ما أن خرج رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري من القصر الجمهوري، بعد ظهر أمس (الثلاثاء)، حتى كان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يدخل إلى مكتب الرئيس اللبناني العماد ميشال عون، برفقة المستشار الرئاسي سليم جريصاتي، من أجل تقييم الجلسة الرقم 13 منذ تكليف الحريري تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة في 22 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم.
تسعون دقيقة من المناقشات بين عون والحريري قرر الطرفان التكتم على مضمونها، على أن يكتفي الرئيس المكلف بضخ مناخ إيجابي من خلال تأكيده على عقد إجتماعات متتالية مع رئيس الجمهورية “للخروج بصيغة حكومية قبل الميلاد”، على حد تعبير الحريري، أي خلال 48 ساعة، وهو أمر يكاد يكون من سابع المستحيلات، نظراً لحجم الهوة في المواقف بين الطرفين.
ماذا توافر من معلومات عن هذا اللقاء؟
أولاً، جاء إنعقاد اللقاء ثمرة مبادرة قادها البطريرك الماروني بشارة الراعي طيلة الأسبوع الماضي، وتخللها أخذ ورد على خطي بيت الوسط ـ بكركي والقصر الجمهوري ـ بكركي. في محصلة تلك المشاورات، بدا واضحاً للبطريركية المارونية إن أزمة الثقة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف لا يمكن معالجتها إلا بالحوار المباشر. قدّم الحريري ومستشاره غطاس خوري رواية للبطريرك الراعي وسارع جبران باسيل والقصر الجمهوري إلى تقديم رواية مضادة، فصارت بكركي عملياً أمام روايتين متناقضتين، ولولا مقتضيات الموقع الماروني الروحي الأول في الجمهورية اللبنانية، لأمكن القول أن هناك حفلة كذب أو تكاذب متبادل من الطرفين، وهذا أسلوب غير مألوف في التخاطب بين أهل السياسة في لبنان. خير دليل على ذلك، ما سمعته بكركي من أن رئيس الجمهورية لم يسلم الحريري أية لائحة أسماء، وهو الأمر الذي نفاه الحريري وظل متمسكا بالنسخة التي تسلمها، لا بل تردد أنه أرسل نسخة عنها إلى بكركي، فما كان من الطرف الآخر إلا أن أبلغ الراعي “يبدو أن الحريري قد إستخدم هاتفه في القصر الجمهوري من أجل إلتقاط (سرقة) نسخة عن أسماء كان يضعها رئيس الجمهورية أمامه أثناء اللقاء مع الرئيس المكلف، ولكن هذه ليست لائحة إسمية مكتملة”!
ثانياً، تقاطعت مبادرة البطريرك الراعي مع إستمرار دخول الفرنسيين على خط الأزمة السياسية في لبنان من خلال السفير باتريك دوريل، وذلك برغم الإعلان عن تأجيل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان. وقد دقّق الفرنسيون بتفاصيل الحركة التي قام بها الراعي (من خلال مستشاره الوزير السابق سجعان قزي) بإتجاه عون والحريري، وكوّنوا إنطباعا مفاده الآتي:”الرئيس ماكرون ليس مجنوناً حتى يضع يده مجدداً بأيدي سياسيين لبنانيين خانوه وهم قرروا أن يتفرجوا على سقوط بلدهم، وذلك عن سابق تصور وتصميم، وهذا عار كبير عليهم، ويجب أن يحاكموا جميعا بتهمة خيانة الوكالة التي منحهم إياها الشعب اللبناني”. يمضي الفرنسيون بالقول إن الرئاسة الفرنسية لن تتراجع عن إلتزاماتها أمام الشعب اللبناني، “لكن إذا كان البعض يحن إلى زمن رفيق الحريري، فمن واجبنا القول له إن زمن القروض والمساعدات من دون شروط وإلتزامات مسبقة على طريقة مؤتمر باريس 1 وباريس 2 وباريس 3 قد ولى”.
ثالثاً، نجح الحريري في إرساء قاعدة للحوار مع عون ركيزتها التشكيلة التي قدمها إليه في التاسع من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وقوامها عدم حيازة أي مكون على الثلث المعطل، وهذه النقطة اليتيمة تسجل للبطريركية المارونية، برغم وجود سوابق تجعل بعض الخيارات غير حاسمة أو يمكن التراجع عنها في آخر لحظة. بذلك، تكون الحكومة عبارة عن ثلاثة أثلاث ( 6 وزراء يمثلون أمل (2) وحزب الله (2) والحزب القومي (1) والمردة (1)؛ 6 وزراء يمثلون رئيس الجمهورية وتكتل لبنان القوي وحزب الطاشناق؛ 6 وزراء يمثلون رئيس الحكومة (5) ووليد جنبلاط (1)). وبرغم تعمد بعض دوائر القصر الجمهوري تعميم مناخ مفاده أن الحريري وافق على صيغة تضمن أن يكون الوزير السادس (الأرثوذكسي) في حصته عبارة عن “وزير ملك”، أي يكون مشتركاً بينه وبين رئيس الجمهورية، نفى مطلعون على موقف الرئيس المكلف أن يكون قد تفاهم على هذا الأمر مع رئيس الجمهورية، الأمر الذي يشير إلى وجود مجموعة نقاط عالقة بين الإثنين، وكل واحدة منها قابلة لأن تكون بقعة زيت!
رابعاً، يمكن القول إن وزارة الداخلية صارت هي “بيت القصيد”. فالرئيس المكلف لا يريد أن يتخلى عنها، برغم أنه قرر أن تشملها المداورة أي لا تبقى من حصة الطائفة السنية، حتى لا يفقد مصداقيته أمام جمهوره وأمام الفرنسيين والخارج، بإعتباره كان رأس حربة الإصرار على المداورة في الحقائب السيادية الأربع، وعندما تم تثبيت وزارة المال من حصة الطائفة الشيعية، بدا الحريري حريصاً على أن تشمل المداورة الحقائب السيادية الثلاث المتبقية أي الدفاع والداخلية والخارجية.
وتطرح قضية الحقائب السيادية إشكاليات عدة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف أبرزها الآتي:
- يصر رئيس الجمهورية (ضمناً جبران باسيل) على أن يسمي هو وزير الداخلية الأرثوذكسي لا أن يكون هذا المقعد من نصيب الحريري ولسان حال القصر الجمهوري أن الرئيس المكلف تخلى عن وزارة الداخلية التي كانت بيد الطائفة السنية منذ العام 2014 حتى يومنا هذا، لكنه قرر أن يأخذها باليد الأخرى، من خلال إصراره على تسمية الوزير الأرثوذكسي المرشح للداخلية، وهذا الأمر مخالف للأعراف الطائفية. هنا ينبري الحريري للرد أن الأرثوذكسي الذي يرشحه لتولي حقيبة الداخلية، أي النائب العام الإستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر، “ليس محسوباً على أية جهة سياسية، بل كان التيار الوطني الحر قد دعمه في التشكيلات القضائية، وهو يحظى بدعم الكنيسة الأرثوذكسية في العاصمة”.
- يصر القصر الجمهوري على عدم الإخلال بالتوازن في الحقائب السيادية الموزعة، حسب الأعراف وليس القانون أو الدستور، على الطوائف الأربع: المارونية، الأرثوذكسية، السنية والشيعية. لذلك، ثمة إعتراض على إسناد حقيبة الخارجية إلى وزير درزي، لأنه على قاعدة التماثل بين الطوائف، يتمثل الدروز نيابياً ووزارياً بحصص متساوية، فإذا أعطيت حقيبة سيادية للدروز ولم تسند أية حقيبة مماثلة للكاثوليك، فإن ذلك سيتسبب بإشكالية طائفية، لذلك، من المفضل سحب هذا اللغم الطائفي وبالتالي إعادة النظر بتوزيع الحقائب على الطوائف الأربع. هنا يستشهد المقربون من الحريري بتصرفه وفق القاعدة التي إعتمدها الرئيس نبيه بري عندما تنازل في حكومة نجيب ميقاتي في العام 2011 عن مقعد للشيعة لمصلحة السنة (سبعة وزراء سنة مقابل خمسة للشيعة)، علما أن وليد جنبلاط لا يبدي حماسة لحقيبة الخارجية بل يفضل حقيبة خدماتية أساسية مثل وزارة الصحة.
ومن خارج الحقائب السيادية، يرفض رئيس الجمهورية وجبران باسيل التخلي عن وزارة العدل التي جعلها الحريري في تشكيلته من حصة فريقه، وإقترح لها محامية من مدينة طرابلس (لبنى عمر مسقاوي). وهذه النقطة وحدها يمكن أن تفجر كل المناخ الإيجابي، برغم تلميح أحد رؤساء الحكومات السابقين إلى أن الحريري يمكن أن يتخلى عن العدلية لكنه لن يتخلى عن وزارة الداخلية تحت أي عنوان كان، حسبما أبلغهم في آخر لقاء عقده “النادي” في الساعات الأخيرة.
ويلتقي أكثر من حزب سياسي مع الحريري على إبعاد التيار الوطني الحر عن وزارة العدل، خصوصاً في ظل المنحى الإنتقامي المتصاعد من السياسيين على خلفية فتح الملفات أو من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية على خلفية الإنتقادات التي توجه إلى العهد.
وبين تمسك كل من عون (باسيل ضمناً) والحريري بوزارة الداخلية، ما يشي بأن كل ما قيل بأن هذه الحكومة ستكون حكومة مهمة هو مجرد بيع للمياه “في حارة السقايين”. فالداخلية هي العنوان والإشتباك وقدس الأقداس، طالما أن الجميع بدأ يعد العدة للإنتخابات النيابية ثم الرئاسية، وهما إستحقاقان مرشحان للطيران في العام 2022، ما يشي بأن الحكومة المقبلة، إذا تشكلت، قد تحل محل رئيس الجمهورية، إلا إذا إستمر تصريف الأعمال الحالي طويلاً وعندها تصح نبؤة حسان دياب رئيساً لجمهورية تصريف الأعمال!
لننتظر اللقاء الرقم 14 المقرر اليوم (الأربعاء) بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. أزمة الثقة بين الرجلين أكبر من تذليلها في 1400 لقاء بينهما، طالما هناك من يتمنى أن يختفي إسم الحريري نهائياً من لوائح المرشحين لرئاسة الحكومة، وفي المقابل، ثمة قناعة لدى نادي رؤساء الحكومات أنه “كلما خرج الحريري من القصر الجمهوري، سارع أحدهم إلى مكتب الرئيس عون، وكان لا بد من العودة إلى نقطة الصفر”!
برغم المناخات الإيجابية المفتعلة، يتصرف الجميع من دون إستثناء على قاعدة أن لا حكومة قبل العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل.. وبالتالي صار لزاماً الحديث عن السيناريوهات السياسية والإقتصادية والمالية التي ستواجه لبنان في العام 2021. للبحث صلة.