بدا للحظة معينة، كأن الأميركيين يقومون بالشيء وعكسه. هم يعيدون تموضع قواتهم على أرض العراق، على مسافة أسابيع قليلة من قرار البرلمان العراقي الداعي إلى إنسحاب القوات الأجنبية، كجزء من الأثمان التي لا بد من دفعها، غداة مقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني. هذا الإنسحاب نحو مواقع إستراتيجية ترافق مع الإعلان عن نصب منصات “باتريوت” جديدة. كبّر الإعلام الأميركي قضية التعزيزات وكأن الولايات المتحدة تعمّق تواجدها في العراق، بينما كانت تعيد تموضع قواتها. هي محاولة لكسب النقاط إعلامياً. يريد دونالد ترامب أن يحتسب كل خطوة خارجية بميزان الحساب الإنتخابي الداخلي الأميركي.
في خضم هذه التطورات، جاءت زيارة قائد فيلق القدس الجديد الجنرال اسماعيل قآاني العلنية إلى بغداد في شهر آذار/مارس الماضي. فعلياً، هو الاختبار الأول لوريث قاسم سليماني، لأسباب عدة:
أولاً: للزيارة طابعها التعارفي والإستكشافي في آن معاً، علماً أن مساعد سليماني الملقب بـ”الحاج حامد”، على تواصل دائم مع معظم القيادات العراقية، وخاصة مكونات “البيت الشيعي”.
ثانياً، إختبار قدرة “فيلق القدس” (المسؤول عن الملف العراقي) في إعادة اللحمة إلى البيت الشيعي الذي إزداد تخبطاً بعد إغتيال سليماني، ولا سيما ترميم العلاقة مع التيار الصدري، علما أنه لم يحصل خلال الزيارة أي لقاء بين قاآني والسيد مقتدى الصدر. زدْ على ذلك أن قاآني إجتمع فقط بالسيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع السيد علي السيستاني.
ثالثاً، جُلّ ما قدمه الضيف الإيراني الزائر هو تشديده على ضرورة حل الازمة السياسية وعودة التماسك للبيت الشيعي ولا “فيتو” على احد بما في ذلك على عدنان الزرفي على قاعدة أهل البيت أدرى بشعابه وهم أصحاب القرار.
رابعاً، ثمة لوم إيراني ضمني على مهاجمة بعض فصائل المقاومة المحسوبة على الإيرانيين لمدير المخابرات العراقية مصطفى الكاظمي، لأن الرجل يتواصل بشكل مستمر مع الإيرانيين.
خامساً، لا بد من معالجة بعض حالات التفلت في المشهد السياسي العراقي والتي يمكن وضعها في خانة إرتدادات إغتيال الجنرال قاسم سليماني. على سبيل المثال لا الحصر، لم يكن رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي بعيدا عن الإيرانيين، كما هو الحال بعد إغتيال سليماني، وبالتالي، لا بد من ترميم هذه التداعيات، وهناك مؤشرات إيجابية تبدأ من عند الحلبوسي نفسه الذي لن يتجرأ على وضع نفسه خارج خانة الإجماع الشيعي على مرشح جديد لرئاسة الحكومة.
التصعيد الاميركي والإيراني الخطابي في الآونة الأخيرة، قد يمهد لمقايضة ما أو مفاوضات ما. فلا الأميركي في وارد أخذ المنطقة إلى الحرب في زمن الإنتخابات الرئاسية (إلا إذا أصبحت حاجة) ولا الإيراني يريد الحرب
في هذه الأثناء، تبدو المعركة هي معركة عقد جلسة للبرلمان العراقي أم عدم عقدها. عدنان الزرفي، وعلى مسافة أقل من أسبوعين من نهاية الشهر على ترشيحه، يصر على أنه لن يقدم إعتذاره تحت أي طائل. في الوقت نفسه، فشلت حتى الآن كل محاولات سحب التكليف، برغم إتهام رئيس الجمهورية برهم صالح بأن أصل الترشيح غير دستوري. اللافت للإنتباه أن الزرفي يشكل عنصر قلق للمكونات الشيعية، بدليل أنه يتحدى هذه الكتل أن تذهب إلى جلسة مجلس النواب، في إشارة إلى رهانه على إختراقات مؤكدة في الكتل الشيعية تجعل فرصته ممكنة. لذلك، يكون الأضمن للكتل الشيعية عدم المشاركة حتى لا يسجل عليهم أنهم ساهموا بتكريس ترشيح يعتبرونه غير دستوري، علما أن ثمة معلومات عن توجيهات أعطاها السيد مقتدى الصدر لأعضاء كتلته النيابية “سائرون” بالمشاركة في أية جلسة نيابية إذا توافر حضور باقي المكونات من سنة وكرد، لكن أحد نواب الكتلة رفض تأكيد أو نفي ذلك.
إذا سقط ترشيح الزرفي، وهذا المرجح، فمن هو المرشح الأوفر حظاً وما هي السيناريوهات المرجحة؟
أولاً، تعذر التوافق على بديل سريع، وبالتالي إستمرار حكومة تصريف الأعمال برئاسة عادل عبد المهدي، ولا أولوية تتقدم على أولوية مواجهة وباء كورونا.
ثانياً، التوافق مجدداً على تكليف عبد المهدي لرئاسة الحكومة، وهو خيار موجود ولو أن حظوظه تضاءلت، وقد كان لافتاً للإنتباه إستقبال عبد المهدي للسفير الأميركي في بغداد ماثيو تولر، ومناقشتهما “فتح حوار استراتيجي بين بغداد وواشنطن بما يحقق مصالحهما المتبادلة”، وهنا المقصود توقيع إتفاقية جديدة بين البلدين، تشمل موضوع الوجود العسكري الأميركي في العراق (ىلأية الإنسحاب والمدة الزمنية إلخ).
ثالثاً، التفاهم على إسم من خارج الأسماء المتداولة، وهنا يجري الحديث عن سلة أسماء بعضها من الأكاديميين على طريقة حسان دياب في لبنان، وهو خيار ضعيف جداً، بدليل البحث سابقا عن شخصيات غير جدلية، كان آخرها محمد توفيق علاوي.
رابعاً، يبقى إسم مدير المخابرات العراقية مصطفى الكاظمي الأكثر ترجيحاً حتى الآن، علما أنه كان مطروحاً قبيل تكليف عدنان الزرفي، لكنه لم يلق اجماعا حوله آنذاك، وهو أبلغ جميع المكونات العراقية ولا سيما الشيعية بأنه لن يقبل بالمهمة إلا إذا حصل على إجماع.
وكان لافتاً للإنتباه الإجتماع الذي عقد اليوم (الأحد) في منزل زعيم تحالف الفتح هادي العامري، بمشاركة معظم الكتل الشيعية، وخرج بعض المشاركين للقول بأنه تم التوافق على إسم أو أكثر، أما مدير مكتب “الميادين” في بغداد، فقد جزم بأن المجتمعين توافقوا على الكاظمي مرشحا لرئاسة الحكومة.
في العراق يصعب التنبؤ بشيء. هو بلد مفتوح على المفاجآت. ثمة من يقول إننا أمام لحظة تسويات، تشبه تلك التي سبقت لحظة تسمية عادل عبد المهدي. يقود ذلك للقول إن التصعيد الاميركي والإيراني الخطابي في الآونة الأخيرة، قد يمهد لمقايضة ما أو مفاوضات ما. فلا الأميركي في وارد أخذ المنطقة إلى الحرب في زمن الإنتخابات الرئاسية (إلا إذا أصبحت حاجة) ولا الإيراني يريد الحرب. أيضاً لا أحد من الجانبين يمكنه تجاهل جدول الأعمال السياسي ـ الإقتصادي الذي فرضه وباء كورونا عالميا وإقليميا.
إذا صحت فرضية حاجة هذه المرحلة إلى “عادل عبد المهدي” مجدداً، فإن حظوظ الكاظمي ترتفع تلقائياً. عليه، يكون الجميع قد خرج رابحاً.