لم تتعرض الإنسانية المعاصرة لمحنة مماثلة منذ الحرب العالمية الثانية من حيث أعداد الضحايا وقدر الخسائر الاقتصادية.
شلت الحياة تقريبا فى أنحاء العالم، انهارت نظم صحية، أو كادت، جرت أحوال انكشاف لموازين قوى وحسابات سياسة، ولاحت بوادر ولادة نظام دولى جديد من تحت أنقاض الجائحة.
كان ذلك عاما للفزع أفضت تفاعلاته إلى تغييرات جوهرية على المسرح السياسى الدولى فى حسابات وموازين القوى.
عند مطلع (2020) لم يكن ممكنا لأحد أن يتوقع واثقا خسارة «دونالد ترامب» فرصه فى تجديد ولايته لدورة ثانية أمام المرشح الديمقراطى «جو بايدن»، الذى تعوزه الكاريزما ولم يكن يتمتع بفرص انتخابية حقيقية لحصد المنصب الأرفع فى النظام السياسى الأمريكى.
كانت إدارة «ترامب» لأزمة الجائحة كارثية تماما حتى وصلت معدلات الوفيات: «مواطن أمريكى كل ثلاثة وثلاثين ثانية».
حملت إدارة «ترامب» مسئولية المأساة بقدر ما أبدته من استخفاف بحياة مواطنيها.
كانت الانتخابات أقرب إلى الاستفتاء عليه، وبالذات على طريقته فى إدارة أزمة الجائحة.
كان ذلك أول ما تبدى على السطح السياسى الأمريكى من آثار ضربات الجائحة.
التفاعلات ما زالت فى أولها، فالمؤسسة الأمريكية تبدو على قدر من الاهتزاز، بعضه يعود إلى شخصية «ترامب»، الذى يرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، ويشكك دون هواده فى شرعيتها، وبعضه الآخر يعود إلى عمق الأزمة الداخلية من استقطاب وتنافر عرقى وسياسى فى بنية المجتمع نفسه.
كان «ترامب» بتصرفاته المتفلتة، وسوء إدارته للجائحة، أمثولة لما يمكن أن تصنعه الشعبوية من مآس أفظع فى بنية المجتمعات الغربية
هكذا يطل عام (2021) على الولايات المتحدة بأسئلة وجودية حول أزماتها الداخلية، كما حول مستقبلها ووزنها الدولى فى أحوال جديدة، غير تلك التى استدعت التحالف الغربى بقيادتها فى أجواء الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
مستقبل «الناتو» سؤال رئيسى فى أولويات إدارة «جو بايدن».
إذا لم يكن ممكنا ضخ دماء الثقة فيه من جديد فإنه يصعب الحديث عن أية أدوار قيادية أمريكية فى عالم يتغير.
بغض النظر عن قدر ودواعى العقوبات الاقتصادية، التى فرضت على تركيا، العضو فى حلف «الناتو»، من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، بتوقيت متزامن، فإنها ترمز إلى أوجه خلل فى بنية ذلك الحلف يصعب تداركها.
لم يعد متصورا أن تعود العلاقات بين أطراف التحالف الغربى، الذى نشأ فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى الحسابات القديمة، التى سوغت الصعود الأمريكى إلى منصة القوى الأعظم الأولى بفوائض ثرواتها المالية وقوتها العسكرية.
لم تمد الولايات المتحدة يد العون إلى حلفائها الغربيين، الذين دوت صرخاتهم فى فضاء الجائحة المميتة.
كانت الترجمة السياسية لشعار «أمريكا أولا»، الذى اتبعه الرئيس المنتهية ولايته «ترامب»، أن تبحث كل دولة على ما يحفظ أمنها بعيدا عن الولايات المتحدة وحلف «الناتو».
طرح الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» مشروعه لإنشاء منظومة أمنية أوروبية خارج حلف «الناتو».
بدت الأزمة متماثلة على ضفتى الأطلسى، الأمريكيون والأوروبيون على قدم المساواة.
ضربت الجائحة فلسفة الاتحاد الأوروبى، وتبدت شقوق وشكوك فى مسوغ وجود مؤسساته، التى توصف عادة بـ«بيروقراطية بروكسل».
كان ذلك اختبارا وجوديا هيمن على العام كله.
لم يكن هناك عند بداية الجائحة أى حد أدنى من العمل المشترك.
أغلقت كل دولة أوروبية حدودها خشية أن يمتد الوباء إليها بموجات إضافية.
تصرفت على نحو منفرد، كأن الاتحاد الأوروبى فكرة افتراضية لا حقيقة يرتكن إليها.
بدأت الدول الأكثر تضررا وانكشافا أمام الجائحة فى الصراخ بالتساؤل: لماذا نحن هنا؟
كانت إيطاليا وإسبانيا، بثقليهما الحضارى التاريخى، الأكثر تألما وضجرا من كل ما هو منسوب للاتحاد الأوروبى.
كان ذلك داعيا للتساؤل عن احتمالات تفشى الشعبوية ووصول أحزابها اليمينية المتطرفة إلى قصور الحكم، بما يعنى حكما بالإعدام السياسى على فكرة الاتحاد الأوروبى وأية رهانات شعبية عليها، غير أن فرص الشعبوية تقوضت فى منتصف الطريق.
جرت محاولات حثيثة لتدارك الأخطاء والخطايا التى ارتكبت فى بدايات الجائحة.
كان «ترامب» بتصرفاته المتفلتة، وسوء إدارته للجائحة، أمثولة لما يمكن أن تصنعه الشعبوية من مأس أفظع فى بنية المجتمعات الغربية.
لم تكن مصادفة علمية وطبية أن الدول التى تسابقت فى إنتاج اللقاحات هى نفسها تتسابق على نصيب أكبر من القوة فى النظام الدولى، الذى لم يولد بعد
كانت تلك حالة سيولة فى نظام دولى يتشكل تحت ضربات الوباء المستشرى.
فى المشهد المأزوم أطلت الصين كمرشحة محتملة لتصدر النظام الدولى الجديد، الذى قد يولد بعد انقضاء الجائحة، اعتمادا على طفراتها الاقتصادية وقدرتها على تطويق الجائحة فى وقت ضيق.
ودخلت روسيا على الخط بقدراتها الاستراتيجية على المناورة والتمركز حيث يتراجع الأمريكيون والأوروبيون.
كان الصراع السيبرانى الأمريكى الروسى تعبيرا جديدا عن العوالم، التى تولد وحسابات القوى المتغيرة فيه.
قبل أن تتوفر أية أدلة ثبوتية، اتهمت السلطات الأمريكية روسيا بالهجوم الإلكترونى على مؤسسات عسكرية واستخباراتية بالغة الحساسية.
كان ذلك استدعاء من قاموس الحرب الباردة لـ«العدو الروسى» كمصدر رئيسى لتهديد الأمن القومى الغربى.
هددت إدارة «بايدن» باتخاذ إجراءات عقابية صارمة بحق موسكو، التى أنكرت الاتهامات المرسلة.
كاد الرئيس المنتهية ولايته «ترامب» أن يعفى موسكو قبل أى تحقيق من أية مسئولية مقابل اتهام الصين على عكس ما ذهب إليه وزير خارجيته «مايك بومبيو».
كان ذلك مشهدا عشوائيا فى إدارة حسابات ومصالح دولة عظمى فى لحظة تحولات كبرى.
لم تكن مصادفة علمية وطبية أن الدول التى تسابقت فى إنتاج اللقاحات هى نفسها التى تتسابق على نصيب أكبر من القوة فى النظام الدولى، الذى لم يولد بعد.
فى مشهد واحد تداخلت أعمال القراصنة بالتجسس وإنتاج اللقاحات بالعلم.
مما له دلالة أن شركات الدواء الأمريكية نجحت فى إنتاج لقاحين أشهرهما بتعاون مشترك مع شركة دواء ألمانية.
فى توقيت مقارب أنتجت الصين وروسيا لقاحين مماثلين.
كان ذلك سباقا يتجاوز العلم والحاجة إليه فى وقت جائحة، وحسابات الربح والمصالح لشركات الدواء، إلى الاستراتيجية وحسابات القوة والنفوذ فى نظام دولى جديد يوشك أن يولد من تحت أنقاض الجائحة.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“