تعتبر قضية الأمن المائي في كل من سوريا والعراق وتركيا قضية متشابكة ومعقدة ذات جذور تاريخية، ترتبط بالعوامل السياسية المحيطة بالبلدان الثلاثة، والتطورات الميدانية التي تشهدها، حيث تعتبر تركيا الحلقة الأقوى في هذه القضية كونها تسيطر على منابع أبرز الموارد المائية التي تغذي سوريا والعراق (الفرات، ودجلة).
وتمثل مياه حوضي الفرات ودجلة والخابور حوالي 56 في المئة من المياه السورية (تقسم سوريا هيدرولوجياً إلى سبعة أحواض مائية: بردى والأعوج، اليرموك، العاصي، الساحل، البادية، دجلة والخابور، الفرات).
في العام 2013، تم تصنيف سوريا من الدول الجافة وشبه الجافة، حيث بلغ متوسط العجز المائي بين عامي 2002 و2012 حوالي 1.5 مليار متر مكعب، وفق وزارة الموارد المائية السورية. وعاشت سوريا في الفترة الممتدة من العام 2005 إلى العام 2010 فترة جفاف شديد، كانت ذروته بين عامي 2007 و2008 حيث بلغ العجز المائي حوالي 3.5 مليار متر مكعب، الأمر الذي خلّف آثاراً اجتماعية واقتصادية كبيرة، حيث ساهمت هذه الموجة بتغييرات ديموغرافية إثر عمليات النزوح من المناطق المتضررة من الجفاف في الشرق السوري إلى محيط المدن، ما تسبب بأضرار كبيرة في القطاع الزراعي من جهة، وأدى إلى ارتفاع عدد سكان المدن ومحيطها، بجانب نمو كبير في مناطق السكن العشوائي.
الفرات وتركيا
رفضت تركيا اعتبار الفرات ودجلة نهرين دوليين, اذ اصرت على أنهما نهران عابران للحدود في مخالفة للقوانين الدولية الناظمة، الأمر الذي يعتبر أحد أبرز الملفات الخلافية بين سوريا وتركيا، قبل أن يوقع البلدان العام 1987 اتفاقاً مؤقتاً بعد صراع أمني شكلت قضية الأكراد أحد أبرز محاوره. ويقضي الاتفاق بأن تسمح تركيا بمرور ما لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية، على أن تمرر سوريا للعراق ما لا يقل عن 58 في المئة من هذه الكمية إلى العراق بموجب اتفاق لاحق تم توقيعه.
ومنذ توقيع الاتفاقات لم تلتزم تركيا بشكل كامل بها، حيث قامت خلال فترات متلاحقة بقطع المياه تارة، وتقليل كميات المياه الواردة إلى سوريا والعراق تارة أخرى، وقد ارتبط هذا الملف بالتطورات السياسية وطبيعة العلاقات التركية السورية التي تدهورت بشكل كبير إثر اندلاع الحرب العام 2011 ، وذلك بعد سنوات من العلاقات الطيبة والانفتاح الكبير بين البلدين خلال السنوات التي سبقت الحرب.
ومع تدهور العلاقات السورية – التركية، عادت تركيا مرة أخرى إلى التلاعب بكميات المياه الواردة إلى سوريا واستعمال المياه كسلاح في حربها، خصوصاً مع تعاظم قوة الأكراد بدعم أميركي، والمعارك التي خاضتها تركيا ضد الأكراد على الأراضي السورية.
واستعملت تركيا المياه سلاحاً بشكل مباشر مرات عديدة في حربها، سواء مياه نهر الفرات، أو حتى مياه الشرب، حيث قطعت مياه الشرب عن نحو 450 ألف شخص في محافظة الحسكة أكثر من مرة خلال الشهور الماضية عن طريق إغلاق خطوط المياه في محطة العلوك التي تغذي رأس العين والحسكة والتي تسيطر عليها تركيا في الدخل السوري.
إضافة إلى ذلك، تعمل تركيا بشكل متزايد على تحصين أمنها المائي عن طريق إقامة السدود (مشروع “GBA” المتضمن إقامة 22 سدا و19 محطة كهرومائية لاستصلاح 1.9 مليون هكتار على نهري دجلة والفرات)، الأمر الذي أثر بشكل كبير على كميات المياه المرسلة إلى سوريا والعراق.
ويشكل الأمن المائي بالنسبة لتركيا تحدياً مستقبلياً كبيراً في ظل الدراسات التي تشير إلى ارتفاع درجات الحرارة بين 2.5 و3.5 درجة مئوية وانخفاض كميات الأمطار بين 25 و35 في المئة مع حلول العام 2100، وما يرافق هذه التغيرات من تأثير كبير على الموازنة المائية في تركيا.
وفي ظل هذه التوقعات، وبالنظر إلى السياسة التركية الحالية، وعدم وجود اتفاقية واضحة حول نهري الفرات ودجلة، من المتوقع أن تستمر تركيا في تخفيض كميات المياه الموردة من هذين النهرين إلى سوريا والعراق، لتغطية النقص المتوقع لديها، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى نتائج كارثية على البلدين.
وإضافة إلى ذلك تعاني سوريا من مشكلة تلوث المياه بسبب تسرب النفط في حوض الفرات جراء الاعتداءات التي طالت بعض آبار النفط، الأمر الذي يعقد من مستقبل الأمن المائي خصوصاً مع استمرار الأضرار البيئية التي يسببها التلاعب التركي المقصودة بكميات المياه.
كذلك، تعاني سوريا من مشكلة الاستخراج غير المنضبط للمياه الجوفية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، والاعتماد الكبير على المياه الجوفية في بعض المناطق لتأمين احتياجات السكان، وتوقعت دراسات عدة أن يصل العجز المائي في سوريا إلى حدود 6.2 مليار متر مكعب مع حلول العام 2050.
وتسببت الحرب بدمار كبير في البنية التحتية في سوريا، حيث توقفت معظم محطات معالجة مياه الصرف الصحي، في ظل عدم توافر قطع الغيار وانقطاع التيار الكهربائي بسبب الدمار الذي لحق بقطاع الطاقة إضافة إلى النقص المتواتر للوقود سواء بسبب خروج أبرز حقول النفط عن سيطرة الحكومة (تقع في مناطق سيطرة قسد وتسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية)، أو بسبب العقوبات الأوروبية والأميركية (آخرها عقوبات قيصر) التي تضيق الخناق على عمليات استيراد المحروقات، الأمر الذي يساهم بدوره في زيادة التلوث في المياه السطحية والجوفية.
وعلى الرغم من المستقبل المائي القاتم في سوريا الذي يحكمه المزاج والمصالح التركية، يظهر الأثر الأكبر والمباشر للسياسة التركية في الوقت القريب على العراق، الذي يعاني أزمات مائية متلاحقة، وسط توقعات بجفاف شديد الوضوح لنهر الفرات باتجاه الجنوب مع حلول العام 2025، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.