“منذ بداية المظاهرات في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 أدى الحراك إلى الإطاحة برئيس الوزراء ومرشحين لرئاسة الحكومة، واتساع نطاق صراع دولي بالوكالة ليشمل الاغتيالات، واندلاع جائحة كورونا الفتَّاكة التي استنفدتْ جميع موارد نظام الرعاية الصحية في العراق.
وفي خضم كل هذه الفوضى، لم يكن هناك اهتمام كبير بالمطالب التي خرج من أجلها النشطاء العراقيون، الذين يواصلون التظاهر حيثما أمكنهم على الرغم من تعثرهم بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد ووفاة أكثر من 600 شخص منهم منذ بداية الحراك.
ويقول علي خريبط، الناشط المقيم في بغداد والذي شارك في الاحتجاجات المناهضة للحكومة قبل تشرين/أكتوبر 2019، إن البلاد لم تشهد سوى القليل جدًّا من التغيير السياسي الحقيقي في العام الماضي. وقال: «في رأيي لم تحقق الاحتجاجات أي شيء في ما يتعلق بالواقع السياسي”.
وتابع: «أما عن الشارع والشباب العراقي، فقد كان للاحتجاجات تأثير كبير. وفي الماضي، كانت مجموعة صغيرة تحتشد ضد النظام والدمار الذي لحق بالبلاد بعد سقوط نظام صدام حسين، ولكن الآن كل بيت عراقي وكل شابة وشاب يرفضون الحكومة ويعرفون أخطاءها وينتقدون عملها”.
وفي مساء الأربعاء الماضي، وبينما بدأ المحتجُّون مرةً أخرى في التجمع في ساحة التحرير ببغداد للإعداد لمظاهرات جديدة، أصدرت فرقة الروك العراقية «يو تي إن 1» مقطع فيديو موسيقي يعرض النشيد الوطني «موطني»، والذي خُصِّص لذكرى شهداء ثورة أكتوبر، وأظهرت الصور الواردة في مقطع الفيديو صفاء السراي، وتحسين أسامة، وأحمد مهنا، وريهام يعقوب، وهشام الهاشمي، ونشطاء وشخصيات أخرى من بين مئات القتلى والمختفين منذ بدء الاحتجاجات.
وزيَّنتْ صورهم جدران المباني والخيام والملابس واللافتات منذ أكتوبر، مع تصاعد الغضب ضد الأجهزة الأمنية ورجال المليشيات الذين حمَّلهم المتظاهرون مسؤولية القتل.
وبرغم وعودهم المتكررة، فشل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ومسؤولون حكوميون، في كشف الحقيقة بشأن الجناة ومحاسبتهم، ويقول خريبط الذي كان صديقًا مُقربًا لسراي وأقام خيمة مخصصة له في شارع سعدون خارج ساحة التحرير: «لا أعرف ما الذي يحمله المستقبل لنا وللعراق في ظل الأسلحة الخارجة عن السيطرة والميليشيات». وأضاف: «أعتقد أنه لا توجد فرصة لتحسين الوضع طالما بقي هؤلاء الجناة الهاربون طلقاء”.
ويقول عمار الخزعلي، أحد قادة الاحتجاجات في مدينة الديوانية، إن هذا كان «الهدوء الذي يسبق العاصفة» وإن المتظاهرين ينتظرون لمعرفة ما إذا كان الكاظمي قد نفَّذ أيًّا من مطالبهم بحلول الموعد النهائي 25 تشرين/أكتوبر (وهو تاريخ المهلة الجديدة التي أعطاها المتظاهرون للحكومة من أجل تنفيذ مطالبهم قبل إعلان الإضراب العام). وقال: «بعد ذلك ستعود الاحتجاجات بقوة إذا لم تُنفَّذ المطالب المركزية المعلنة”.
الحجم الهائل للمظاهرات التي اندلعت في العام 2019 كان بمثابة صدمة لكثيرين في المؤسسة السياسية. وعلى الرغم من وجود مقدمات لذلك في البصرة في العام السابق (2018)، فضلًا عن حركة شارع راسخة ضد الفساد، لم تشهد البلاد مظاهرات بهذا الحجم منذ الإطاحة بصدام حسين في العام 2003.
كان مشهد الملايين من العراقيين ذوي الأغلبية الشيعية الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج، في تحدٍ لافتراضات طائفية متصورة بشأن البلاد وللحديث بدلًا عن ذلك عن قضايا الخبز والزبدة، مُقلقًا للمؤسسة السياسية.
يقول الخزعلي: «لقد قتلنا الروح الطائفية ورأينا مشاركة جميع الطوائف، وابتعدنا عن لغة الطائفية والقومية، وتحدثنا بلغة الوطن والدولة الواحدة». وتابع: «للمرة الأولى، شاركت معنا جميع الطبقات والمجموعات وشرائح المجتمع، من الصغار والكبار والنساء والرجال من جميع الأعمار، للمطالبة بإصلاحات سياسية دستورية بدلًا عن المطالب الفئوية”.
الرد الوحشي للدولة والقوى المُعادِية، كان مزيجا من عنف الأجهزة الأمنية وموجات من عمليات الاختطاف والإخفاء التي تنفذها جماعات مشبوهة من الميليشيات، بهدف ترويع المحتجين، وكثير منهم كان من الجُدد في الشارع، وإجبارهم على الرضوخ. وعلى الرغم من هذا، وبعد مرور عام، يتأهب النشطاء لموجة كبيرة أخرى، بعد أن تعزَّزت عزيمتهم جزئيًّا بفقدان رِفاقهم.
يقول هشام الموزاني، الناشط في جمعية الأمل العراقية الحقوقية التي تراقب أعمال العنف والانتهاكات ضد المتظاهرين منذ 2019، إن التهديدات وسوء معاملة المتظاهرين تفاقمت. وأضاف: «نرى في هذه الأيام عمليات خطف وقتل، وهناك تقارير كثيرة عن تعقب النشطاء ومحاولة قتلهم واغتيالهم. إن هذا العام أسوأ من عام 2019″.
سلّط مقتل ريهام يعقوب، وهي مُنظِّمة احتجاجات سابقة وناشطة في مجال حقوق المرأة، في البصرة في آب/أغسطس الماضي، الضوء على الاستهداف المستمر للناشطين. وجاءت وفاتها بعد وقت قصير من اغتيال الناشط تحسين أسامة، فيما نجا ناشطان بارزان آخران في المدينة، لوديا ريمون وعباس صبحي، من محاولات اغتيال.
وكان الكاظمي قد تعهَّد مرارًا بمساءلة المسؤولين عن جرائم القتل، وقد اشتدت الضغوط جزئيًا لأن الجماعات المسلحة تستهدف على نحو متزايد المصالح الأميركية في العراق.
والحقيقة أن إطلاق صاروخ ضال من إحدى الميليشيات، والذي كان من المفترض أن يستهدف القوات الأميركية في مطار بغداد وأسفر يوم الاثنين عن مقتل خمسة أطفال وسيدتين في قرية مجاورة، كان سببًا في تأجيج الغضب المتصاعد من أن الدولة تبدو عاجزة عن كبح جماح العناصر المارقة.
وتساءل الموزاني: «من الذي يقتل المتظاهرين؟ من يقتل إخواننا؟ هذا هو السؤال»، موضحًا أن «القبض على جندي عادي أو ضابط ذي رتبة منخفضة، لا يعني أننا أمسكنا بمن يقتل المتظاهرين. من الذي يصدر الأوامر؟ ومن الذي جعل هذا الوضع جزءًا من حياتنا السياسية؟ نريد هؤلاء الرجال”.
على الرغم من تهديدات الكاظمي المتكررة والعمليات المتباعدة ضد الميليشيات، إلا أنه لم يفعل الكثير حتى الآن لإضعاف قبضة تلك الميليشيات على المؤسسة السياسية العراقية أو تحميلها المسؤولية. وخلال الشهر الماضي، أعلنت حكومته أن عائلات الضحايا يمكنها التقدم للحصول على تعويض من الدولة، لكن حتى الآن لم تُصرَف أية أموال. كما أعلن عن بناء نصُب تذكاري في ساحة التحرير ومدينة الناصرية لإحياء ذكرى القتلى، لكن التعامل في نهاية المطاف مع قوة الجماعات المسلحة والأحزاب السياسية التابعة لها كان يتجاوز قدراته.
وصرح مسؤول عراقي لوكالة “فرانس برس” شريطة عدم الكشف عن هويته بأن الكاظمي عرف «مَنْ القتلة وأين يعيشون، لكن لا يمكننا اعتقالهم أو الإعلان عن ذلك. وهذا أمر حساس للغاية”.
المتظاهرون الذين خرجوا للمرة الأولى إلى ساحات المدن في أنحاء العراق في السنوات الماضية لم يكونوا مجموعة متجانسة، بل كانوا مجموعات تتراوح بين المحافظين الدينيين والقوميين إلى العلمانيين والشيوعيين، وكانت هناك مجموعة كاملة من القضايا والمطالب تنبع من زوايا مختلفة للحركة. ومع ذلك، كان هناك عدد من المطالب المحددة المشتركة للحركة.
ومن بين تلك المطالب استِحداث قانون انتخابي جديد يسمح للمرشحين المستقلين بخوض الانتخابات، متجاوزين بذلك الأحزاب السياسية التي تمارس السلطة في العراق منذ عام 2003. وتعهَّد الكاظمي، الذي وصل إلى السلطة في أيار/مايو بعد أشهر من الجدل في أعقاب استقالة عادل عبد المهدي في كانون الأول/ديسمبر، بتنفيذ القانون وحدَّد حزيران/يونيو 2021 موعداً لإجراء انتخابات تشريعية جديدة.
ولكن على الرغم من الموافقة رسميَّا على القانون، فإن التفاصيل الفعلية للقانون وتنفيذه كانت موضع نقاش محتدم، ويعتقد عديد من المحتجين أن القانون سيُفرَّغ من مضمونه. ولا تزال التفاصيل الحاسمة قيد المناقشة، مثل حجم الدوائر الانتخابية وما إذا كان المرشحون سيترشَّحون مستقلين أو ضمن قوائم انتخابية.
وكان الكاظمي حريصًا على أن يكون في صف المحتجين، ولكنه كان لزامًا عليه، بصرف النظر عن صدق هذا الموقف، أن يناضل مع مؤسسة سياسية راسخة لا تريد خسارة امتيازاتها، مع عدد قليل من الحلفاء لدعمه في البرلمان.
يقول ساجد جياد، المحلل السياسي في بغداد، «لا أعتقد أن القانون سيُرضي المتظاهرين عند نشره لأن الناس سينظرون إلى التفاصيل، ما الذي سيتغير وكيف سنضمن وجود ممثلين جدد وأفضل للشعب”.
دائماً كانت الأحزاب السياسية الهدف الأساسي بالنسبة لمعظم المتظاهرين، وكان تجريدهم من السلطة هدفًا منشودًا. وشهدت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد أعمال تخريب وإشعال للنار في مكاتب الأحزاب، في حين قال عديد من الناشطين للصحافيين إنهم يسعون إلى الحظر الصريح لكل الأحزاب السياسية بعد عام 2003 من خوض الانتخابات المقبلة.
ويقود الكاظمي، رسميًّا، حكومة انتقالية تهدف إلى وضع نظام جديد لانتخابات 2021 يسمح لها بأن تعكس رغبات المحتجين على نحو أفضل. ومع ذلك، يقول خريبط إنه لا يوجد كثير مما يوحي بأن انتخابات 2021 ستختلف عن تلك التي كانت تجري في الماضي. وقال «بصراحة حتى الآن لا توجد شخصية أو كيان واضح يمكن أن يمثل شباب أكتوبر سياسيًّا”.
ويقول الخزعلي إن أي دعم من المتظاهرين للمرشحين سيتوقف على المصادقة النهائية لقانون الانتخابات. وأوضح «إذا مُرِّر قانون الانتخابات على نحو جيد ونال استحسان الحراك الجماهيري، فإننا سندعم الشخصيات الوطنية في الانتخابات». وأضاف: «أما إذا لم يلبِّ قانون الانتخابات طموحات الشارع، فستكون هناك مقاطعة للانتخابات وحركة لإحباط العملية السياسية برمتها”.
الاقتصاد العراقي، الذي كان بالفعل يعاني قبل تشرين/أكتوبر 2019، هو الشرارة الرئيسية للانتفاضة. ومنذ تفشي فيروس كورونا في أذار/مارس، وتأثير الإغلاق اللاحق، أصبح الوضع مُحبطًا. وحذَّر البنك الدولي من أن معدل الفقر في البلاد قد يتضاعف إلى 40% هذا العام، وأن نسبة البطالة بين الشباب قد تزيد عن النسبة الحالية التي تبلغ 36%.
وقد إقترح الكاظمي ووزير ماليته، علي علاوي، حزمة من عمليات الخصخصة والتقشف لمواجهة أزمة الميزانية العراقية، ولكن اللمسات الأخيرة لم تُوضع على أي من تلك المقترحات التي لن تكون موضع ترحيب من جمهور مضغوط بالفعل.
ولا يوجد ما يشير إلى أن الغضب العارم الذي دفع حركة الاحتجاج في البداية سوف يتبدد، حتى ولو كانت إنجازاتها محدودة حتى الآن. يقول ساجد جياد، حتى وإن لم يكن قد حدث تغيير، إلا أن حركة الاحتجاج غيَّرت الطريقة التي تنظر بها البلاد إلى السياسة.
«يُنظر إلى الطبقة السياسية الحالية على أنها غير شرعية، وهذا هو الإنجاز العظيم للاحتجاجات”، يقول جياد”. (مترجم عن ميدل إيست آي بتصرف).