كان الإنطباع السائد أن النظام السوري يريد تجميع هؤلاء المقاتلين في مدينة واحدة تمهيداً لإجراء محرقة بضوء أخضر دولي في التوقيت المناسب، غير أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، إذ أن هؤلاء المقاتلين استفادوا من وجودهم في هذه المدينة المحاصرة وراحوا يحاولون تقديم نموذج للإدارة المدنية عبر تشكيل وزارة معنية بالقطاعات الخدماتية والشرطة والمقاتلين إضافة إلی توزيع المساعدات التي وفّرتها تركيا لمدينة إدلب ما أدی إلی تعميق العلاقات بين الجيش التركي الذي توغل في الأراضي السورية عام 2016 والمقاتلين الذين ينتمون إلى منظمات وميليشيات متعددة ومتنافسة علی الاستحواذ علی ادارة القتال وعلی قيادة الفصائل الأخری؛ إضافة إلی امتداد هذه الفصائل داخل الأراضي التركية وحصولهم علی غطاء أمني وسياسي واقتصادي من السلطات التركية في سياق معادلة عميقة ومعقدة اخترعتها السلطات التركية.
ومع إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعدها، طوال ثلاث سنوات، ثم الأحداث المتتالية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في كل من فلسطين ولبنان؛ صار “مسار أستانة” عديم الطعم واللون والرائحة إلى الحد الذي لم يعد فيه قادراً علی إدارة هذا المسار الذي كان يهدف في نهاية المطاف إلى إجراء مصالحة سورية سورية واشراك المعارضة مع النظام في شراكة تقوم علی تغيير الدستور واجراء انتخابات حرة وتشكيل حكومة علی أساس الدستور الذي يوافق عليه الشعب السوري.
أخطأ النظام السوري في عدم تقييم أبعاد حصر المقاتلين في مدينة ادلب؛ ومخاطر وجودهم في قلب الأراضي السورية؛ كما أنه أخطأ في عدم الاستجابة لاقتراحات روسية وإيرانية بفتح حوار مع المعارضة السورية، ذلك أن الحل الأمني والعسكري يجعل الأزمة السورية كالجمر تحت الرماد بينما الحل السياسي يحفظ وحدة سوريا وقواعد المشاركة الوطنية في إعادة إعمارها وترميم وحدتها الوطنية.
قد لا يكون مفيداً الآن الخوض في سردية النظام السوري، وهي سردية طويلة ممزوجة بتداعيات تاريخية وسياسات طويلة مارسها حكم حزب البعث منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن تفنن خلالها في تنفيذ قواعد الديكتاتورية والاستبداد بحق الشعب السوري وقومياته ومناطقه؛ لكن سوريا التي خرجت من هذه المخاضات الصعبة ومن سنوات الاستبداد القاسية؛ أمامها الآن طريق طويل وصعب للوصول إلی بحر الأمان
وفي موازاة ذلك، أفسح استمرار الحرب على غزة بكل تداعياتها علی دول المنطقة المجال أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكي يتسيد المشهد الإقليمي ويتصرف على قاعدة الاستمرار في الحرب وتوسيعها لكي يضمن مستقبله السياسي من جهة ويضع المنطقة أمام خيارات جديدة من جهة ثانية، مستفيداً من لحظة 7 أكتوبر وما أحدثته في وجدان الإسرائيليين من خوف وجودي. عملياً كان نتنياهو يهزأ بكل المبادرات الأمريكية لوقف اطلاق النار في غزة، حتى أنه عندما قرّر حزب الله الفصل بين غزة ولبنان، بموافقة الأمريكيين والأوروبيين، بادر إلى وضع توقيعه على أمر اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وصولاً إلى شن حرب على لبنان طوال 66 يوماً، بعنوان “تصفية مؤسسة حزب الله”.
والظاهر أن الكيان الإسرائيلي استغل الحرب التي أشعلها بوجه “حزب الله” لإقناع إدارة الرئيس جو بايدن باسقاط النظام السوري من خلال تفعيل دور المقاتلين في ادلب بمساعدة تركية مستغلين في ذلك الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي تمر بها سوريا، شعباً ومؤسسات وموظفين، إضافة إلی استمرار الحرب الأهلية منذ أكثر من 13 عاماً بين السوريين، ما أدى إلى تعاظم الجرح السوري، ناهيك بالعقوبات الدولية الظالمة ولا سيما “قانون قيصر” الذي أدى أيضاً إلى إفقار معظم الشعب السوري.
وكان قد عُقِدَ اجتماع في مدينة اسطنبول التركية في أيلول/سبتمبر الماضي، كما يقول العميد أحمد رحال، العضو البارز في تنظيم “الجيش السوري الحر”، ضمّ فصائل إدلب المسلحة ومسؤولين في المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية التي سخّرت امكاناتها العسكرية والمالية والأمنية في الوقت الذي تم الاتصال بشخصيات كبيرة في قيادة الجيش السوري التابعة للنظام من أجل قيادة عمليات تؤدي إلى اسقاط النظام السوري.
في هذا السياق، أعطى السقوط السريع والمفاجىء لمدينة حلب وريفها، ثاني أهم المحافظات السورية، مؤشراً واضحاً إلی أن أحجار الدومينو بدأت بالتساقط، وهو ما حدث بالفعل حيث سقطت المحافظات السورية خلال أقل من أسبوعين بيد “هيئة تحرير الشام” التي دعمها اجتماع اسطنبول، على قاعدة أن تنضوي تحت لافتتها جميع الفصائل التي كانت مدرجة علی اللائحة الإرهابية، أممياً وأمريكياً وأوروبياً وحتی تركياً.. بعد تغيير لونها ورايتها وطعمها ورداءها إلخ..
قد لا يكون مفيداً الآن الخوض في سردية النظام السوري، وهي سردية طويلة ممزوجة بتداعيات تاريخية وسياسات طويلة مارسها حكم حزب البعث منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن تفنن خلالها في تنفيذ قواعد الديكتاتورية والاستبداد بحق الشعب السوري وقومياته ومناطقه؛ لكن سوريا التي خرجت من هذه المخاضات الصعبة ومن سنوات الاستبداد القاسية؛ أمامها الآن طريق طويل وصعب للوصول إلی بحر الأمان والاستقرار في ظل عوامل جيوسياسية مهمة، لعل العامل الأهم بينها أن تتقاطع مصلحة اللاعبين الدوليين والإقليميين عند بقاء سوريا موحدة.
ومن المؤكد أن عناصر سياسية وميدانية عدة تتحكم بالموقف؛ فالقوات الأمريكية الموجودة في شرق الفرات دخلت إلى سوريا من أجل مكافحة الحركات الإرهابية وأصبحت الآن هي اليد السياسية الامريكية التي تتحكم بقرار سوريا. في الجانب الآخر؛ هناك القوات التركية التي اجتاحت سوريا بعنوان مواجهة الحركات الكردية الانفصالية ولا سيما “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تسيطر علی المناطق الكردية حيث يعطيها الوجود الأمريكي غطاء سياسياً وأمنياً وعسكرياً. وهناك أيضاً إسرائيل التي باتت لاعباً على الأرض السورية من خلال احتلالها منطقة فض الإشتباك والتوغل في نقاط قريبة من دمشق ومن الحدود اللبنانية السورية، فضلاً عن احتلال أعلى تلال جبل الشيخ.
وماذا عن المعارضة السياسية السورية؟
هذه المعارضة مُوزعة علی عدة عواصم. فهناك أولاً منصة موسكو؛ ثانياً منصة القاهرة؛ ثالثاً منصة اسطنبول؛ منصة رابعة في عدد من الدول الخليجية؛ ومنصة خامسة موزعة في عدد من الدول الأوروبية وأمريكا؛ ولكل من هذه المنصات والشخصيات أجندته وارتباطاته وحساباته الإقليمية والدولية. واذا ما أردنا التعرف علی تفاصيل هذه الخارطة التي من المفترض أن تجتمع لتغيير الدستور وإجراء الانتخابات النيابية يجب النظر إلی الجهات التي شاركت مؤخراً في مؤتمر العقبة العربي الدولي في العاصمة الأردنية من ديسمبر/كانون الأول الجاري، وأصدرت بياناً خجولاً لا يرتقي إلى مستوى اللحظة السورية والإقليمية والدولية.
إن الدول التي اجتمعت في الأردن من حقها الاجتماع من أجل استيعاب ما يمكن استيعابه من تطورات مقلقة للجميع؛ لكن دخول الكيان الإسرائيلي علی هذا الخط، تخطيطاً وتنفيذاً، يجعل هذه الأزمة تتصاعد لتحقيق أهدافها في خلق “شرق أوسط جديد” علی مقاسات نتنياهو.. هل يمكن تحقيق ذلك؟
ربما احتجنا إلى مقال قادم جديد لاحقاً يوضح أبعاد سردية الشرق الأوسط الجديد!.