في العام 2000، إستشعر رفيق الحريري أنه لا يريد ترك المؤسسات التي يديرها في العالم بعهدة فريق يقوده هو شخصياً. قرر توزيع المهمة بين نجليه بهاء وسعد. سألهما: أحدكما يجب أن يدير أمبراطورية سعودي أوجيه والآخر باقي مؤسسات الأمبراطورية الحريرية في لبنان والعالم. ترك لهما أن يختارا، وأعطى إشارة إلى بهاء، حتى يحدد خياره أولاً. طلب الإبن الأكبر التريث قبل أن يعطي جوابه النهائي.
حدّد الديوان الملكي موعداً لرفيق الحريري. الهدف هو تقديم ولديه بهاء وسعد للملك فهد بن عبد العزيز. دخل الأب إلى مكتب رئيس الديوان الملكي كعادته، بينما كان ولداه ينتظران في أحد صالونات القصر الملكي في الرياض. تأخر الموعد حوالي الساعتين. غادر بهاء المكان متأففاً، بينما بقي سعد “صامداً”. وعندما همّ رفيق الحريري بالدخول على فهد، هاله ما فعله بهاء. قدّم نجله سعد للملك السعودي، وزفّ إليه أن “إبنك (سعد) يا طويل العمر، سيتسلم مسؤولية سعودي أوجيه منذ الآن فصاعداً”.
كانت إشارة التهور الصادرة عن بهاء مُحرِجة جداً للأب وكافية حتى يحسم قراره في تلك اللحظة، خصوصاً وأن نجليه كانا قد خاضا معمودية “التدريب” والتدرج في سعودي أوجيه، منذ أن تسلم والدهما رئاسة الحكومة للمرة الأولى في العام 1992، وثمة إنطباعات عن إمكانيات كل واحد منهما كانت تصل للحريري الأب بالتواتر.
وبالفعل، تفرّغ سعد لأمبراطورية سعودي أوجيه منذ العام 2000. في الوقت نفسه، أدى مرض الملك فهد إلى تقدم دور ولي العهد (الملك عبدالله لاحقاً). طلب الأب من سعد أن يعطي جزءاً كبيراً من وقته لمن كان بيده ختم الديوان: عبد العزيز بن فهد (عزوز) نجل الملك فهد. هكذا تعززت علاقة الشابين نظراً إلى تقارب عمريهما (سعد أكبر بثلاث سنوات). كانت قيمة سعد عند والده أنه جلود وصبور (كالجمل) ومواظب. يتعامل مع أمراء مزاجيين ومع ديوان ملكي تعشعش فيه منظومة فساد ومحسوبيات راسخة ومتجذرة. كانت تقتضي المعاملة أحياناً أن يطارد سعد الحريري نجل الملك فهد أياماً لا بل أسابيع وشهوراً، حتى يفوز بتوقيعه، سواء في نهاية رحلة صيد في الصحراء أو رحلة إستجمام على متن يخت في سردينيا!
لم يتردد عبدالله في إتخاذ قراره: سعد وريث رفيق الحريري. نزل الخبر كالصاعقة على بهاء. باقي الأخوة “من البطنين” (نازك الحريري ونضال بستاني) لم يفاجئهم القرار السعودي. منذ ذلك التاريخ، حقد الأخ الأكبر على سعد والسعودية
عندما إغتيل رفيق الحريري، كان عبدالله هو الملك الفعلي. ولي العهد ومنذ أن أصيب فهد بجلطة في نهاية العام 1995، صار عملياً هو الممسك بالإدارة اليومية للمملكة، وتوطدت بعد ذلك علاقته بالحريري الأب.
بين العامين 2000 و2005، إختبر السعوديون سعد جيداً. لم يتردد عبدالله في إتخاذ قراره: سعد وريث رفيق الحريري. نزل الخبر كالصاعقة على بهاء. باقي الأخوة “من البطنين” (نازك الحريري ونضال بستاني) لم يفاجئهم القرار السعودي. منذ ذلك التاريخ، حقد الأخ الأكبر على سعد والسعودية. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يحاول محمد بن سلمان إستخدام بهاء في العام 2017، برغم عدم إحترام معظم الأمراء السعوديين له. الأمر نفسه بَانَ بشكل واضح في الأشهر الأخيرة. دقّ بهاء الباب مراراً ولم يُفتَح له الباب السعودي حتى الآن، برغم الكثير من التخمينات والتحليلات.
منذ وصول محمد بن سلمان إلى سدة الحكم فعلياً، إرتسمت ملامح علاقة جديدة بين السعودية وسعد الحريري. حملة التطهير في الداخل السعودي أطاحت بكل “الفرقة السعودية” التي راهن سعد عليها وراكم مع كل واحد منها طوال عقد ونصف من الزمن. أطاح بن سلمان بأولاد عبدالله جميعاً وبمحمد بن نايف وبخالد التويجري الذي كان جزءاً من “مفرزة سبّاقة” في الديوان الملكي، نالت من رفيق الحريري ومن بعده من نجله سعد، الكثير من المال والعقارات والخدمات، بفضل “التوقيع الألماسي”، الذي هو الممر الإلزامي لكل معاملات وصفقات ومناقصات سعودي أوجيه في المملكة. على سبيل المثال لا الحصر، إحتاج إقناع ولي العهد بالنزول في قصر قريطم، لا في أحد فنادق العاصمة، أثناء مشاركته في القمة العربية في بيروت (2002)، شراء شقة فاخرة لرئيس الديوان (حامل مفاتيح الخزنة.. والأسرار الملكية) تطل على بحر بيروت.
عندما إستدرج السعوديون الحريري إلى الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، لم تكن أسبابهم سياسية أبداً، برغم جرحهم اليمني المفتوح وإتهامهم حزب الله بتوريد الأسلحة والخبرات والمقاتلين إلى الحوثيين. كان الملف مالياً وفي سياق قرار بن سلمان القاضي بإستعادة 100 مليار دولار من أمراء ومواطنين سعوديين، بينهم سعد الحريري، بصفته يحمل الجنسية السعودية وللدولة عليه مستحقات تتجاوز الثماني مليارات دولار، ناهيك عن محاولة فك أسرار المنظومة التي كان يلم خالد التويجري بكل تفاصيلها.
ثمة نقطة هامة في هذا السياق، وتتمثل بالدور الذي لعبه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد. لا كيمياء بين الحريري وبن زايد، أولاً. ثم هناك مشكلة مالية عالقة بينهما بقيمة 300 مليون دولار. لعب “السمع” دوره. تأثير بن زايد على بن سلمان أدى إلى شطب “الفرصة الحريرية”. كل محاولات سعد في التقرب والتودد وبث الكيمياء بشكل مفتعل، لم تنتج إلا حقداً كان يتراكم وإنعدام ثقة كان يكبر، وتُرجما بقرار توقيف الحريري.
هنا، أدت ظروف إطلاق سراح رئيس وزراء لبنان، بتدخل دولي، وتحديداً فرنسي، إلى تعمق الأزمة بين بن سلمان وسعد. كل ما أعقب هذا التاريخ كان مفتعلاً، من زيارة الحريري الأولى إلى المملكة (28 شباط/فبراير 2018)، بترتيب فرنسي، إلى يومنا هذا. ساهم “كتبة التقارير”، ومعظمهم لبنانيون، في تعميق الهوة. لم يتركوا تفصيلاً دقيقاً إلا وكتبوه طوال سنتين.
من يُدقق بما يقوله السعوديون، من سفيرهم في بيروت، إلى الممسكين بمفاتيح الديوان الملكي، مروراً بمحمد بن زايد، يتبين له أن السعودية قررت طي صفحة سعد الحريري في لبنان
كان خروج سعد الحريري من التسوية الرئاسية حتمياً، لأسباب سعودية أولاً وشخصية وسياسية ثانياً. منذ إستقالته من الحكومة في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2019، جرّب الحريري، بناء على نصائح المقربين منه، إعادة مد جسور العودة إلى “الحضن السعودي”، غير أنه لم يجد إلا أبواباً موصدة. يقول السعوديون إنهم أعطوه فرصتين أخيرتين هما “محاولة جس نبض”: الأولى، أن يتخذ موقفاً من حزب الله فور صدور حكم المحكمة الدولية.. “وقد خيّب أملنا لأنه رجل لا يفي بتعهداته”. الثانية، أن يسمي نواف سلام رئيساً للحكومة، وقد خالف رأينا.
هذا النص لا يهدف إلى “تبييض” سمعة الحريري. هو محاولة سردية لمعرفة أسباب الأزمة بين الطرفين، لكن هل يمكن القول، في هذه اللحظة تحديداً، أن السعوديين قرروا شطب سعد من حساباتهم اللبنانية؟
الجواب، نعم.
من يُدقق بما يقوله السعوديون، من سفيرهم في بيروت، إلى الممسكين بمفاتيح الديوان الملكي، مروراً بمحمد بن زايد، يتبين له أن السعودية قررت طي صفحة سعد الحريري في لبنان. لم يعُد الرجل لا حليفاً ولا صديقاً ولا إبناً باراً للمملكة. ينظرون إليه نظرة عدائية غير قابلة للتعديل أو التبرير. حاول سعد تفسير موقفه. طلب سلسلة مواعيد. حُذف الطلب نهائياً. لا أحد يجرؤ في الديوان على مجرد ذكر إسمه. يتصرفون معه بصفته سعودياً مطلوباً ومتوارياً عن الأنظار. الكلام الذي سمعه من رئيس المخابرات خالد الحميدان، في آخر لقاء بينهما، كان قاسياً للغاية وخارج كل اللياقات التي يتحلى بها عادة من يلعبون أدواراً سياسية من أهل الأمن والإستخبارات.
هل سيحاول الحريري دقّ الأبواب مجدداً؟
على الأرجح، ولكنه في الوقت نفسه، بدأ يتصرف على أساس أن الحاضنة الإقليمية غير موجودة. إنتقل الرجل نفسياً وسياسياً وعملياً إلى “الحضن الفرنسي”. قرر أن يلعب في هذا الملعب الدولي المفتوح على الشرق والغرب. على طهران وواشنطن.. و”المملكة” نفسها. على كل اللبنانيين بإستثناء القوات اللبنانية و”المبادرة الوطنية” وبعض “الدكاكين” السياسية والإعلامية المستجدة.
هل الحضن الفرنسي كافياً؟
لا، على الأرجح. لذلك، لن يوفر الحريري، فرصة المظلة العربية. هنا تحديداً، ثمة رهان واضح على مصر. الدبلوماسية المصرية قررت الإنفتاح عليه وأن تبقى قريبة منه. هوامش القاهرة من جهة وهوامش الحريري من جهة ثانية، قد تفتح الباب أمام رهان كبير من هذا النوع. هل يعني ذلك أن المشروعية المشتهاة سنياً من المملكة العربية السعودية قد إنتفت؟
يبدو وكأن سعد الحريري يبحث عن مظلة الأمان. هو كمن يجلس إلى طاولة القمار ويضع كل ما بقي في رصيده في خانة واحدة إسمها “المبادرة الفرنسية”. إذا نجحت، نجح الحريري، وإذا فشلت، فشل هو أيضاً
حتى الآن، لا إنتفاء للدور السعودي. الحضور السعودي في لبنان ما زال خجولاً. القدرة على إقفال بيت سعد الحريري بالأدوات السعودية الحالية (السياسية فقط) شبه معدومة. إذا قرر محمد بن سلمان إغراق الوضع السني بالرافعة الإجتماعية (مال وخدمات)، سواء عن طريق دار الفتوى أو اية مرجعية سنية أخرى، يمكنه توجيه ضربة كبيرة للحريري، لكن طالما أن المعركة سياسية، فإن جمهور الحريرية اللبنانية، وبرغم ملاحظاته وتحفظاته على زعيمه، وبرغم غضبه وإحباطه من أدائه وإرتجاله، يتصرف معه بوصفه الأول، ليس بين متساوين بل بوصفه يتقدم كثيرا على أية ظاهرة سنية أخرى، أقله من ناحية حضوره في كل المناطق والقطاعات والشرائح، بينما يطغى على الآخرين حضور مناطقي وحذر من أي إقدام على إقتحام كل الواقع السني في لبنان من الشمال إلى الجنوب، مرورا بالعاصمة والبقاع وساحل الشوف.
الإستنتاج السريع أن الحريري ما زال يغرف من رصيد والده الشهيد. رصيد شعبي كبير ومترامي الأطراف، محليا وخارجياً، ولكن السؤال هل هذا التفويض من جمهور رفيق الحريري هو تفويض مفتوح؟
حتماً، ليس مفتوحاً لا سيما وأن هذا الجمهور يشعر، يوماً بعد يوم، بإفتقاده إلى مظلة الأمان، بكل أبعادها، مقارنة بغيره من “الجماهير” التي تأوي إلى قنها الطائفي أو المذهبي، وتجد “ديكاً” أو “ديوكاً” تحميها وتغذيها وترعاها.
في هذه اللحظة، يبدو وكأن سعد الحريري يبحث عن مظلة الأمان. هو كمن يجلس إلى طاولة القمار ويضع كل ما بقي في رصيده في خانة واحدة إسمها “المبادرة الفرنسية”. إذا نجحت، نجح الحريري، وإذا فشلت، فشل هو أيضاً. عندها، ستكون هوامشه ضيّقة جدا. سينسحب الفرنسي من لبنان ويذهب إلى حيث يشتهي له السعودي وربما الأميركي أن يكون. إلى العقوبات وبئس مصير لبنان. هذه هي اللحظة التي ينتظرها السعودي والإماراتي. أن يأتي إليه الحريري ـ بعد الفرنسي ـ صاغراً يقبل بكل الإملاءات. عندها سيتعرف الجمهور اللبناني على نسخة سعد الحريري الثالثة. نسخة متطرفة أكثر من أي وقت مضى. صحيح أنه سبق له أن تعرف عليها أو على بعض منها، في مرحلة لبنانية ما، لكنها ستكون هذه المرة، جزءاً من خلطة دولية وعربية قاسية جداً، وأقرب ما تكون إلى نسخة بن لادن اللبنانية.
دققوا في الحركة التي يشهدها بيت الوسط في هذه الأيام، وبالخط المفتوح بين باريس وسعد الحريري على مدار الساعة. هنا “مربط التأليف” بشروط الحريري ومواصفاته، أو “مربط تزحيط” مصطفى أديب تمهيداً لعودة زعيم تيار المستقبل على حصان فرنسي أبيض اللون.
دققوا أيضاً بمداخلة الحريري في إجتماع قصر الصنوبر، بحضور إيمانويل ماكرون وقادة الأحزاب اللبنانية. المهلة محددة فرنسياً وحريرياً. يدخل الإثنان معاً إلى مرحلة جديدة ويخرجان معاً في إتجاه المجهول اللبناني.. للبحث صلة.