قارب مؤشر داوجونز يوم 20 كانون الثاني/يناير 2020 الثلاثين الفاً او حوالي 50% أعلى مما كان عليه قبل ثلاث سنوات، عندما استلم دونالد ترامب زمام الرئاسة الاميركية من باراك اوباما. وكان مؤشر داوجونز قد انخفض الى حوالي 6500 عام 2009، وذلك ربطاً بالانهيار الاقتصادي في خريف 2008.
كذلك كان متوقعاً ان يُبرّئ مجلس الشيوخ الرئيس الأميركي من التهم الموجهة إليه من قبل مجلس النواب والتي كانت ستؤدي الى عزله من الرئاسة لو وافق اكثرية الشيوخ على ذلك. الى ذلك، بقي الحزب الجمهوري الى جانب ترامب بقوة، برغم التحقيق الذي اجراه المستشار الخاص روبرت ميولير بشأن التدخل الروسي لمصلحته في انتخابات الرئاسة الاميركية في العام 2016، وهو التحقيق الذي ادى الى ادانة بعض معاوني ترامب. زاد التأييد الجمهوري لترامب عن الثمانين بالمئة، وهي نسبة لم يتوصل اليها من قبل ايٌ من الرؤساء الجمهوريين السابقين. زدْ على ذلك، أنه برغم مزاجه المزعج سياسياً وبروتوكولياً وتصرفه المستمر كرجل اعمال، مقارنة بما كانوا يتوقعون من “الرئيس” ان يتصرف كرجل دولة، لم يتراجع التأييد الشعبي لترامب عن 45%.
من ناحية اخرى، كان الحزب الديموقراطي يتخبط في معارك انتخابية تمهيدية تبدأ في ولايتي ايوا ونيوهامبشير في شهر شباط/فبراير 2020، وكان متوقعاً ان يفشل المرشح الرئيسي، نائب الرئيس السابق جو بايدن، في الفوز في تلك الانتخابات. كان هناك ما يزيد عن عشرة مرشحين ديموقراطيين، وقيل حينذاك، ان فشل بايدن في هاتين الولايتين سيفقده امكانية ان يكون المرشح الديمقراطي لمواجهة ترامب، وهذا ما اراده الرئيس الأميركي الذي اعتبر ان جو بايدن، بخبرته الطويلة وسياسته المعتدلة، يشكل خطراً عليه في الانتخابات الرئاسية المقررة في اول ثلثاء من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أي أنه لم يعتبر ان اياً من المرشحين الديموقراطيين الآخرين يمكن أن يشكل عنصر منافسة قوية له.
بدأ التاييد لترامب يتدهور خلال حضوره المؤتمر الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس في سويسرا (كانون الثاني/يناير الماضي). ولم يتراجع لأنه إعتبر نفسه أهم رئيس اميركي، أو لأنه قال إن اداء الاقتصاد الاميركي هو الاحسن دولياً، بل لأنه راح يقلّل في دافوس من خطورة وباء الكورونا وإعتبره مجرد زكام عادي، في الوقت الذي كان الاميركيون قد شرعوا بدخول المستشفيات بسبب انتشار الوباء. لم يتردد ترامب في اعتبار الفيروس مؤامرة ديموقراطية عليه وبمثابة استمرار لمسلسل إتهامه بالتآمر مع روسيا في الانتخابات الرئاسية السابقة. ظل متمسكاً بموقفه لغاية 14 اذار/مارس، محاولاً التقليل من خطورة الوباء. ادعى ان الصين طمأنته ان الوباء تمت السيطرة عليه، وحتى بعد ان اقر ان الكورونا وباء خطير “وعدو غير مرئي”، لم يبادر إلى إستخدام صلاحياته الدستورية باعلان حالة الطوارىء الصحية. اصبح هناك نقص في كل الاشياء التي يحتاجها المرضى والاطباء والممرضات، ومنها الكمامات والقفازات الطبية وآلات التنفس، وقد تركها كلها للقطاع الخاص، تتنافس الولايات الاكثر وباء لأجل الحصول عليها، بعدما توسلت الحكومة الفدرالية مساعدتها في محاربة الوباء من دون أي تجاوب من البيت الابيض. وفي اواخر شهر نيسان/ابريل، بدأ يرسل بعض المساعدات الى الولايات التي انتخبته!
قرر ترامب تخفيض، او حتى الغاء المساعدات الفدرالية لقانون الرعاية الصحية، المعروف بـ”اوباما كير”. وتحدى حكام الولايات عندما قرر ان ينهي اغلاق البلد، قبل ان تنتهي موجة الوباء، في خطوة إضطر للتراجع عنها
وما زاد الطين بلة، ان الوباء اصاب الولايات الزرقاء التي لم تنتخب ترامب. لم يرفض مساعدتها ومدها بأدوات ومعدات طبية وصحية وحسب، بل رفض دعمها مالياً ايضاً، فكان أن قررت تحمل اعباء كلفة مواجهة الوباء بالكامل. كما قرر ترامب تخفيض، او حتى الغاء المساعدات الفدرالية لقانون الرعاية الصحية، المعروف بـ”اوباما كير”. وتحدى حكام الولايات عندما قرر ان ينهي اغلاق البلد، قبل ان تنتهي موجة الوباء، في خطوة إضطر للتراجع عنها بعدما تحدّاه حكام معظم الولايات، خاصة الكبيرة منها مثل نيويورك وكاليفورنيا، لان ذلك من صلاحياتهم ولا يحق لرئيس البلاد ان يتدخل بهكذا قضايا.
والاخطر في حملته لفتح اميركا انه شجع العنصريين من ذوي البشرة البيضاء للتظاهر بالسلاح ضد حكام ولايات ديموقراطيين ومطالبين بالاعتراف بالسيادة الفردية، اي حقهم بحمل السلاح وعدم منعهم من الذهاب الى اي مكان من دون كمامات وبلا أي تباعد اجتماعي.
تصرف ترامب وكأن الوباء عدوه الانتخابي، خاصة عندما هبطت كل المؤشرات الاقتصادية مثل داوجونز الذي وصل الى حوالي 18 الفاً، وزاد عدد العاطلين عن العمل عن الاربعين مليون عامل وموظف، مما حمل الكونغرس على ضخ تريليونات الدولارات وتوزيع جزء كبير منها على من يدفع ضرائب وبالاخص العاطلين عن العمل. كما اقفلت آلاف المصانع وتوقفت الاعمال، ما اوقع الولايات المتحدة في حالة ركود اقتصادي كبير.
كأن ذلك وغيره الكثير، ولا سيما نظرته للقاح ودعوته إلى إستخدام مواد للتنظيف، لم يكن كافياً، حتى جاء مقتل الافريقي الاميركي، جورج فلويد خنقاً على يد شرطي في مدينة منيابوليس ليشعل شرارة الافريقيين الاميركيين في كل انحاء الولايات المتحدة. وبدلاً من ان يخاطب المواطنين ويدين ما حصل ويتصرف كأب للبلاد، راح يغرد ضد المتظاهرين ويهددهم بان ما يقومون به يستجلب اطلاق الرصاص (عليهم)، وهي عبارة استعملت في ستينيات القرن الماضي عندما ثار الافارقة الاميركيون من اجل المساواة وحقوقهم المدنية.
كل ذلك، أدى إلى توسع المظاهرات وتفاقم أعمال العنف والنهب والتكسير، كما دخل على خط التظاهرات انصار الرئيس الأميركي للتشجيع على العنف ظناً منهم ان ترامب يستطيع من خلال ذلك إستعادة الناخب الابيض البشرة. والجدير بالذكر ان ذوي البشرة البيضاء، ومنهم شعوب البحر المتوسط، تراجع عددهم ليصل الى حوالي 56% من سكان اميركا.
لقد واجهت اميركا في السابق مشاكل داخلية تفوق بأضعاف ما هي عليه اليوم وخرجت منها منتصرة باصلاحات جذرية. مصدر الاحباط اليوم هو ان الرئيس ترامب، كما يبدو، لن يدعم قيام أية إصلاحات تطمئن مواطنيه وتحد من عنف الشرطة المحلية، وتساعد على احتواء وباء الكورونا.
الخبر المريح للاميركيين، ان الاستطلاعات في هذا الوقت تشير الى نجاح مريح لجو بايدن الديموقراطي في حال حصلت الانتخابات الرئاسية هذا الشهر. لكن هناك خمسة اشهر للانتخابات.. والى حينها “يخلق الله ما لا تعلمون”، طالما أننا نعيش في ظل رئيس يعشق الفوضى ويأتينا كل يوم بمفاجأة تنسينا تلك التي كانت قبلها.