هي محاكمة سوريالية تلك التي شهدها الكونغرس المنعقد بقسميه: مجلس النواب الذي يعمل كإدعاء عام ومجلس الشيوخ كهيئة محلفين. أما باتريك ليهي رئيس المحكمة ورئيس السن في مجلس الشيوخ، فقد لعب دور القاضي والمحلف مما يجعل أية محاكمة سياسية لترامب سوريالية أكثر مما هي واقعية. فمجلس الشيوخ ليس محكمة بالمعنى الواقعي للمحكمة لأن الأعضاء الشيوخ لن يصغوا إلى الحقائق أمامهم وإنما إلى آرائهم وأفكارهم ومصالحهم وهو ما يحدد قرارهم وتصويتهم كهيئة محلفين.
قلة من الجمهوريين حسمت قرارها وعرفت كيف تصوّت عندما يحين وقت القرار. سبعة من الجمهوريين قرروا عن قناعة وتحديداً بعدما شاهدوه من أفعال جرمية، أن ترامب مذنب ويمكن إدانته بالجريمة التي إقتُرِفت بحق “الكايبتول” وبحق الشعب الأميركي والديموقراطية الأميركية بالتحديد، ولذلك صوّتوا لمصلحة إدانته خلافاً لرأي أغلبية الجمهوريين الذين قرروا حماية رمزهم رئيس الولايات المتحدة السابق الذي إعتبر لحظة التبرئة هي الإشعار بإطلاق حركته السياسية وصولاً إلى إعادة ترشيح نفسه في العام 2024.
كانت النتيجة كالآتي: 57 عضواً من أصل 100، صوتوا بالموافقة على إدانة ترامب، وهو عدد غير كاف، إذ تحتاج الإدانة إلى أكثرية الثلثين. النتيجة هي أن ترامب غير مذنب، لأن الإدانة بحاجة الى 67 صوتاً، أي إلى 17 صوتاً جمهورياً وليس فقط سبعة جمهوريين (15 بالمئة منهم)، ومعظمهم لا يواجهون إستحقاق إعادة الإنتخاب في الإنتخابات النصفية في خريف العام 2022، بإستثناء ممثلة ولاية ألاسكا ليزا ماركوسكي التي ستواجه إستحقاق إعادة إنتخابها في العام 2022، وهذه نقطة تسجل لها.
هذا التصويت يدل على أن القرار عند الجمهوريين كان مُتخذاً قبل المحاكمة، مهما كانت الأدلة دامغة وقوية. هكذا هي السياسة. نعم يصعب على الناس أن تفكر بشكل مستقل عندما يتعلق الأمر بالزعيم (الرمز) كائناً من كان وبالمصالح. طبعاً، ما حصل في الولايات المتحدة خلال حكم دونالد ترامب أثبت أن الديموقراطية الأميركية العميقة الجذور، باتت “ضعيفة”، حسب الرئيس الأميركي جو بايدن في أول تعليق له على تبرئة ترامب.
بايدن إعتبر أن ما حصل من إخفاق في توفر أكثرية الثلثين لإدانة ترامب “فصلٌ محزنٌ في تاريخنا يذكرنا بأن الديموقراطية (الأميركية) ضعيفة”
محاكمة ترامب ونهايتها البائسة، ومهما كانت مخيبة للآمال، لكنها تثبت أن الديموقراطية، مهما تشوهت أو إهتزت جذورها، وبعكس التصحر السياسي الذي تعيشه ديكتاتوريات العالم، تبقى أفضل من منطق حكم الغوغاء أو الشعبوية، وهو منطق يجد صداه في أربع رياح الأرض، وسيكتب التاريخ، كما قال تشاك شومر، رئيس الأكثرية في مجلس الشيوخ الأميركي، بأن ترامب أسوأ رئيس مرّ على الولايات المتحدة. وهذا ما أشار إليه أيضاً رئيس الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونال الذي قال بعد المحاكمة إن ترامب قد لا يكون مذنباً هنا في “مجلسنا” (في إشارة إلى مسألة عدم الإختصاص، كما تضمنت رسالته قبل المحاكمة إلى الجمهوريين) ولكن، هو مذنب بالتأكيد، ومن الضروري أن يواجه محاكمات قانونية ويجب أن يدفع الثمن حتى لو كان السجن مصيره، أما بايدن، فقد إعتبر أن ما حصل من إخفاق في توفر أكثرية الثلثين لإدانة ترامب “فصلٌ محزنٌ في تاريخنا يذكرنا بأن الديموقراطية (الأميركية) ضعيفة”.
المحاكمة إمتدت على مدى أسبوع كامل وتخللها عرض فيديوهات وصور لم تُعرض من قبل، بعضها تم أخذه من كاميرات المراقبة في مبنى الكونغرس (من دون صوت بحكم القانون) وبعضها الآخر من ضباط. أيضاً عرضت فيديوهات صورها المهاجمون وكذلك فيديوهات لترامب يدعو المتظاهرين الى المشي صوب الكابيتول ويؤكد لهم أنه سيكون معهم لإستعادة ما سُلب منهم (الرئاسة)! رد الدفاع، أي محامي ترامب، كان ضعيفاً جداً في البداية ولكن تمالكوا أنفسهم في ما بعد وإستخدموا تعابير هجومية حتى أنهم لم يتورعوا عن لفظ بعض أسماء النواب السود والأجانب بطريقة خاطئة ومقصودة للإساءة إليهم (بلغة عنصرية)، وهذا جزء من التكتيك المتبع عند أكثر الجمهوريين للحشد ضد السود واللاتين والعرب، وهذا بالذات ما أدى خلال الإنتخابات الى حشد 74مليون للتصويت لمصلحة ترامب.
مرحلة ترامب والترامبية تحتاج إلى وقت قبل أن تذوي وتزول.. وإلى حينها، فإن ترامب باقٍ في قلب المشهد السياسي الأميركي وتصرفاته ستحدد الكثير من إتجاهات اليمين الأميركي المتطرف الذي يشكل نصف الشعب الأميركي، وفق نتائج الإنتخابات التي أبرزت الإنقسام العامودي في الولايات المتحدة. إنقسام لا يقول سوى أن هذا المجتمع مريض ويحتاج إلى وقت للشفاء، إلا إذا تفاقم المرض، وعندها قد نكون على موعد مع ترامب نفسه أو ترامب جديد!