إحتفى العالم بالخدمات الرقمية مع الحجر الصحي الذي فرضه وباء كوفيد 19 وانفجر معه استخدام المنصات الإلكترونية بكل إتجاه وصوب: من “زوم” للتواصل المرئي والمسموع والتعليم والعمل “أونلاين”، إلى طلبات السلع والمنتجات عبر “أمازون”، وصولاً الى زيادة ساعات مشاهدة “نتفلكس” للأفلام والمسلسلات، والتراسل الهستيري عبر “واتس آب”، فضلاً عن كل أشكال التعبير الفائض عن حدوده الطبيعية في “فيسبوك” و”تويتر” و”انستغرام” و”سناب تشات” و”تيك توك”.. وآخر العنقود تطبيق “كلوب هاوس” للتواصل والنقاش في غرف دردشة صوتية بشتى الموضوعات من أتفهها إلى أخطرها. ففي أقل من عام واحد، قفزت القيمة السوقية للتطبيق الجديد (كلوب هاوس) من صفر الى اكثر من مليار دولار في السوق الموازية لأن السهم غير مدرج في البورصات بعد. ولم تربح شركته حتى تاريخه فلساً واحداً، لكن احتمالات انتشاره، وبالتالي تثميره، تسابق الريح بانضمام مليون مستخدم اضافي إليه أسبوعياً بعدما تضاعفت مرات تنزيل التطبيق 400 في المائة في شهر شباط/ فبراير الماضي.
وإذا أخذنا عينة من تلك الخدمات التي تقدمها ما اصطلح على تسميته مجموعة “غافا” (أي غوغل وأبل وفيسبوك وأمازون) نجد أن أسعار أسهم تلك الشركات قفزت في 12 شهراً (28 شباط/ فبراير 2020ـ 28 شباط/ فبراير2021) 50 و78 و34 و64 في المائة على التوالي. فبلغت القيمة السوقية لأسهم “غافا” 5.7 تريليونات دولار، أي أكثر من ضعفي الناتج الاقتصادي العربي بنفطه وكل قطاعاته الأخرى مجتمعةً، والذي لا تتجاوز قيمته 2.7 تريليون دولار لمجموع 23 دولة من المحيط الى الخليج. وتلك القيمة السوقية الهائلة لأسهم “غافا” أكبر من الناتج الياباني أو الألماني أو البريطاني أو الهندي أو الإيطالي أو الفرنسي.
تشريعات أوروبية وعالمية
عبر التاريخ الحديث لم يشهد العالم تضخماً متسارعاً في الانتشار والاستخدام مثلما هو الحال مع قطاع التكنولوجيا المعلوماتية المتجاوز في أهميته أكبر شركات النفط والاتصالات والخدمات البنكية والمالية وحتى تجارة التجزئة. ففي قائمة أكبر 10 شركات في العالم، من حيث القيمة السوقية، نجد حالياً 7 من قطاع التكنولوجيا والانترنت والمعلوماتية.
لجبل الجليد الجميل الظاهر هذا ما يوازيه في الخفاء ويتفوق عليه من حيث الخطورة، ما دفع بمشرعين أميركيين وأوروبيين وصينيين الى التصدي للجانب المظلم من هذا الازدهار المخيف غير المسبوق، والذي تتعايش فيه، على فراش واحد، الخدمة المجانية الممتعة والمفيدة مع الاستغلال البشع!
لم يعد من المحرمات الحديث في الولايات المتحدة عن تفكيك “فيسبوك”، إذ طلب المدعي العام في نيويورك، بداية العام الحالي، ضرورة تخليها عن “واتس اب” و”انستغرام”
ففي الإتحاد الأوروبي حالياً جهود تشريعية على محورين: مكافحة خطاب الكراهية المنتشر كالنار في الهشيم على الشبكات؛ ووضع حد للممارسات الاحتكارية التي ينتهجها عمالقة الإنترنت، بلا حسيب أو رقيب.
ويقول نواب أوروبيون إن قوانين الحقوق والواجبات السارية في العالم الحقيقي ستقابلها قوانين مماثلة في العالم الافتراضي. والنص الأول المطروح للنقاش في هذه الأيام، والمسمى “ديجيتال سيرفسز آكت”، يهدف الى إشراك تلك الشركات في مسؤوليات النظام العام، إذ عليها التزود بأدوات تخفّف وطأة المحتوى “البشع” الذي يبث يومياً على شبكاتها، والتعاون مع السلطات العامة لرعاية جدية واعتدال التناول والطرح والبث في فضاء النقاش المباح ديموقراطياً. ويرمي مشروع القانون الذي أعلن في بروكسل في الأسابيع الماضية إلى وضع ما يشبه إشارات السير (سامحة ومانعة ومحذرة) على اوتوسترادات المعلوماتية التي فتحت واسعة أمام كل من هب ودب. مع اتهام مباشر لتلك المنصات بأنها غير جدية في حجب المحتوى الكاذب والمضلل والعنفي والصراعي لأنه يرفع الإقبال الغريزي فترتفع الايرادات من الاعلانات!
وهناك تشريع أوروبي آخر قيد الدرس أيضاً يسمى “ديجيتال ماركت آكت” يضع قواعد لتفادي الممارسات غير التنافسية التي باتت السمة الغالبة لهذا العالم الرقمي الذي تسيطر عليه شركات أميركية قليلة جداً. وكانت برزت مؤشرات الهيمنة سابقاً بعد استحواذ “فيسبوك” على “واتس آب” واستحواذ “غوغل” على “يوتيوب”، على سبيل المثال لا الحصر. فتلك العمليات عززت الوضع المهيمن للشركتين المذكورتين في قطاعيهما وخنقت آمال الداخلين الجدد الى حلبة التنافس في هذا القطاع.
إستحواذات “فيسبوك”
في الولايات المتحدة، تتعاون هيئة المنافسة الأميركية مع 46 ولاية لدعم شكوى ضد شركة “فيسبوك” واتهامها باستغلال موقعها المهيمن متسلحة بخزينة هائلة من النقد الجاهز لشراء أي منافس محتمل سواء أكان كبيراً ام صغيراً، بعدما كانت اشترت “واتس آب” بقيمة 19 مليار دولار و”إنستغرام” بقيمة مليار دولار، كما استحوذت على “جيفي” للصور وشركة لرسم الخرائط، وأخرى لخدمات العملاء.. حتى زاد مجموع الاستحواذات على الثمانين منذ 2007! ولم يعد من المحرمات الحديث في الولايات المتحدة عن تفكيك “فيسبوك”، إذ طلب المدعي العام في نيويورك، بداية العام الحالي، ضرورة تخليها عن “واتس اب” و”انستغرام”. وقال ان الشركة تستخدم مواردها المالية الضخمة وقاعدة البيانات الهائلة التي بحوزتها لسحق او عرقلة من تعتبره منافساً محتملاً لها، مؤكداً انها تضيّق الخيارات امام المستهلكين والمستخدمين، وتخنق الابتكارات والمبادرات الأخرى خارجها، وتضر بالحياة الشخصية لملايين الناس.
على الرغم من المركزية الشديدة التي تتسم بها الصين، بدأت تلك المنصات تخرج عن السيطرة. واحتجز (جاك ما) عدة أشهر لتقليم اظافر تطلعاته الرقمية والمالية خارج التخطيط المركزي الصيني
الى ذلك، نشرت مؤخراً في الولايات المتحدة دعوى جديدة ضد “غوغل” مقدمة من 38 ولاية اميركية، هي الثالثة من نوعها في شهرين، وتتناول الممارسات الاحتكارية والحضور الطاغي المانع للمنافسة الحرة. فهي تسيطر على حصة 92 في المائة في محركات البحث، ويستحوذ نظامها “أندرويد”على 74 في المائة من انظمة تشغيل الهواتف الذكية، أما “غوغل كروم” فيسيطر على 66 في المائة من نشاط المتصفحات.
الصين تكبح الإحتكارات
وفي الصين، فرضت بكين غرامات باهظة على شركتي “علي بابا” للتجارة الالكترونية و”تنسنت” لخدمات الإنترنت والهواتف الذكية والاعلانات “اونلاين” لمخالفتهما قواعد منع الاحتكار، وقيامهما بشراء شركات من دون إعلام السلطات وفق الأصول المانعة للتكتلات المهيمنة. وتخشى السلطات الصينية المعنية بمراقبة عمالقة التكنولوجيا من استخدام الشركات الكبيرة للمعلومات الهائلة التي بحوزتها لاهداف استغلالية. ونشرت بكين نصاً قانونياً يرمي لكبح الاحتكارات ومنع التصرفات اللاجمة للمنافسة العادلة في عالم منصات الإنترنت، ما يعد أول محاولة صينية لتنظيم هذا القطاع.
وبتدخل من الرئيس الصيني مباشرة، منعت شركة “علي بابا” قبل شهرين من ادراج شركة تابعة هي “آنت” المالية، وحال ذلك دون حصول رئيس الشركة (جاك ما) وحده على 37 مليار دولار من بيع الأسهم . فعلى الرغم من المركزية الشديدة التي تتسم بها الصين، بدأت تلك المنصات تخرج عن السيطرة. واحتجز جاك ما عدة أشهر لتقليم اظافر تطلعاته الرقمية والمالية خارج التخطيط المركزي الصيني.
الإستخدام السياسي
الى ما سبق، تضاف محاولات حول العالم لضبط محتوى شبكات التواصل خصوصاً مكافحة الأخبار الكاذبة والمنشورات المغذية للعنصرية فضلا عن انتهاك الخصوصية.. وكلها ممارسات تهدد الديموقراطية. والأخطر من ذلك، تفاقم أثر وسائل التواصل في نتائج الانتخابات من خلال استخدامات موجهة بخوارزميات دقيقة بناء على تحليل معلومات المستخدمين لدفعهم نحو هذا الخيار السياسي او ذاك، وتأكد، غربياً، في غير مناسبة أن اليمين المتطرف صعد على سلم شبكات التواصل الاجتماعي.
واظهرت السنوات القليلة الماضية مدى خطورة الرأسمالية الرقمية التي كشرت عن انيابها واستطاعت كسر قرارات سيادية واحكام قضائية مثل الغرامة التي عجز الاتحاد الاوروبي عن فرضها على شركة “أبل” المتهربة من الضرائب، وعدم القدرة على تطويع “غوغل” المستفيدة من محتوى يصنعه اصحاب المواقع الالكترونية ولا تترك لهم الا فتات الدولارات من المليارات التي تحصدها من الاعلانات.
وفي هذا السياق يندمج الكباش هذه الأيام بين استراليا وشركة “فيسبوك” التي رفضت طلب سلطات كانبرا اعطاء صانعي المحتوى جزءاً من الايرادات الاعلانية المحصلة على ظهر المحتوى الإخباري والاعلامي الذي لا فضل لـ”فيسبوك” فيه وتحصد من بثه المال مجاناً بفعل الإعلانات. والطلب الاسترالي هذا اتى بعد جملة افلاسات متتالية في عالم الاعلام والميديا.
ومن الأمثلة على الاستغلال أيضاً، ما تلجأ اليه شركة مثل “أمازون” لبسط هيمنتها على حساب صغار التجار والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي وان سمح لها بعرض منتجاتها على المنصة لكنها تبقى عاجزة عن فرض شروطها على شركة “أمازون” القادرة باستخدام الخوارزميات التي تطورها كل يوم على جعل المتسوقين يتجهون الى منتجاتها قبل منتجات الآخرين. والشركة متهمة باستخدام موقعها المهيمن على التجارة الالكترونية وقوتها الاعلانية والتسويقية الضاربة للتشجيع على الاستهلاك المفرط الضار بالبيئة.
وبين الأمثلة على سوء استخدام الخوارزميات، الكسب المادي الهائل لعمالقة الانترنت من بيع معلومات المستخدمين وبياناتهم الشخصية والمهنية والإجتماعية الى المعلنين الذين ينقضون على متصفح الانترنت منذ اللحظة الاولى لدخوله على الشبكة التي يعتقد ساذجاً انها مجانية فاذا بها استغلالية ومنتهكة للخصوصة وآسرة لحواسه وشاغلة لعقله ومحركة لغرائزه من الصباح الباكر الى الليل الدامس!