الصين دولة خلفية.. وروسيا حصان مندفع!

هل أسّست وتؤسس الصين لدور سياسي وإقتصادي أصيل وراسخ وعميق لحضورها الدولي، مقارنة بالدور الروسي. في هذا النص محاولة للتأمل والمقارنة في الحضور السياسي الصيني والروسي في منطقتنا وفي مناطق أخرى.

في كتاب “الروضة المؤنسة في وصف الأرض المقدسة” للعلامة الروسي يليونسكي، نقله إلى العربية خليل ابراهيم بيدس عام 1898، كثافة في مختصرات انشداد الروس الإيماني نحو منطقة الشرق الأوسط ومنها فلسطين، حيث “للبلاد التي نحن بصدد الكتابة عنها أسماء عدة منه الأرض المقدسة  مثلما دعاها المؤمنون بالإله الحقيقي منذ قديم الزمان، ومن هذه الأرض الصغيرة انتشر نور الإيمان في كل جهات العالم”.

يروي  لويس الحاج في كتاب له صدر في العام 1947 بعنوان “مشكلة المضائق” أن الملكة (القيصرة) الروسية  كاترين الثانية حين أنجبت ولي العهد قسطنطين عام 1779، أوحى لها إسمه بخطة عسكرية تفضي إلى إستعادة السيطرة على القسطنطينية (اسطنبول) وإخراج العثمانيين منها.

وفي الأول من تشرين الأول/ اكتوبر 2015، أي بعد يوم واحد من الإنخراط العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية، نقلت قناة “روسيا اليوم” عن مصادر الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية قولها إن الجنود الروس يخوضون حربا في سوريا يمكن تسميتها بـ”الحرب المقدسة”، وفي الخامس من حزيران/ يونيو 2016، قال بطريرك موسكو وعموم روسيا، كيريل الأول، إن “المعركة ضد الإرهاب في سوريا حرب مقدسة”، وفي السابع من كانون الثاني/ يناير 2018، قال كيريل الأول: “روسيا حالت دون إبادة جماعية للمسيحيين في سوريا”.

هذه النماذج من التصورات الإيمانية والروحية الروسية تجاه المنطقة، جعلت التاريخ الروسي ـ العثماني حافلاً بالحروب الضروس التي بلغت ثماني عشرة حربا، وأثمرت حضورا روسيا تقليديا في البحر الأبيض المتوسط، وبصورة جعلت من روسيا شريكا أصيلا في النفوذ المتوسطي، أسوة بشركاء دوليين كبار مثل الفرنسيين والإنكليز في مرحلة من المراحل، والأميركيين في مرحلة أخرى.

في المقلب الصيني، لا يمكن الحديث عن حضور أو نفوذ للصين في البحر المتوسط، لا تاريخياً، ولا في الحقبات المعاصرة، وهذا يفتح باب القول بأن النهوض الإقتصادي الصيني وتحوله إلى ثاني الإقتصادات العالمية، أفضى إلى توسع صيني كوني غير مسبوق في التاريخ، فللمرة الأولى وعلى امتداد دورة الزمن وصلت الصين إلى أميركا اللاتينية، قاطعة أفريقيا، ومتطلعة إلى مواقع نفوذ متعددة ومنها البحر الأبيض المتوسط.

الملاحظة المُستخلصة من الإتصالات الروسية المرتبطة بإعمار سوريا وعودة النازحين، أنها تشعبت بإتجاه صناديق المال في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، ولم تلتفت إلى الصين، وهي الدولة الوحيدة على المستوى العالمي التي تحوز على صندوق مالي ضخم ومستقل إلى حد ما عن فواعل التأثيرات السياسية الأميركية

هل يمكن للصين أن تكون شريكا في المتوسط؟

ثمة ثلاث ركائز تنتج مواطن النفوذ الإستراتيجي ومواقعه، الأولى عن طريق الحرب والغلبة، الثانية عبر التسويات الناشئة بعد الحرب، الثالثة من خلال التحالفات والشراكات.

في الحالة الصينية، لا يبدو أن الصين في طريقها نحو الحرب مع أي من  شركاء النفوذ حول البحر المتوسط، وهذا الإستبعاد يُسقط بدوره التسوية المفترضة والناشئة بعد الحرب، مما يحصر احتمال النفوذ المتوسطي للصين بإحتمال التفاهم او التحالف، وبما ان مثل هذا الإحتمال، من الصعب توقعه بين الصين والطرفين الأوروبي والأميركي، وفقا للمعطيات والظروف الراهنة، يبقى احتمال التفاهم مع روسيا.

هل يمكن أن تتشارك روسيا مع الصين؟

في عام 2018، أطلقت روسيا مبادرة إعمار سوريا وعودة النازحين السوريين إلى ديارهم، وشملت المبادرة اتصالات روسية مع لبنان وتركيا والأردن، وحين توسعت  شبكة الإتصالات لتطال دول الخليج العربية والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، برزت إشكالية تمويل عودة النازحين، وبالرغم من الموافقة النظرية من قبل الأطراف المذكورة على “مبدأ الإعمار وحق العودة”، إلا أن ربطهما بالحل السياسي، أطاح بالمبادرة الروسية أو على الأقل كبح عجلاتها إلى حين إنضاج التوافقات الإقليمية والدولية.

والملاحظة المُستخلصة من الإتصالات الروسية المرتبطة بإعمار سوريا وعودة النازحين، أنها تشعبت بإتجاه صناديق المال في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، ولم تلتفت إلى الصين، وهي الدولة الوحيدة على المستوى العالمي التي تحوز على صندوق مالي ضخم ومستقل إلى حد ما عن فواعل التأثيرات السياسية الأميركية، ولا يجادل عاقلان بقدرات الصين المالية والعملية والتقنية التي تؤهلها للقيام بإعادة إعمار سوريا أو غيرها من دول الشرق الأوسط المبتلاة بالحروب المدمرة.

لماذا لم يطرق الروس أبواب الصينيين لإعادة إعمار سوريا؟

هذا السؤال يفترض أكثر من إجابة، قد تكون إحداها مرتبطة بعدم رغبة روسيا بإستقدام شريك منافس إلى سوريا، وقد تكون أخرى متصلة بقناعة الروس أن الحل السياسي في سوريا بحاجة إلى توافق مع الغرب للحفاظ على المصالح الروسية في سوريا أو غيرها، وهذا الأمر لا تتوافر مفاعيله أو تبادلاته مع الصين، فإذا أخذت الأخيرة في سوريا، فأين يمكن أن تأخذ روسيا من الصين؟.

لا يختلف المشهد الليبي عن نظيره السوري، وهنا من المناسب استدعاء ذاكرة العام 2011، حين أخلت الصين زهاء أربعين ألفا من رعاياها إثر الإنتفاضة العامة على نظام العقيد معمر القذافي، وواقع الحال أن مشهد الإخلاء كشف عن ثقل الحضور الصيني في ليبيا آنذاك، ليعقبه غياب شبه مبين بعد انزلاق الليبيين إلى الحرب الأهلية وما تلاها من إدخال تلك الحرب في ميادين المحاور الدولية وألعاب الأمم، ولم يعد خافياً حضور فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا والولايات المتحدة ومصر وأطراف خليجية عدة في مشهدية المحاور والتنافس والوجود، فيما حضور الصين بقي على شبه غيابه، وبالتحديد في شرقي ليبيا، حيث الحضور الروسي بات عميقاً.

إقرأ على موقع 180  مصر وتركيا.. ثنائية سيناء - ليبيا مجدداً!

ما الذي يحول دون شراكة روسية ـ صينية في ليبيا؟

أيضا، الإجابة الليبية تتقارب مع الإجابة السورية، فالروس يفترضون شراكات وحوارات مع أصحاب النفوذ الذين يفيض بهم الواقع الليبي، وهم كثر ومتعددون، مما يعني أن استقدام فاعل جديد، سيحوله شريكاً، وأغلب الظن أن مجيء الشريك  الصيني إلى شرق ليبيا أو غربها، سيكون على حساب الأطراف الآخرين، وخصوصا روسيا، فهي تدرك جيدا أبعاد القولين الصينين المأثورين الموغلين في بطون التاريخ: إذا أردت التجارة فعليك أن تبني طريقاً، وإذا أردت أن تفتح حانوتاً فعليك أن تعرف كيف تبتسم.

هل يخشى الروس ابتسامة الصينيين؟

على الأرجح نعم، ولذلك تغيب ملامح التفاهمات والشراكات الروسية ـ الصينية في ليبيا، علما ان مثل هذه الشراكات لو حدثت، من شأنها أن تقلب موازين القوى في المشهد الليبي رأسا على عقب، وهنا عودة مرة أخرى إلى الخشية من ابتسامة الصينيين.

لدى بعض النخبة الروسية مقولة مفادها أنه كلما تعملقت الصين تقلصت روسيا، وإذا استمرت الصين في مسار التعملق، فقد يحل فجر أو ذات عصر تصبح فيه روسيا شبيهة بوضعية كندا مع الولايات المتحدة

للصين دور وحضور بارزان في بعض الموانىء التركية واليونانية والمصرية والجزائرية والمغربية، فضلا عن موانىء فلسطين المحتلة، وكلها موانىء متوسطية، وأما في جيبوتي الرابضة على أبواب باب المندب، فللصين قاعدة عسكرية تتموضع من جهة على مداخل  المحيط الهندي، وتتموقع من جهة ثانية على مداخل قناة السويس بإتجاه البحر المتوسط، وإذ يقال إن هذه القاعدة هي نتاج طبيعي لثقل الحضور التجاري والإقتصادي الصيني في القارة السمراء، أو لحماية طرق التجارة الصينية عبر المحيط الهندي كما يقول الصينيون أنفسهم، فإن موقعها القريب من البحر المتوسط لا يدع مجالا للشك بطموحات الصين الهادفة إلى أن تغدو دولة متوسطية.

قد تنال الصين ما تريد في المدى البعيد، ولكن في المديين، المنظور والمتوسط، تبدو الصين “دولة خلفية” تسير وراء الحصان الروسي المندفع والمتنقل بين بؤر الأزمات العالمية، وحائزاً في الوقت نفسه على قصب السباق وعلى قدرة تحريك مفاتيح القرار الدولي، ففي الملف النووي الإيراني، تقف الصين كفاعل ثانٍ خلف روسيا، وفي الأزمة السورية، تحتل روسيا موقع التأثير الأول، وتليها ايران والولايات المتحدة وتركيا، ثم الآخرون ومن بينهم الصين، وفي الأزمة الليبية ثمة قلة فاعلية صينية، ودخلت الصين إلى فنزويلا بعدما فتحت روسيا الطريق أمامها، وفي افريقيا حيث تعدى الميزان التجاري مع الصين 208 مليارات دولار، بحسب أرقام وزارة التجارة الصينية للعام 2019، فإن هذا الثقل المالي يقابله عجز في الإستثمار السياسي والإستراتيجي، ذلك أن الصين تستثمر تجاريا في دول أفريقية يغلب على أنظمتها الحاكمة طابع الولاء للغرب وسياساته، وعلى هذا النحو ينتفي وجود دولة افريقية يمكن القول فيها إنها موالية للصين أو متأثرة بنمط الحكم الصيني أو متفاعلة مع نموذج الثقافة الصينية.

إن مجمل ما سبق ذكره، يفيد بأن الصين لم تؤسس لهذه اللحظة دوراً سياسياً أصيلاً لحضورها الدولي، وهي كـ”دولة خلفية”، تنتظر من الآخرين تهيئة المائدة لها لتأخذ مقعدا يحدده الآخرون، والشواهد الواردة آنفا يمكن رفدها بإضافات أكثر سعة وإسهابا، ومنها البحر المتوسط، الذي لم تكن مياهه في التاريخ إلا مياها ساخنة وملتهبة بحروب المتصارعين منذ التاريخ الأول الذي كتبه هيرودتس الإغريقي قبل 2500 عام وحتى الآن، ولم يعرف هذا التاريخ الطويل أن دولة تنازلت لأخرى في البحر المتوسط إلا عن طريق الهزيمة والقهر أو احتمالات الهزيمة والقهر.

من بين الخلافات الإستراتيجية الصينية ـ الروسية عدم اعتراف روسيا بالمطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي، وإذا كانت هذه المطالب تلقى صدا ورفضا روسيين في بحر فرعي تعتبره الصين مجالا حيويا لها، فهل يتنازل (يتشارك) الروس راضين ومرضيين للصينيين في البحر الأبيض المتوسط الذي من بين أسمائه Mediterraneus أي “وسط الأرض”؟.

لدى بعض النخبة الروسية مقولة مفادها أنه كلما تعملقت الصين تقلصت روسيا، وإذا استمرت الصين في مسار التعملق، فقد يحل فجر أو ذات عصر تصبح فيه روسيا شبيهة بوضعية كندا مع الولايات المتحدة.

مقولة للتأمل.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  العودة الآمنة إلى التعليم.. من اللقاح إلى السيناريو البديل