خلال حرب إسرائيل الثالثة ضد لبنان والتي استمرت منذ ١٧ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤، يوم تفجيرات الـ(pagers) إلى بداية تنفيذ وقف النار في ٢٧ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤، ظهرت مصطلحات وعناوين بعضها يُعبّر عن حقيقة ما حدث والبعض الآخر أوحى بمعانٍ أخرى تُضلّل من يسمعها. وهذه عينة من العناوين والمصطلحات:
أولاً؛ اتفاق وقف اطلاق النار:
لم يصدر أي اتفاق وجلّ ما صدر هو اعلان (Announcement) وهو غير الاتفاق أو القرار أو التفاهم (على غرار تفاهم نيسان/أبريل 1996). هو إعلان صادر عن الولايات المتحدة وفرنسا لوقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل. لم يُذيّل هذا الإعلان بتوقيع أية دولة أو أيّ مسؤول. وبقيت آلية المراجعة وتحديد المسؤوليات عن خرق هذا الإعلان غامضة.
ثانياً؛ الإنسحاب إلى شمال الليطاني:
ورد كثيراً في الإعلام وخصوصاً الأجنبي أن حزب الله سينسحب حتى شمال نهر الليطاني.. والصحيح هو أن نهر الليطاني يبعد عن نقطة الحدود ساحلاً (الناقورة) حتى نقطة مصبه على القاسمية شمال صور ٢٩،٥ كلم فيما يبعد من كفركلا حتى جسر الخردلي ٣،٥ كلم، وقد لامست أقدام جنود الإحتلال النقطة الأخيرة لأجل التقاط صورة لهم، الأمر الذي أسهم في تكبير المساحة وبالتالي تضخيم “الإنجاز الإسرائيلي”!
ثالثاً؛ عودة النازحين (المستوطنين) إلى الشمال:
هو مصطلح إسرائيلي تستخدمه حكومة بنيامين نتنياهو كأحد أهم أسباب الحرب، أي إعادة النازحين من المستوطنين بالقوة فيما كان موقف حزب الله هو إعادتهم بالاتفاق مع لبنان. هؤلاء النازحون لم يغادروا المستوطنات تحت نيران حزب الله الذي لم يقصف أهدافاً مدنية ولا اقتصادية ولا منشآت حيوية حسّاسة طوال شهور الحرب، بل نزحوا بناءً لأوامر الحكومة الإسرائيلية التي حجزت لهم عدداً كبيراً من الفنادق في منطقة تل أبيب الكبرى بالإضافة إلى نازحي “غلاف غزة” جنوباً. وجاء هذا القرار لأن اسرائيل كانت تخشى أن يُقدم حزب الله على عملية شبيهة بـ ٧ أكتوبر الفلسطيني وأن يحتجز عدداً كبيراً من الأسرى، فبادرت إلى نقل بعض السكان وحوّلت معظم هذه المستوطنات إلى مواقع عسكرية تشغلها وحدات من الجيش الإسرائيلي استعملت فيما بعد كقواعد انطلاق للهجوم على لبنان ومحاولات اختراق الحدود اللبنانية.
وفي نهاية الأمر لم يعد النازحون (للمفارقة يرفضون العودة ويضعون شروطاً على الحكومة الإسرائيلية) إلا بموجب “الإعلان” الأميركي الفرنسي بموافقة لبنان وإسرائيل.
هل يسيطر على قوى الأمن الداخلي؟ هل يسيطر علي الحكومة اللبنانية؟ هل يسيطر على القطاع المصرفي خصوصاً بعدما قرر الاحتياطي الفدرالي الأميركي عام ٢٠١٧ منع حزب الله من استعمال القطاع المصرفي ونفذت المصارف اللبنانية هذا القرار وأبلغت كل من تشتبه بعلاقته أو تأييده لحزب الله بوجوب سحب أمواله ومن ثم إغلاق حساباته
رابعاً؛ دور إيران:
يتداول بعض الإعلام المحلي والعربي والدولي الكثير من المعلومات والتحليلات عن دور أساسي لإيران في قيادة عمليات حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان ويعتبرهما بالإضافة إلى تنظيمات أخرى “وكلاء إيران” أو “أذرعة إيران”. يريد هؤلاء ايهام الرأي العام الذي يتابعهم أن الصراع في المنطقة هو صراع إيراني ـ إسرائيلي وأن الفلسطينيين واللبنانيين حشروا أنوفهم في صراع لا يخدم إلا ما يسمونه “المشروع الإيراني” أو “الفارسي” في غزة والضفة ولبنان، ناسين أو متناسين أنّه صراع عربي إسرائيلي وتحديداً فلسطيني إسرائيلي ناهز عمره السبعين عاماً. حقيقة الأمر أنهم يريدون إظهار الشعب الفلسطيني مناضلاً ليس في سبيل تحرير بلده من الاحتلال الإسرائيلي بل ساعياً إلى “خدمة مشروع ايران” الإقليمي، وفي ذلك إفتئات ما بعده إفتئات على النضال الوطني الفلسطيني، كما على نضال اللبنانيين لتحرير أرضهم ودعم أبناء جلدتهم.
ففي لبنان يكثر الكلام عن أن إيران أنشأت حزب الله في عام ١٩٨٢ كذراع لها في المنطقة انطلاقاً من لبنان، وهم يغفلون ما جرى في ذلك العام من اجتياح إسرائيلي للبنان ووصول الجيش الإسرائيلي إلى مشارف العاصمة بيروت وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي والتي كان حزب الله جزءاً فاعلاً فيها ولم يكن كلها. وبهذا يصبح في هذا الإعلام، الذي تحول مع الأسف الى ثقافة لدى البعض، كل من يقاتل الاحتلال الإسرائيلي وكيلاً لايران!
خامساً؛ سيطرة حزب الله على قرار لبنان:
هذا المصطلح بات شائعاً وممجوجاً ويتكرّر في معظم وسائل الإعلام اللبنانية والعربية. ولكن هل حزب الله يسيطر فعلاً؟
نبدأ بالقوات العسكرية والأمنية. هل حزب الله يسيطر على الجيش اللبناني؟ هل يسيطر على قوى الأمن الداخلي؟ هل يسيطر علي الحكومة اللبنانية؟ هل يسيطر على القطاع المصرفي خصوصاً بعدما قرر الاحتياطي الفدرالي الأميركي عام ٢٠١٧ منع حزب الله من استعمال القطاع المصرفي ونفذت المصارف اللبنانية هذا القرار وأبلغت كل من تشتبه بعلاقته أو تأييده لحزب الله بوجوب سحب أمواله ومن ثم إغلاق حساباته.
من يُسيطر؟
الأمر ينطبق على كل الوزارات مثل التربية والأشغال والاتصالات والعدلية والخارجية. هل يسيطر حزب الله عليها كلها؟
سادساً؛ مشكلة سلاح حزب الله:
سلاح حزب الله بدأ عام ١٩٨٢ لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. من يذكر حالة الوهن والتفكك التي أصابت الجيش اللبناني جراء الحرب الداخلية والانقسام السياسي الحاد من عام ١٩٨٢ لغاية ١٩٩٠ وهي فترة نمو المقاومة؟ ومن عام ١٩٩٠ حتى تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ استخدم حزب الله سلاحه لمقاومة الاحتلال. بعد ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ تحديداً لمّ تتجرأ أي دولة كبرى أو إقليمية أن تضمن عدم اعتداء إسرائيل على لبنان، فكان سلاح حزب الله قوة ردع لحماية لبنان.
لا يجوز تحميل الجيش اللبناني ما لا طاقة له عليه برغم أنه يُنفّذ بكفاءة عالية المهام العسكرية والأمنية بالوسائل المتاحة وقدّم الشهداء (٤٦ شهيداً في هذه الحرب)، أي كما يُقال “كان يقاتل باللحم الحي”، بكل معنى هذه الكلمة
سابعاً؛ دور الجيش اللبناني:
يتعاطى بعض الإعلام مع الجيش اللبناني وكأنه قوة مستقلة، ويتناسى أن الجيش مؤسسة رسمية وطنية تخضع للحكومة اللبنانية حسب الدستور اللبناني. وهو بتركيبته مؤسسة جامعة لكل اللبنانيين ويحظى بدعم واحترام جميع القوى السياسية في لبنان. ما يطلبه هذا الإعلام من الجيش أكبر بكثير من قدرته وطاقته وهذا ما عبّر عنه الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، وفقاً لشبكة “إم إس أن بي سي” التي نقلت عنه قوله إن الجيش اللبناني “غير مجهز للانتشار من اليوم الأول في الجنوب”، وأضاف “علينا دعم الجيش اللبناني والاقتصاد والشعب وإن لم نفعل ذلك فسوف نعود إلى هذا الصراع”.
لذلك لا يجوز تحميل الجيش اللبناني ما لا طاقة له عليه برغم أنه يُنفّذ بكفاءة عالية المهام العسكرية والأمنية بالوسائل المتاحة وقدّم الشهداء (٤٦ شهيداً في هذه الحرب)، أي كما يُقال “كان يقاتل باللحم الحي”، بكل معنى هذه الكلمة.
ثامناً؛ النظرة إلى إسرائيل:
ينظر هذا الإعلام إلى إسرائيل ولبنان كأنهما مثل اليونان وإيطاليا، أي تربطهما علاقات جيرة عادية. ينسى هؤلاء أن دولة إسرائيل لم تُحدّد حدودها بعد في دستورها (ليس لها دستور مكتوب). وسبق أن هاجمت لبنان واحتلت قسماً من أراضيه ولا تزال منذ العام ١٩٤٨، تاريخ نشوء هذا الكيان (مجزرة حولا) حتى الأمس القريب.
في إسرائيل هناك دعوات لتدشين مرحلة جديدة من الاستيطان في شمال غزة وتعزيزه وهناك دعوات إلى قضم المزيد من الضفة وضم أراضٍ في لبنان والأردن ومصر بالإضافة إلى قانون يهودية الدولة الذي يضع قسماً من المواطنين، أي العرب من مسلمين ومسيحيين ودروز وبدو في الدرجة الثانية في المواطنية..
أخيراً؛ عندما توجه الشهيد ياسر عرفات إلى إسرائيل في إطار “اتفاق أوسلو” عام ١٩٩٣ ومنحها الاعتراف وعرض السلام بجدية، بادله الإسرائيليون بالاستيطان في الضفة ومصادرة أراضي الفلسطينيين بدلاً من إنشاء دولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس الشرقية.
إلى من تلتبس عليهم الكثير من المفردات أقول إن المشكلة في المنطقة هي اسرائيل، الدولة العنصرية التوسعية العدوانية الإحلالية (صدرت بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير حربه الاسبق يوآف غالانت مذكرتي اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية) وليست إيران أو سوريا أو فتح أو حماس أو حزب الله. كل مشاكل المنطقة هي من نتاج إسرائيل واحتلالها الأراضي العربية.. حبذا لو يُركّز المثقفون والإعلاميون على الطبيعة العدوانية والعنصرية لإسرائيل بدلاً من التلهي بالكيديات أو القضايا الهامشية.