إنّه العماد ميشال عون “بشحمه ولحمه”، كما يقول المثل الفرنسي. كلامٌ، قاله في 28 أيار/مايو 1999 ضمن مقالة له عنونها بـ”الجريمة المتمادية”. نشرت المقالة، أسبوعيّة “النشرة اللبنانيّة” التي كانت تصدر عمّا كان يُسمّى، آنذاك، “المؤتمر الوطني اللبناني”. المهمّ في الأمر، أنّ “الجنرال” كان يفنِّد في مقالته، حالات القمع والتنمّر التي كان يتعرّض لها أهل منطقة جزين الجنوبيّة، تحت أنظار الدولة، على يدّ الميليشيات (وكان يقصد حزب الله) والإسرائيليّين والسوريّين. هذه الحالات شبَّهها العماد عون، وكان حينئذٍ لاجئاً سياسيّاً على الأرض الفرنسيّة، بـ”المؤامرة على الشعب بعد أن أجَّرت (الدولة) أرض الجنوب ورهنتها، لتكون منطقة صراع من أجل مصالح غريبة لا علاقة لها بالمصلحة اللبنانيّة”. وأكثر. لقد أدرج الأمر، ضمن خانة الجرائم التي “يعاقب عليها القانون الفرنسي”. وتُلخَّص، بجريمة عدم مساعدة شخصٍ في حالة خطر. ووصف، أخيراً، صمت المسؤولين في الدولة اللبنانيّة (يومها)، بـ”الجريمة المتمادية المرتَكَبة عن سابق تصوُّرٍ وتصميم”.
سبحانك ربّي خلقت هذا.. وخلقت ذاك! أي، خلقت هذا الـ”ميشال عون”.. وذاك الـ”ميشال عون”، بظرف اثنين وعشرين عاماً، فقط. بطبيعة الحال، لا داعي للتعليق على هذا الكلام. فالمعنى في قلب الشاعر. وتفسير نوافل القول، فيه استغباءٌ لذكاء القارئ المتلقّي، كما نقول بلغة الصحافة. لكن، لا بدّ من توجيه شكرٍ لرئيس جمهوريّتنا. فهو أوحى لي، عن غير قصد بالتأكيد، بالتوطئة لمقالتي، والتي كنتُ أحار من أين سأبدأ كلماتها. والشكر موصول، أيضاً، للدولة اللبنانيّة العتيدة. فثباتها الأزلي (والأبدي كما يبدو) على الصمت المطبق أمام شلاّلات الجرائم المتمادية بحقّ الشعب اللبناني، كان لي عوناً كذلك. لكن ما مناسبة هذا الكلام؟ مناسبته ما تشهده مدينة طرابلس اللبنانيّة. احتجاجات ومواجهات مع القوى الأمنيّة والعسكريّة، تطوّرت لتصبح أعمال عنف وفوضى وتخريباً للمدينة، وسط صمتٍ مطبق ومريب لـ”المسؤولين” في الوطن (الصمت إيّاه المشار إليه آنفاً).
لم يحصل في تاريخ البشريّة أن تحوّلت سلطة سياسيّة لـ”دولةٍ ما”، إلى كاسحة ألغام لكلّ “ما يعيق” مشاريع تفخيخ مؤسّسات هذه الدولة وإداراتها، ومن ثمّ تفجيرها عن بُعد! لم يعرف بلدٌ في العالم طبقةً سياسيّة حاكمة قصرت استراتيجيّتها في الحُكم، على اجتراح السُبُل للإنهاك الشامل والكامل لبلدها
لمَن لا يعرفها، فإنّ لهذه المدينة الشماليّة ألقاباً عديدة. لكنّ “زعماء لبنان” قرّروا إلصاق لقبٍ وحيد بها، وجعْلها تتماهى معه دوماً: “طرابلس أمّ الفقير”. لقبٌ، يعبّر عنها أشدّ تعبير. فطرابلس الجميلة العريقة البائسة والمتروكة لقدرها، هي المدينة “الأكثر فقراً على ساحل المتوسط”، كما صنّفتها دراساتٌ دوليّة منذ عشر سنوات. طرابلس التي تحوي أثرى أثرياء لبنان، تتعاطى الدولة اللبنانيّة مع أهلها وأبنائها كقطّاع طُرق! لماذا؟
لمَن لا يعرفها، أيضاً، فإنّ طرابلس هي “عروس الثورة”، كما لُقِّبت ذات تشرين. وهنا بيت القصيد. أي، الهدف المُراد والمُبتغى المنشود، من وراء محاولة الاغتيال المعنوي للعروس. من محاولة مرمغة ثوبها الأبيض بالوحل. فهكذا يكون الانتقام. بأن يجعلوها عبرةً لمَن لم يعتبر بعد. فالزعامة عند العصابات الحاكمة في لبنان، تقوم على الهياج والغضب واحتقار الآخر. وساعة الغضب ليس لها عقارب. حقدهم يُعمي أبصارهم. قالوا “لتكنْ مَقْتلة في شوارع طرابلس”. فكانت. طرابلس تدفع من اللحم الحيّ ضريبة تكليلها عروساً للثورة. كلا، ليس في هذا الكلام تجنٍّ أو تهيّؤات. الثورة التي، لمَن نسي، قضّت مضاجعهم، كلّهم من دون استثناء. تحسّسوا أعناقهم عندما صَدحَت فيها الحناجر تطالب برحيلهم. بل بإسقاطهم. بإسقاط الطغمة الحاكمة أو الطامحة للحُكم.
ساهمت الثورة في تغيير طبيعة المعركة السياسيّة مع هذه الطغمة. إذْ، نقلت المواجهة لتحصرها بين “الزعيم” الذي يتمسّك بالحصانة ليفلت من العقاب، وبين “المواطن” الذي قرّر أن ينتزع هذه الحصانة لمحاسبة هذا الزعيم. إلتقطت السلطة سريعاً الإشارة. فرأيناها تدخل فوراً مرحلة الصمت المذهول المديد، عندما دقّت الساعة السابعة من مساء ذاك الخميس في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. إلتقطت أنفاسها خلال بضعة أسابيع، وشرعت بالتكتكة لشنّ ثورتها المضادّة على الشعب. شعب لا تعترف به، أصلاً. فأطلقت ثورتها المضادّة، إذن، على التشرينيّين. وعلى هذا الأساس، شغّلت السلطة محرّكات “إجرامها”، وبدأت تتفنّن في تخريب البلد والتنكيل بأهله. أهله الذين قرّروا عدم إدارة خدّهم الأيسر، بعد الآن. شرعت بالعمل نقيض ما تفعله الدول، عادةً، وقت الأزمات والمحن. أي، دأبت على دحض المثل الدانمركي القائل “حيث يُفتَقد القانون ينبغي أن ينوب الشرف منابه”. حُكّامنا، غيّبوا كلّ القوانين وغيّبوا معها شرفهم! سلوكهم أذهل أعداءهم قبل أصدقائهم ومُشغِّليهم.
إذْ، لم يحصل في تاريخ البشريّة أن تحوّلت سلطة سياسيّة لـ”دولةٍ ما”، إلى كاسحة ألغام لكلّ “ما يعيق” مشاريع تفخيخ مؤسّسات هذه الدولة وإداراتها، ومن ثمّ تفجيرها عن بُعد! لم يعرف بلدٌ في العالم طبقةً سياسيّة حاكمة قصرت استراتيجيّتها في الحُكم، على اجتراح السُبُل للإنهاك الشامل والكامل للبلد الذي تحكمه! ولماذا كلّ ذلك؟ لإخضاع ناسه المشاكسين (مثل أهل طرابلس الشام، مثلاً)، كي يخنعوا ويعيدوا إنتاج مافيا السلطة، ذاتها. ترفض هذه الطغمة اللبنانيّة الحاكمة، بعنجهيّةٍ وثقةٍ وفوقيّة، أن تعتبر نفسها إلاّ منظومةً مضادّة للثورة. ومن دون خجل أو وَجَل. بل، على العكس تماماً. هي تستعرض قوّتها، لتؤكِّد أنّ رسالتها في الحياة ليست سوى رسالة احتيال ونهب وتفاهة وابتذال واحتقار الإنسانيّة وإعلاء شأن الزعرنة والزعران والبلطجة والبلطجيّين. هؤلاء الزعران والبلطجيّون، هم، تحديداً، زعماء لبنان اليوم. زعماء فِرَق وجماعات متقاتلة ومتحاربة. زعماء لديهم “سعي شبقيٌّ” إلى السلطة، على حدّ تعبير رئيس الحكومة السابق سليم الحص (الملقَّب بـ”ناسك المدينة”). وبعد؟
ساد الخراب العميم، في أقلّ من سنة على انطلاق الثورة. لكن بقي أهل الثورة، لكي يقتصّوا منهم. لم يَكْفِهم كلّ ما افتعلوه باللبنانيّين. لم تشفِ كلّ الموبقات وعمليّات التنكيل بالناس، غليلهم. وفي المآزق ينكشف لؤم الطِباع، كما يُقال. وهذا ما انكشف. فكيف إذا كان اللئام، زمرةً من الحُكّام والمسؤولين الطفيليّين. والطفيلي، كما تعرفون، هو مَن لا يعمل أو يُنتِج، إنّما يعتمد على عمل الآخرين وإنتاجهم. هؤلاء الطفيليّون، فرحون بما تشهده شوارع طرابلس العائمة على ركام. فالمواجهات تقطِّع لهم الوقت في زمن الانتظارات التي لا تنتهي. زمن انتظاراتهم، الذي سيحدّد أفوله نوع الوسادة التي سينامون عليها. زعماؤنا يرصدون “الرادارات”، ليتلمّسوا كيف ستستهلك أميركا وإيران الوقت. بمعنى، أيّ إشاراتٍ سترسلانها إلى مَن ينتظر هذه الإشارات في لبنان. إذن، السلطة عندنا لا تفعل إلاّ أن تنتظر لتستثمر في السياسة. لا يعنيها من الحدث الطرابلسي، إلاّ المراقبة والتبصير.
ها هم محلّلوها يقرؤون في أسباب العنف الظاهر في المدينة. ها هي أبواقها الإعلاميّة تشرِّح خلفيّات العنف الكامن لدى “الغوغائيّين”. ها هم خبراؤها يحاولون فكّ شيفرة الرسائل التي يبعثها أهل طرابلس الغاضبون والناقمون لأركان السلطة. وهؤلاء لا يهمّهم، على الإطلاق، أن يهرعوا لإطفاء الفتيل المشتعل. على العكس تماماً، يريدون بقاءه مشتعلاً. فها هو رئيس البلاد (صاحب مقالة “الجريمة المتمادية” ذاته)، يرفض إنعقاد مجلس الدفاع الأعلى للبحث في وضع طرابلس ولجمه (بحسب ما نقل السياسي الطرابلسي توفيق سلطان عن رئيس الحكومة حسان دياب). أيُعقَل؟ نعم، ولما لا يا صاحِ. وحبل الوقاحة طويل..أطول من البال.
المعاناة الإنسانيّة لكلّ فردٍ منّا، قد بلغت حدّاً غير مسبوق. نتأمّل بأسى، ما بعده أسى، كيف تستعيد ساحات البلد “وظيفتها” القديمة التي ارتسمت في أذهان الكثيرين. أي، تحوّلها إلى صندوق بريد لتصفية الحسابات. لا يهمّ حسابات مَن. فلبنان أرضٌ مباحة ومتاحة
يهمسون للبعض بأنّهم متفاجئون ممّا يحصل من تخريبٍ ووحشيّةٍ واستغلالٍ سياسي لفقراء المدينة. تتفاجأ سلطتنا التي أضاعت فرصاً ثمينة تلو الفرص، لتفادي الأسوأ. تستهول قوى سياسيّة ما يجري، هي التي قرعتْ لها التقاريرُ الصحفيّة والأمنيّة أجراسَ التنبيه والتحذير من الانفجار الاجتماعي الزاحف لا محالة إلى الشارع اللبناني. ينكفئ أصحاب الوجوه الكالحة عن الشاشات. ينكفئ جميع أهل السياسة (تقريباً) عن التصريح. فلم نعد نسمع إلاّ أصوات النشاز، لقلّة قليلة ممّن تحوم حولهم شبهات الاصطياد بالمياه الطرابلسيّة العَكِرة. يا إلهي ماذا اقترفت أيديهم؟ أبشع البشاعات وأفظع الفظاعات. أَلَمْ يكن ممكناً إيجاد حلٍّ لمأساة عائلات وشباب الفيحاء؟ بلى. ألف حلٍّ وحلّ، كانت بالمتناول. لكنّ ذهن المجرم لا يعمل بهذه الطريقة. وغريزة المجرم لا تبحث عن منفذٍ لإنقاذ ضحيّته، قبل تنفيذ الجريمة بها. كيف تعرفون، يا أصدقاء، أنّ حُكّامنا مجرمون؟
تعرفونهم أوّلاً، من صمتهم وعزوفهم عن النطق، حتّى ببضع كلمات تحفظ ماء الوجه أمام أهل الضحيّة. هل سمعتموهم يوماً يتلفّظون بأيّ كلمة تدين جريمة مرفأ بيروت؟ تدين إنهيار القطاع المصرفي؟ سرقة أموالنا العامّة والخاصّة؟ إفلاس البلد؟ ما يحدث من قمعٍ بالحديد والنار لشباب طرابلس؟.. كلا وألف كلا. المجرّم لا يصرّح. يخاف من أيّ هفوة تفضحه. تعرفونهم ثانياً، من ابتعادهم عن مسرح الجريمة، ومن ثمّ العودة إليه. يعودون ليتفقّدوا ما ارتكبت أيديهم، وما إذا كان هناك من آثارٍ لـ”طَيْفهم”. تعرفونهم ثالثاً، من محاولاتهم في تضليل العدالة، عبر الإيحاء بأنّ “الآخرين” وليس “هم” مَن ارتكب تلك الجريمة. وتعرفونهم رابعاً، من جهودهم الحثيثة لتعطيل التحقيقات في الجرائم. أعرفتم الآن، لماذا عندنا في لبنان جرائم من دون مجرمين؟ حُكّام لبنان المجرمون يشبهون شهرزاد؛ يروون كلّ ليلة قصّة خياليّة عنهم وعن تاريخهم المضيء وخصومهم الأشرار، لكي يتفادوا الموت عند الفجر. ماذا بعد؟
مع تقدّم الأيّام والأسابيع والشهور بنا، ندرك، نحن اللبنانيّين، عمق مأساتنا. ونوقن، أنّ المعاناة الإنسانيّة لكلّ فردٍ منّا، قد بلغت حدّاً غير مسبوق. نتأمّل بأسى، ما بعده أسى، كيف تستعيد ساحات البلد “وظيفتها” القديمة التي ارتسمت في أذهان الكثيرين. أي، تحوّلها إلى صندوق بريد لتصفية الحسابات. لا يهمّ حسابات مَن. فلبنان أرضٌ مباحة ومتاحة، بفضل أُولي أمره، ليتبادل مَن يشاء ومتى يشاء، الرسائل السياسيّة والأمنيّة والعسكريّة و..الدمويّة. أطرافٌ في الداخل أو في الخارج أو على الحدود أو ما وراء البحار أو بين الكثبان الرمليّة في الصحراء..لا يهمّ. ما يهمّ، فقط، أنّ “حرب الوردتيْن” لن تُطفَأ جذوتها. ما يهمّ، فقط، أنّ حقوق المسيحيّين بأحسن أحوالها. وحقوق أهل السُنّة جيّدة. وحقوق الشيعة بألف ألف خير. أمّا الآخرون، فلا خوف عليهم بظلّ العهد الرشيد والرؤساء الأشاوس. نحن في قمّة المجد، طالما أنّ العسكر والأمن ينقضّان كالأسود لمكافحة الجوعى. ويخربشان كالقطط في مكافحة المهرّبين وزعران الزعيم. نحن في قمّة الأمل، طالما أنّنا نستيقظ كلّ يوم لننفض الرماد عن الأجساد. ولننفض الشرّ عن الجمر. نحن في قمّة العطاء، طالما أنّ أنياب السلطة، ما زالت قادرة على إلتهام الأخضر واليابس وكلّ أنواع اللحوم.
كلمة أخيرة. يقول الممثل الكوميدي الأميركي الشهير Will Rogers (توفي عام 1935)، “بعد أن إلتهم الأسد ثوراً كاملاً، شعر بالشبع وبدأ يهدر. إستمرّ بالهدير، حتّى سمع الصيّاد فجاء وقتله. الحكمة من ذلك: عندما تكون شبعاً بعد أكلك للثور، إجعل فمك مغلقاً”. إقتضى ألاّ يأخذ حُكّام لبنان بهذه النصيحة.