“على الورق”، خرجت إسرائيل منتصرة عسكريّاً في هذه الجولة من الصراع الذي أطلقته هجمة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر سنة 2023. عسكريّاً، لم تعد حماس تشكّل أيّ تهديد جدّي لإسرائيل (مع الأخذ بالإعتبار أنّ المقاومة الباسلة التي نشهدها ونشهد لها الآن على أرض غزة، إذا استمرّت على المدى الطويل، يُمكن أن تستنزف الدولة اليهوديّة، عسكريّاً وأمنيّاً وديموغرافياً واقتصاديّاً وسياسيّاً).
وحزب الله أيضاً في وضع لا يُحسد عليه، إذ أنه لم يعد قادراً على إعادة إنتاج توازن الرعب الذي كان قائماً قبل انخراطه في جبهة إسناد غزة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو توازن استمر طيلة 18 عاماً أعقبت حرب العام 2006، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من وقف لإطلاق النار يخرقه الإسرائيلي يومياً ويحاول فرض قواعد إشتباك وأعراف جديدة على الأرض. والملاحظ أن قيادة الحزب سلّمت قسراً بفصل الساحات وقرّرت التركيز على أولويّة وقف النار للحفاظ على الذات أولاً، قبل أن يأتيها الحدث السوري ويقطع عنها أوكسيجين السلاح الذي كان يتدفق طوال عقود من الزمن عبر البوابة السورية، ما جعل الحزب، بحكم الأمر الواقع (إقفال نافذة الصراع مع إسرائيل والأوكسيجين السوري) يُصبح أسير معادلة داخلية لبنانية سيزداد تورطًا بمفاعيلها يوماً بعد يوم.
في الوقت نفسه، تبدو إيران في حالة تهيب للموقف وكُلهَا خشية من أن تتمكن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية الصهيونية المتطرفة من جر أمريكا إلى استهداف برنامجها النووي الذي هدفه المعلن حماية نظامها استراتيجيّاً، لكنه أصبح فعليّاً قنبلة موقوتة يمكن أن يُعرّض هذه الدولة للخطر الكبير إما باستهداف خارجي أو بإثارة قلاقل داخلية.
***
حساب الحقل ليس كحساب البيدر دائماً. في الشكل، هزيمة محور المقاومة وسقوط نظام الأسد في سوريا يمكن أن نُسمّيه نجاحاً عسكرياً لإسرائيل (مع العلم أنّ هذا النجاح لم يكن ليحصل لولا الدعم اللامحدود من أمريكا وأوروبّا، وهم شركاء النظام الصهيوني في جرائمه، ليس الآن فقط بل منذ تأسيسه). لكن حتى يُصبح انتصاراً سياسيّاً، عليه أن يُترجم في أرض الواقع. كيف ستكون هذه الترجمة؟ لا أحد يعرف بعد، وثمة تحليلات تنهال علينا من كلّ حدب وصوب أكثرها مجرد تمنّيات وشطحات رأي وجعجعات.
لنتذكّر محمّد علي باشا عندما اجتاح جيشه بلاد الشام وهدّد بإنهاء السلطنة العثمانيّة، أو الشريف حسين عندما انتشى بثورته على العثمانيين ووعود بريطانيا له، أو صدّام حسين الذي انقلب على أهل الخليج بعد أن موّلوه ليقاتل إيران، أو غير ذلك من الأمثلة التي ينطبق عليها المثل القائل “حضارات سادت ثم بادت”
هناك أيضاً أسئلة كثيرة تتصل بمستقبل الشرق الأوسط في ظلّ هذا التغيير، ومن الصعب الإجابة عليها الآن لأنّنا في مرحلة انتقاليّة، إقليميّاً وأوروبيّاً وأمريكيّاً. ذلك أنّ التغيير في منطقتنا، تاريخيّاً (منذ القرن التاسع عشر على الأقلّ)، كان يتصل دائماً بعلاقة مباشرة بدوائر القرار في أوروبّا وأمريكا (بغضّ النظر عمّا إذا كان التغيير لمصلحتهم أم لا).
ولو توغلنا في التفاصيل، لوجدنا أن “ديموقراطيّات” أوروبّا الغربيّة تواجه مأزقاً وجودياً مع عودة الفاشيّة البيضاء ولا أحد يدري كيف سيكون مستقبل القارّة ودورها في ظل مفاعيل الحرب الروسية-الأوكرانيّة؛ الصراع مع الصين، تصاعد المشاكل والأزمات الهوياتيّة والإقتصاديّة والإجتماعية.
أمريكيّاً، تُشرّع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الباب لتمزّق داخلي لم تشهده أمريكا منذ الحرب الأهليّة في القرن التاسع عشر، واستراتيجيّته بعنوان “أمريكا أوّلاً” ستُصبح لعنة على الأمريكيّين، لكنّها ستكون ألعن على حلفاء أمريكا (خصوصاً في أوروبّا الغربيّة) الذين اعتادوا في السابق على الدلع الأمريكي.
إقليميّاً، “مشاكل قوم عند قوم فوائد”. ضعف المحور الإيراني لا يعني بالضرورة انتصار إسرائيل سياسياً. وذلك لأنّ من أخذ مكان “محور المقاومة” له أجندته المتشعبّة والمعقّدة، وإنّ علّمنا التاريخ أي شيء فإنّ شركاء اليوم أعداء المستقبل، وكذلك أعداء اليوم هم أصدقاء المستقبل.. ولنترقب كيف ستتعايش إسرائيل مع إمبراطورية عثمانية بعدما أطاحت بأذرعة الإمبراطورية الإيرانية في المنطقة.
***
النظرة إلى المستقبل يجب أن تأخذ في الاعتبار بعض البديهيّات والحقائق، خصوصاً في ضوء التغيير الجذري الذي حصل في سوريا:
أوّلاً؛ هجوم المعارضة السوريّة بقيادة “هيئة تحرير الشام” لم يكن هدفه المباشر إسقاط الأسد خلال ضعة أيّام، بل ما كان يُبتغى منه هو السيطرة على مدينة حلب وريف حلب الغربي وخلق امتداد جغرافي يزيل الضيق عن إمارة إدلب كمرحلة أولى تليها مراحل أخرى هدفها النهائي إسقاط النظام؛ غير أن انهيار الجيش السوري باغت الكلّ، تحديداً المخطّطين للهجوم. وهنا علينا أن نعترف بأنّ أحمد الشرع كان عبقريّاً بامتياز لأنّه رأى فرصة واستغلّها من دون أي تردّد: لم يلته بتأمين المناطق التي سيطر عليها، بل أعاد خلط الأوراق والأولويّات، ووجّه الهجوم التالي نحو حماة، وهنا تبدّى له أنّ النظام السوري منهارٌ كليّاً، فكانت السيطرة على حمص ودمشق وكثير من المناطق من دون اي قتال. لذلك عندما يتحدّث البعض عن مؤامرة أو أنّ ما قامت به “هيئة تحرير الشام” كان مُحضّراً مُسبقاً وأنّ لأمريكا أو بريطانيا أو تركيّا أو روسيا أو إيران أو .. اليد العليا فيه، هو كلام عاطفي، إنفعالي، ولا يساعد بتاتاً في فهم تدحرج الأمور أو مستقبلها.
ثانياً؛ ليس بسرّ أنّ أحمد الشرع أبدع منذ ظهوره في أوائل الثورة السوريّة في لعبة المشي على الحبال واستخدام التناقضات لمصلحته. وها هو الآن، بإطلالته الجديدة، يؤكّد لنا أنّ في جعبته المزيد من ذلك. فهو كان قد نسج شبكة علاقات كبيرة وواسعة وساير تركيّا وأمريكا من أجل الحصول على دعم مالي وعسكري لكي يستمرّ في سيطرته على منطقة إدلب. لكن القول إنّه أداة أو في “جيبة” أمريكا أو تركيا هو كلام ساذج. نعم، علاقة الإسلام السياسي عامّةً بدوائر المخابرات والسياسة في واشنطن ولندن وباريس ليس بخفي على أحد، وهذا الإسلام السياسي إستُخدم ضدّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة إبّان الحرب الباردة. لكن ليس هناك من عاقل يرفض الإقرار بأنّ هذه العلاقة هي كزواج الضرورة وأنّها شهدت مآزق عديدة. هنا علينا ألا ننسى أنّ ما نسمّيه “الإرهاب السنّي” ربّته أمريكا وبريطانيا، لكنّه أصبح (كما يقول المثل الإنكليزي) كالدجاجة التي عادت إلى قنّها لتبيض، فانفجر في وجه كلّ من راهن عليه وموّله (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، مصر، السعوديّة، سوريا، إلخ.). وهذا إن دلّ على شيء فهو أنّ الإسلام السياسي له أجندته الخاصّة، وأنّ دخول بعضه في علاقة مع مخابرات الغرب أو مخابرات الأسد (زمن الحرب على العراق) أُريد منه تحقيق مكاسب آنية، وهم مستعدّون للإنقلاب على الغرب إذا تطلّب الأمر ذلك (كما حصل مع القاعدة وطالبان وداعش والنصرة و..). لنسأل، ما كانت تكلفة “الحرب على الإرهاب” على أمريكا وحلفائها، وهم من خلق وربّى ودرّب هؤلاء المجرمين؟
إنّنا نخدع أنفسنا إذا حكمنا أنّ أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام” أو أطياف المعارضة السوريّة أو.. هم عملاء لفلان أو علتان ويشكّلون خطراً على العالم العربي ولا يرجى منهم فائدة؛ أو أنّ ما حصل في سوريّا يساعد فقط إسرائيل (هل كان نظام بشّار الأسد يُشكّل خطراً فعلياً على إسرائيل؟). السؤال هو: هل من يعتبر نفسه “وفيّاً” للعالم العربي ومصالحه قادر على نسج علاقات تستفيد من هذه التغييرات بدل تركها للآخرين لكي يستثمروا فيها؟
***
في الخلاصة، تتجه منطقة الشرق الأوسط نحو تغيُرات كبرى لا أحد يستطيع التنبؤ منذ الآن بنتائجها.. وإذا علّمنا التاريخ درساً فهو أنّ المنطقة لا تتحمّل بعبعاً واحداً (سواء أكان إيرانياً أو أمريكياً بالأمس أم تركياً وإسرائيلياً اليوم أم الدولة الفلانية غداً). ثمة جماعات متناقضة تتعايش بالضرورة وبالأمر الواقع. تنسج تحالفاتها وتعيد نسجها وفقاً لمصالحها، وجرت العادة أن جماعة ما أو دولة ما أو إمبراطورية ما تُحقق في مرحلة ما انتصاراً عسكريّاً لكن لا بد من هزيمة سياسيّة لكل منتصر ومنتشٍ بجبروته (لنتذكّر محمّد علي باشا عندما اجتاح جيشه بلاد الشام وهدّد بإنهاء السلطنة العثمانيّة، أو الشريف حسين عندما انتشى بثورته على العثمانيين ووعود بريطانيا له، أو صدّام حسين الذي انقلب على أهل الخليج بعد أن موّلوه ليقاتل إيران، أو غير ذلك من الأمثلة التي ينطبق عليها المثل القائل “حضارات سادت ثم بادت”..).