مصارف لبنان تفرّق دم المُودع القتيل بين القبائل

استغلت مصارف لبنان حمأة غبار الفوضى المالية والاقتصادية والسياسية المندلعة منذ خريف العام الماضي، للتنصل جزئياً أو كلياً من مسؤوليتها المباشرة عما آلت اليه مصائر ودائع الناس، خصوصاً الدولارية منها.

للمصارف اللبنانية سردية مركبة توحي بأن ودائع زبائنها باتت في “رقبة” الدولة اللبنانية وثقب ديونها الأسود، أو أن الطبقة السياسية الفاسدة بدّدتها، فضلاً عن ذكر اسم مصرف لبنان، باستحياء شديد وخوف أكيد، لناحية توظيفات للمصارف لديه لا تستطيع استردادها حالياً، وبالتالي لا تستطيع الوفاء بما يطلبه أو يطالب به المودعون.

في تلك السردية التبريرية جملة أخطاء مقصودة ، تستدعي توضيحات من وحي أرقام المالية العامة والبنك المركزي وجمعية المصارف، كي لا تبقى المسؤوليات عائمة ويضيع “الشنكاش”، كما يقال بالعامية اللبنانية، او يضيع دم المُودع القتيل ويفرّق دمه بين القبائل، كما تقول عرب قريش “الكافرة”.

أولاً، ليس للمصارف في سندات الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) إلا نحو 10 مليارات دولار من أصل 33.3 مليار دولار إجمالي قيمة محفظة سندات الخزينة اللبنانية بالعملات الأجنبية (الاكتتابات مضافاً إليها الفوائد المتراكمة والمتأخرات) كما في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي. اذاً، ما للمصارف لا يزيد على 31 في المائة من اجمالي تلك السندات.

ثانياً، تحمل المصارف من اجمالي سندات الدين العام بالليرة اللبنانية ما نسبته 27 في المائة فقط ولا يساوي ذلك إلا 24 الف مليار ليرة تستمر بالافادة من تراكم فوائدها المجزية برغم الأزمة، لأن سندات الليرة تبقى خارج حسبة الخسائر حتى الآن، كما تؤكد وزارة المالية.

ثالثاً، بأسعار الصرف الثابتة، تبلغ نسبة ما تحمله المصارف من اجمالي الدين العام بالليرة والدولار معاً 28 في المائة فقط. لذا، يتبدى استنتاج أولي هو أن الدين العام ليس مسؤولاً عن احجام المصارف عن الإيفاء بالودائع إلا بنسبة 17 في المائة فقط، وبقيمة 26 مليار دولار (سندات بالليرة وبالعملة الأميركية) من اجمالي ودائع قيمتها 147 مليار دولار.

رابعاً، في نهاية ايلول/سبتمبر 2020، بلغت قيمة التسليفات الممنوحة للقطاع الخاص المقيم نحو 51 ألف مليار ليرة (34 مليار دولار)، ويفترض أن بعض تلك القروض محرر بالليرة وليس الدولار حتى تتحجج المصارف بتعثر المقترضين المتأثرين بالبيئة التشغيلية  الاقتصادية المتراجعة بقوة بفعل عوامل الانهيار المتتالية فصولاً.

بالفعل، لا تعترف المصارف، وفقاً لأرقام غير نهائية بعد للعام 2020، الا بتعثر سداد ما نسبته 29 في المائة فقط من القروض الممنوحة للقطاع الخاص والتي يقابلها ضمانات ورهونات تحمي ظهر البنوك. وتلك الضمانات تغنت بها المصارف أمام لجنة المال والموازنة في مجلس النواب عندما اقنعت النواب بنسف خطة حكومة حسان دياب (لازار)، مؤكدة أن خسائر القروض 8 الاف مليار ليرة فقط بينما قدرت لجنة الرقابة على المصارف الخسائر بنحو 14 الف مليار ليرة أي 9.2 مليار دولار كما في تموز/يوليو الماضي، مقابل ودائع إجمالية تقدر بما يعادل 222 ألف مليار ليرة (147 مليار دولار) كما في أيلول/ سبتمبر الماضي وبنسبة دولرة من الإجمالي 80 في المائة، ما يعني أن الودائع الدولارية 117 مليار دولار، أو أقل قليلاً حالياً مع استمرار “لولرتها” وقص شعرها (هيركات) يومياً بسحوبات على سعر المنصة البالغ 3900 ليرة مقابل الدولار، او بشيكات مصرفية لا يتحول منها نقداً دولارياً حقيقياً إلا بنسبة الثلث!

مهما حاول رياض سلامة تبرئة نفسه والنأي بها عن غضب الشارع المتصاعد ضد البنوك، والذي قد يشهد لبنان فصولاً أصعب منه في الأشهر المقبلة، يبقى في عين الإعصار ولا تمنحه شرائح واسعة من المودعين أي صك غفران، كما ان المجتمع الدولي يحمّله كامل المسؤولية

خامساً، إذا أخذنا في الاعتبار الودائع بالدولار فقط، وحسمنا منها اقصى خسائر ممكنة في سندات اليوروبوندز (بنسبة 80 في المائة) وتعثر القروض الممنوحة للقطاع الخاص بنسبة 29 في المائة، كما أقرت البنوك أمام لجنة المال والموازنة بحضور لجنة الرقابة على المصارف. وإذا أضفنا الحاصل الى الاحتياطي الالزامي الباقي في مصرف لبنان، سيبقى نظرياً نحو 75 الى 80 مليار دولار ودائع بالدولار يجب على المصارف تقديم إجابات شافية حول مصيرها المجهول.

سادساً، تقول المصارف ان لديها ودائع دولارية في مصرف لبنان، لكن الحاكم رياض سلامة ينفي ذلك جملة وتفصيلاً، وقال صراحة في حوار مع قناة “الحدث” قبل اسبوعين:”لا دولارات للمصارف في البنك المركزي الذي رد تلك الودائع المحكى عنها مضافاً إليها 13 ملياراً”. وربما قصد الحاكم بالمبلغ المضاف الفوائد التي تقاضتها المصارف على أموالها المستعادة عند استحقاقها لا سيما الهندسات المالية التي حققت لمقتنصيها ارباحاً بنحو 6.5 مليارات دولار. وأضاف (في مقابلة ثانية مع قناة “الحرة”، إمعاناً في التفسير المقصود على مسمع القاصي والداني أنّ الأموال التي خرجت من البنك المركزي إلى الخارج هي للإستيراد فقط. وقال:”حصل استيراد في 2017 و2018 و2019 بما قيمته 66 مليار دولار”، أي أن تلك البضائع المستوردة بيعت بالليرة ثم تحولت الى دولارات وضعت في مصرف لبنان الذي أعاد دورتها الى المصارف والأسواق.

إقرأ على موقع 180  لبنان السلحفاة.. لقاحات "فايزر" لا تصل قبل آذار!

سابعاً، لم تنبث المصارف ببنت شفة رداً على ما قاله الحاكم الذي نفى علمه في المقابلتين بأن المصارف تطالبه بـ”شيء”. وسأل مذيع قناة “الحدث” باستهزاء وتوتر:”من هي المصارف التي قالت لك ما تقول”؟.

وبرغم ذلك استمرت المصارف، وبشكل غير مباشر، في سردية عما لها في ذمة الدولة والمصرف المركزي وعن فساد السياسيين وعرقلتهم للاصلاح لاقناع جمهور غاضب لا يستطيع سحب دولار واحد حقيقي، في وقت استمر فيه محظيون ونافذون بالسحب والتحويل مستغلين تعطيل اقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وعدم الكشف عن التحويلات المتلطية وراء الستائر الداكنة للسرية المصرفية.

ثامناً، يقر مصرف لبنان بأن أموالاً خرجت من البلاد لكنه يقلّل من أهميتها قياساً بحجم الأزمة وخسائرها. ولتبرئة ذمته حث المصارف وعملاءها على اعادة أجزاء منها نسبتها 15 إلى 30  في المائة سواء كانت لأفراد عاديين أو نافذين او للمصارف نفسها. لكن جمعية المصارف سخفت ذلك الطلب وأكدت ان تلبيته لا تنتج الا نصف مليار دولار فقط، فأين الباقي؟

تاسعاً، للتنصل من مسؤولية تبخر الودائع يقول رياض سلامة “ان الأموال ليست لديه بل موجودة في المصارف”، موحياً بأن أية أخطاء في هذا الصدد تتحملها البنوك وليس مصرف لبنان، لأن لها اداراتها ولجانها الخاصة بتقييم المخاطر وتتحمل كامل مسؤولية قراراتها الائتمانية، وانه هو لا يدير أي مصرف، بل يضع السياسات ويوفر السيولة عند الضرورة كمقرض نهائي فقط لا غير.

عاشراً، مهما حاول رياض سلامة تبرئة نفسه والنأي بها عن غضب الشارع المتصاعد ضد البنوك، والذي قد يشهد لبنان فصولاً أصعب منه في الأشهر المقبلة، يبقى في عين الإعصار ولا تمنحه شرائح واسعة من المودعين أي صك غفران، كما ان المجتمع الدولي يحمّله كامل المسؤولية. وليس أدل على ذلك مما ورد في محضر اجتماع لبناني فرنسي قال فيه مسؤول فرنسي معني بملف لبنان الاقتصادي والمالي:”غرور الحاكم أعماه. يحلم ويقول ان كل ما قام به ينجح، وانه قوي جداً، وافضل حاكم بنك مركزي في العالم، ولا يمكن ان يفشل.. وها هو قد فشل”. المسؤول الفرنسي نفسه يقول مخاطبا المسؤولين اللبنانيين:”متى ينتهي موسم هذيانكم”؟

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  المشهد العراقي يتأزم: العيداني بلا ضمانات.. وبرهم صالح قد يستقيل