية

من حرب العام 1948 حتى حرب تموز/يوليو 2006، وبينهما محطة العام 2000 التاريخية، ثمة سردية للإنتصار وللهزيمة. سردية تتطلب قراءة مشهد 25 أيار/مايو من خلال أبعاده المتصلة بالصراع العربي الصهيوني، لا الصراع على جبهة واحدة من الجبهات، ذلك أن التفكيك لا يمكن إلا أن يقودنا إلى "لبنان أولاً" و"فلسطين أولاً" و"العراق أولاً"..

شكّل تحليل السياسات العربية ومحاولة تفكيك الذهنية السياسية العربية تحدياً استعصى على خبراء البحث السياسي. اكثر الدبلوماسيين ألمعية وعراقة، تُرسّم الطريق الى العناصر المؤلفة لصنع القرار في دولنا والادوات المعتمدة في سبك المواقف من الاحداث والتحولات او حتى في المبادرة الذاتية  للقيام – بما يبدو – انه حفاظ على المصالح او دفاع عنها، فالعمل السياسي المنتج لمخرجات تجسد المواقف المتبناة من قبل طرف في قضية ما، هو في النهاية خليط متقن من التنسيب الدقيق بين التقليدي من الاصول والمبتكر في الاجتهاد تستقدم فيه عناصر القوة وتحيّد فيه نقاط الضعف لتغليب ارادة على اخرى او على الاقل لانتزاع شراكة في ادارة التناقضات، في مسار مفضٍ في نهايته، أطالت ام قصرت، إلى تحقيق المصالح او الدفاع عنها.

في سبيل فهم السياسة العربية، وتحديداً ما يتصل منها بالمواقف العامة في اطار جامعة الدول العربية او مجلس التعاون الخليجي مثلاً او ما اتصل بكل دولة عربية على حدة، فان استدعاء تراث الفكر السياسي وتجارب الامم عبر التاريخ، للقياس على الاشباه او بحثا عن المشتركات من المعالم، شبيه بمحاولة حل مسألة رياضية بغير معطياتها ومن خارج قوانينها. لذلك، تصبح عملية تحليل الموقف السياسي العربي، أشبه ما تكون بتعبير الرؤية او الحلم عند من أُوتي الحكمة والملكة. والحلم – كما يقول علم النفس – قصة الامس. هو ليس مادة الحاضر، ولا يمكن ان تشكل خيالاته منظارا لاستشراف ابعاد المستقبل.

واذا كان ما سيق مقدما، يصنف تجنيا، مدفوعا بأن تجربة العرب في خوض الحرب لا تتسم بالعراقة في الخبرة والعمق في استنباط الدروس منها، ذلك بأن الامة لم تقترب من تجربة الحرب الحقيقية، تجربة الحرب الحديثة، بما يكفي. فـ(حرب) فلسطين التي تلت النكبة بإعلان قيام اسرائيل عام 1948 كانت سلسلة مناورات، أي فوق المناوشات بدرجة، ودون الحرب بدرجات. كانت تنفيساً مارسته النظم الملكية محرجة تنفيساً عن ضغط شعبي متعاظم اخذ يتهددها، فكان قرار التحرك والتعبئة واساليب رسم الخطط ثم المضي الى الميدان معتلا في جميع مفاصله. ماذا كانت النتيجة؟ هزيمة محققة لجيوش ست دول عربية معززة باعداد من المتطوعين العرب والاجانب ترتب في اثرها انقضاض عصابات “الهاجاناه”، “الأرغون”، و”شترين” على السكان العرب قتلاً وتشريداً واستيلاءً على منطقة النقب والجليل الاعلى وتطويقاً للقوات المصرية في جيب الفالوجة، ما فرض واقعاً جديداً على الارض كانت اسرائيل فيه صاحبة اليد العليا.

كما أن حرب تشرين/اكتوبر 1973 كانت التجربة الحقيقية الاولى للعرب مع الحرب بمقدماتها ومساراتها وابعادها ونتائجها. اتخذ قرار الحرب بهدف استعادة المستولى عليه من الاراضي العربية عقب حرب الايام الستة عام 1967 والتي استطاعت اسرائيل خلالها مضاعفة مساحة ما تحتله قبل 5 حزيران/يونيو خمسة اضعاف.

وبالفعل، كانت الايام العشرة الاولى من حرب أكتوبر محملة بشواهد نصر مشرف حققته الجيوش العربية على خطوط النار، وبدا واضحاً ان اسرائيل منيت بهزيمة كسرت نظرية الامن الاسرائيلي ودمرت اسطورة (الجيش الذي لا يقهر).

ما أن تدخل صانع القرار السياسي في مجريات الحرب، حتى تغيرت اولويات المعركة، فتم إخراج القوات المصرية من تحت مظلة الصواريخ للاندفاع الى المضائق الحاكمة في سيناء، ما جعل القوات العربية المهاجمة فريسة للطيران الاسرائيلي – اتضح لاحقاً طبقاً للوثائق ان الإنسحاب كان مقصوداً – حتى شكلت الايام التالية (12 يوماً) تحولاً كارثياً اعاد للاسرائيليين توازنهم وافقد العرب عنصر المبادرة ليتحولوا من مهاجمين الى مدافعين فمنسحبين فمحاصرين.

وخلافاً لما هو معروف من ان الاطراف المتقاتلة على الارض تسعى لتكثيف عملياتها والدفع بزخم المعركة لزيادة الضغط على الخصوم تعزيزاً وتقويةً لموقفها على طاولة المفاوضات، فإن الرئيس الراحل انور السادات استقبل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر معانقاً ومقبلاً، وخاطبه بوصفه اكثر من صديق، انه أخ!.

خبر اندلاع الحرب لم يشكل حافزاً للسادات لزيارة منطقة العمليات، انما كانت زيارته الاولى في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، اي بعد تأكد رجحان كفة الاسرائيليين في الحرب اعتباراً من 16 تشرين/اكتوبر بموجب خطة (الغزالة) للهجوم المضاد بقيادة ارييل شارون عبر ثغرة الدفرسوار وتمكن ستة الوية مدرعة اسرائيلية من تحقيق اختراق والعبور غربي القناة وتطويق الجيش الثالث الميداني يوم 19 تشرين/اكتوبر وتدمير منظومات الدفاع الجوي المصرية وتدمير اعداد كبيرة من الدبابات بفعل خطة تطوير الهجوم التي اصر السادات على تنفيذها يوم 14 تشرين/اكتوبر.

بلغت حماسة السادات حد سحبه ورقة كتب عليها رسالة بخط يده لمائير يؤكد فيها جديته في طلب السلام وادامة الحوار من خلال كيسنجر

كان يمكن فهم التحركات الأميركية والاسرائيلية على المستويين السياسي والعسكري وتكامل الادوار لتقوية موقف اسرائيل في المفاوضات اولاً – التي كانت قادمة لا محالة – ولتسجيل انجاز كبير يحسب لكيسنجر في (احلال السلام) واقناع السادات برفع الحظر النفطي العربي عن اوروبا والولايات المتحدة بعد نجاحه في (فتح ابواب الصين). لكن ما استعصى على الفهم هو القرار السياسي بتطوير الهجوم على الجبهة المصرية، في مخالفة صريحة لرؤية قيادات الاركان المطلعة على الوضع الميداني ومسار المعارك وحدود القدرات والاعلان عن الرغبة في السلام بعد عشرة ايام فقط على نشوب القتال. ثم ما تبع ذلك من اسلوب التفاوض والقبول المنفرد لوقف اطلاق النار.

ما يستشف من مذكرات كيسنجر عن تلك المرحلة، ان معايير التفاوض وعناصر الحوار المعتمدة من جانب الاطراف العربية كانت نفسية بالدرجة الاولى ترتكز على ايحاءات وايماءات وانطباعات غير ملزمة تم تبادلها مع كيسنجر، بعد ان تيقن الأخير من حجم التعويل عليها، اذ استطاع اقناع السادات بأن غولدا مائير (لا تصدق ان السلام يطرق ابواب اسرائيل، وخير ما يفعله الآن هو طمأنتها طول الوقت، وهي فزعة مما لاقته في الحرب، وهي في حاجة الى ان تستعيد ثقتها بالناس، ولا بد لها من وقت لكي تنسى ليالي الهلع التي عاشتها بداية الحرب).

بلغت حماسة السادات حد سحبه ورقة كتب عليها رسالة بخط يده لمائير يؤكد فيها جديته في طلب السلام وادامة الحوار من خلال كيسنجر. ويؤكد الأخير في مذكراته ان السادات اقتنع اخيراً بان مشكلة السلام مع اسرائيل هي بالدرجة الاولى نفسية، مضيفاً ان السادات سأله (عما اذا كانت مائير قوية الى درجة كافية لعقد اتفاق سلام معه)، وطمأنه كيسنجر بأن مائير هي (رَجُله).

إقرأ على موقع 180  دياب: الإحتياطي في العام 2002 قارب الصفر ولم تقم القيامة؟

ومن اللافت للنظر كيفية التنكيل بابطال الحرب وصناع النصر فيها  واتهامهم بـ(افشاء الاسرار العسكرية) وغياب الاجابات عن الاسئلة حيال ما تعرض له الفريق سعد الدين الشاذلي خلال حرب اكتوبر برغم اشادات الاكاديميات العسكرية في بريطانيا والولايات المتحدة ببراعة الخطة التي وضعها الشاذلي بوصفه (العقل المدبر للهجوم المفاجىء الذي اكتسح خط بارليف) و(واضع الخطة المحكمة لاستعادة قناة السويس).. وهو يشبه الى حد كبير ما تعرض له الفريق عبد الوهاب الساعدي والفريق رائد شاكر بعد دورهما البارز في تحرير المدن العراقية التي احتلها داعش عام 2014. والمسألة لا تعدو مطلباً أميركياً بـ(تطهير) القوات المسلحة من الوطنية المبدعة. لكن الغريب هو ذلك الاستعداد الفوري للتجاوب العربي مع ابسط ايماءة أميركية.

الا يفترض بعد تجربة حرب العام 1973 بكل ملابساتها ونتائجها ان تتمخض عنها قناعات جديدة تستقر فيها مقولة كارل فون كلاوتزفيتز (ان الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل اخرى)؟

إن واقع الاحداث يرسم  تحولاً في مسار السياسات العربية، من الزهد في نقاط القوة والاكتفاء بالتعويل على حسن نوايا الاخرين الى التآمر على مواقع القوة نفسها واطاحتها استرضاء للاخرين، مع تكرار اعتماد الاشارات الأميركية والايماءات الاسرائيلية حافزاً للسلام الموهوم.

نصر لبنان كسر هيبة الجيش الذي حرص بعد حرب اكتوبر ان يستعيد لقب (الذي لا يقهر)، ولكنها لحظة الحقيقة، وفي مشاهد اقتحام معتقل الخيام صور لا يمكن ان تخطىء العين معانيها

لقد خاضت قوى المقاومة الوطنية اللبنانية ممثلة بحركة امل وحزب الله وسائر الفصائل الوطنية واليسارية نضالاً مراً وسطّرت ملاحم ميدانية بإمكانات عسكرية بدأت بسيطة ثم تنامت لتتنامى معها وتيرة الصراع مع العدو الاسرائيلي الاحدث تسليحاً والذي يطبِق طيرانه على الاجواء في لبنان ويتحرك عملاؤه على الارض لنقل كل همسة.

تمكنت المقاومة بهجماتها وعملياتها النوعية، طيلة 22 عاماً (1978 ـ 2000)، من استنزاف العدو، لا سيما من خلال سلسلة من العمليات النوعية. اصبح التنبؤ بالوجهة التي يمكن ان ينقض منها المقاومون احجية الموت. لم يعد عمل الجواسيس والعملاء مجزياً ولم تعد منظومات التنصت المتقدمة التي نصبت في أعلى قمم الجبال اللبنانية وجوانب الطرق ذات جدوى، اما العنف والاعتقال فقد بلغ مداه ولا طائل يرتجى من تكرار المكرر واستنفدت كل الاهداف واستهلكت كل الاساليب، فالمقاومة ماضية في الشوط الى نهايته تقاتل على ارضها وتطور امكاناتها وتحظى بدعم ايراني سوري متواصل اجاد الرجال استيعابه واعطاءه حقه في القتال.

لم يتبق في جعبة حكومة العدو من ورقة تلعبها غير الهرب من المستنقع اللبناني تحت جنح الظلام، تاركة آلياتها ومتخلية عن بعض عملائها الذين قرروا ألا يثقلوا أنفسهم على العدو في طريق الهرب. وكان النصر. نصر لبنان كسر هيبة الجيش الذي حرص بعد حرب اكتوبر ان يستعيد لقب (الذي لا يقهر)، ولكنها لحظة الحقيقة، وفي مشاهد اقتحام معتقل الخيام صور لا يمكن ان تخطىء العين معانيها. ومع اعتراف قادة العدو بالهزيمة والاسباب التي قادت الى اتخاذ قرار (الانسحاب)، وبعد عامين على النصر الذي اهتزت له الدنيا، قدم العرب مبادرة الارض مقابل السلام للعودة الى مربع مخالفة المألوف والمعروف والمنطقي في السياسات. وكأن نسائم السلام هبت على العالم العربي مع احتلال اسرائيل لجنوب لبنان. وكأن اسرائيل حاولت الالتزام بقرار التقسيم عام 1947 ولكنها ضمت كل فلسطين من بعده لحمل العرب على السلام. وكأن احتلال سيناء والجولان والقدس الشرقية كان رغبة جامحة للسلام مع العرب تلاشى عندها اتزان قادة الدولة العبرية.

ومن قبيل الصراحة الاقرار بأن الانفصال بين السياسات الرسمية وقوى المقاومة سيدوم ويدوم، فالمؤسسة الرسمية العربية متمسكة باستخراج اوراق من دفائن السياسة والدعوة الى الاحتكام اليها كحل الدولتين، وخارطة الطريق، ووديعة رابين، بينما يصبح ضم الضفة الغربية واعلان السلطة الاسرائيلية على غور الاردن ورقة في مزاد التنافس الانتخابي بين بنيامين نتنياهو وبني غانتس وفي بازار تفاهمهما الإئتلافي.

المعركة مع العدو ليست صراعاً قاد اليه تباين في الرؤى او تضارب في المصالح يكون فيه لكل طرف وجهة نظر تستحق النقاش او تقدم اليه ضمانات تحفظ مصالحه. انه صراع متطرف المعايير – كذا هو – بين اصيل في ارضه يملك وحده الحق فيها وفي ثرواتها وبين طارىء ليس في وارد معتقداته وسياساته قيام شراكة مع مجتمع من الخلق ولا شعور له بالامان الا باقتلاع المجتمعات من جذورها.

لقد اريد لامتنا ان تبقى اسيرة النكبة والنكسة، اسيرة ثقافة الهزيمة، معتقدات تُميّع فيها المواقف الرسمية ليسهل تحولها من الصلابة المطلوبة للحفاظ على السيادة وصون الكرامة الى الاستجداء والتنصل من المسؤولية بدعوى الحكمة والتأني دون تحديد مدى لهذا الحلم وتلك الاناة، تغافلاً عن حقيقة ان انتهاج هذا النمط من المسارات يبقي زمام المبادرة بيد العدو الذي تدفعه مصالحه لا ضروراته لشن العدوان، والذي يتلقى الاستشارات والدعم من القوى الكبرى ولا يستمع منها الى مواعظ الحكمة وعبر التصبر التي يزخر بها تراثنا والتي تستدعى بقسوة في كل منازلاتنا الكبرى تثبيطا والتواءً. وبتمسك العرب بخيارات السير (صف الحائط) دائما ما كان ليتحقق التحرير في جنوب لبنان، فيستعيد اللبناني كرامته وسيادته على ارضه، وما كان ليقبع الاسرائيلي خلف الاسلاك المكهربة ليحسب الف حساب قبل ان يسيّر دورية عند السياج الحدودي من الناقورة إلى مزارع شبعا.

ولا يستطيع احد ان يزعم ان خيارات المواجهة مع مشاريع الأميركيين وخطط الاسرائيليين يسيرة، انما علينا ان نكون بمستوى حتمية المجابهة التي اثبتت التجارب (لمن يعتبر) انها اجدى بكثير من وصف معركة المقاومة صيف 2006 بانها (مغامرة)، ومن تكلف ذرف الدموع الرسمية على لبنان (المدمر). دموع كانت قريبة الشبه بابتسامات أنور السادات وهو يثبّت امضاءه على صحف كامب ديفيد.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "غزة" تهدد أحلام بايدن في رئاسة ثانية؟