سميح صعب30/10/2022
على غرار أوروبا، يخضع الشرق الأوسط لمضاعفات الحرب الروسية-الأوكرانية. من إختلال في التوازنات التي كانت قائمة، ومن ترسيم وإعادة ترسيم للعلاقات بين دول المنطقة وكل من الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية.
الولايات المتحدة إعتبرت مثلاً أن إتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بمثابة إنتصار للديبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. لكن تطورات أخرى متسارعة كانت تسابق هذا الحدث أو تسير حذوه، وتشي بترسيم أوسع للحدود الجيوسياسية الجديدة على كامل إمتدادات المنطقة.
بعد ساعات من توقيع إتفاق الترسيم البحري الذي عمل عليه منسق الطاقة الأميركي عاموس هوكشتاين لمدة أشهر، كان البرلمان العراقي يمنح الثقة لحكومة محمد شياع السوداني، الذي إختارته الأحزاب المؤيدة لإيران خلفاً لمصطفى الكاظمي. بدا وكأن الأمر قام على معادلة: مكسب أميركي في لبنان، قابله مكسب إيراني في العراق؟
هل هو ترسيم للإشتباك الأميركي-الإيراني تحت ضغط الإحتجاجات في إيران، التي يقابلها تزويد طهران لروسيا بمسيرات مفخخة صحّحت بعضاً من الإختلال الميداني في أوكرانيا، بينما تمضي مفاوضات العودة إلى الإتفاق النووي لعام 2015 إلى غياهب النسيان في الوقت الحاضر، لكن من دون أن يجرؤ أي طرف على نعيها؟
ولا يتوقع الرئيس الأميركي جو بايدن عودة قريبة إلى المفاوضات النووية، على الأقل ليس قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في إنتخابات منتصف الولاية في الثلثاء الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وكأن الملف النووي إستُبدل بملف الإضطرابات الداخلية في إيران. لم تعد واشنطن مستعجلة وأوروبا علقت وساطتها وإنضمت إلى أميركا في صب الإهتمام على الإحتجاجات التي فجّرتها وفاه الشابة مهسا أميني في مركز إحتجاز للشرطة الإيرانية.
وغير بعيد عن هذا الإشتباك عدم حسم تمديد الهدنة في اليمن. وفي مقابل قدرة إيران على عرقلة التوصل إلى هدنة، تزيد الولايات المتحدة دعمها للمتظاهرين الإيرانيين الذين تجاوزوا مسألة الحجاب، إلى المطالبة بتغيير النظام.
ولم تعد إيران وحدها مشكلة أميركا في الشرق الأوسط، إذ أن الفجوة مع السعودية آخذة في الإتساع على خلفية قرار تحالف “أوبيك+” خفض الإنتاج بمعدل مليوني برميل نفط يومياً إعتباراً من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. أنهى القرار مفعول القمم الأميركية في جدة في تموز/يوليو الماضي. وواشنطن ترفض التبريرات الإقتصادية التي تقول الرياض إنها تقف خلف القرار، وتتهمها بالوقوف إلى جانب روسيا. ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن يؤكد العودة إلى سياسة “إعادة تقويم” العلاقات مع السعودية، ويعتبر أن “الخطأ” السعودي أفدح من أن يُصحّحه منح الرياض 500 مليون دولار لأوكرانيا. ومن الملفت للإنتباه كلام وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان في خضم هذا التوتر عن “نضج” سعودي في التعامل حيال ملف الخلاف مع واشنطن.
عندما تلقي واشنطن بكل ثقلها للضغط من أجل إنجاز إتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يتبين مدى الحاجة الأميركية إلى تعويض ما، عن النقص في الطاقة الروسية والخليجية ذات الوجهة الأوروبية. ليس هذا فحسب، بل البحث عن إنتصار سياسي، وسط التخبط في العلاقات مع دول الخليج، وإخفاق بايدن في فك عرى تحالف “أوبيك+”
وتتلقف روسيا التوتر السعودي-الأميركي بدعوة الرياض إلى الإنضمام إلى دول مجموعة “بريكس” التي تضم إلى روسيا، الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. ومن الطبيعي أن يثني الرئيس فلاديمير بوتين على صوابية قرار السعودية في إطار تحالف “أوبيك+” الذي تقوده الرياض بالتكافل والتضامن مع روسيا. وأثبت هذا التحالف النفطي قدرته على التحكم بالتوازنات في عالم الطاقة، ربما للمرة الأولى بعيداً عن التأثيرات الأميركية المباشرة. وإخفاق دول الإتحاد الأوروبي في الإتفاق على سياسة موحدة بإزاء أزمة الطاقة، يدل على مدى هذه التأثيرات السلبية المصاحبة لإستمرار الحرب.
أزمة الطاقة تهدد تماسك مجموعة العشرين التي ستجتمع في منتجع بالي الإندونيسي بعد أيام. وأعلن بايدن مسبقاً أنه غير مهتم بلقاء بوتين ولا بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في حين أن العلاقات الأميركية مع الصين في أعلى مراحل التوتر.
الأمر لا يتوقف عند روسيا فحسب. يدخل العملاق الصيني على الخط. وهذا ما ترجمه إعلان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن زيارة قريبة للرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض قريباً لعقد ثلاث قمم: سعودية-صينية وخليجية-صينية وعربية-صينية. الإعلان عن الزيارة أتى بعيد نشر البنتاغون وثيقة إستراتيجية جديدة تعتبر الصين وليس روسيا، بأنها “التحدي الأساسي” الذي يواجه الولايات المتحدة في العالم.
بكلام آخر، تخشى واشنطن من آثار التغلغل الصيني في الشرق الأوسط أكثر بكثير مما تخشاه من النفوذ الروسي. ذلك، أن الصين بإستثماراتها الضخمة قادرة بسهولة على تعبئة أي فراغ يحدث نتيجة التوتر في العلاقات الأميركية-السعودية أو في منطقة الخليج عموماً.
والصين التي وقعت إتفاقاً إستراتيجياً مع إيران في الأعوام الأخيرة، من الممكن أيضاً أن تعمق حضورها في الشرق الأوسط بإتفاقات مماثلة مع السعودية، التي تسعى إلى جذب إستثمارات تساعدها في تحقيق طموحاتها الإنمائية.
إن إتجاه السعودية والخليج عموماً إلى الخيار الشرقي، هو أحد أكثر التبدلات الجيوسياسة في الشرق الأوسط. وقد عجلت الحرب الروسية-الأوكرانية وتبعاتها في الدفع نحو هذا الإتجاه.
وعندما تلقي واشنطن بكل ثقلها للضغط من أجل إنجاز إتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يتبين مدى الحاجة الأميركية إلى تعويض ما، عن النقص في الطاقة الروسية والخليجية ذات الوجهة الأوروبية. ليس هذا فحسب، بل البحث عن إنتصار سياسي، وسط التخبط في العلاقات مع دول الخليج، وإخفاق بايدن في فك عرى تحالف “أوبيك+”، الذي تعتبره إدارته مساهماً أساسياً في تدفق الأموال إلى خزائن الكرملين، بما يمكن روسيا من الصمود في حرب الإستنزاف التي يخوضها الغرب ضدها في أوكرانيا.
وتركيا ليست بعيدة عن التغييرات الحاصلة وتبدل العلاقات الإقليمية. وفي هذا السياق، أتى إستقبال الرئيس رجب طيب أردوغان لوزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في أنقرة قبل أيام، في خطوة تؤشر إلى إعادة العلاقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل بعد إنقطاع دام أكثر من عقد. التقارب مع إسرائيل، ليس بخافٍ أن دافعه خط غاز من فلسطين المحتلة إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
وحتى الإشارات المحدودة التي يرسلها أردوغان في إتجاه المصالحة مع سوريا، تنطوي على تبدل كبير في خرائط وحدود إرتسمت بفعل الأمر الواقع قبل أكثر من عشرة أعوام، ونتيجة العداء بين أنقرة ودمشق.
مخاضات كثيرة يعيشها العالم نتيجة الحرب لن يكون ما بعدها كما كان قبلها، لا في أوروبا ولا في الشرق الأوسط ولا حتى في أميركا نفسها. وإحتمال خسارة الولايات المتحدة للآحادية القطبية، هو أكثر ما يؤرق واضعي إستراتيجيات الأمن القومي الأميركي.