بعد الإنقلاب الفاشل ذاك، لم يعرف الأردن محاولة مماثلة، إلا أنه كان عرضة بصورة مستمرة لمخاطر وجودية شتى، ولإيجاد فضاء حماية، اتجه نحو العراق بغية تشكيل “الإتحاد العربي” انطلاقا من قاعدة تجمع “التاجين الهاشميين” في بغداد وعمان، ولكن هذا المشروع سقط في مهده إثر الإنقلاب العسكري الذي قاده عبد الكريم قاسم والشيوعيون والقوميون العرب، وأطاح بعرش الهاشميين في العراق، مما أعاد الأردن إلى أسئلة الوجود السابقة، وهي الأسئلة نفسها التي ستطفو إلى الواجهة الأكثر قلقا في عام 1970، وما رافقه من مواجهات دامية مع فصائل المقاومة الفلسطينية.
في مختلف المفاصل الوجودية التي قطعها الأردن منذ نشأته، كان وما يزال أشدها خطورة، المفصل الإستراتيجي ـ النظري، المعروف بـ”الوطن البديل”، وهذا المفصل أو المشروع، ينام ويستيقظ بين حين وآخر، وكان آخر من أيقظه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عبر “صفقة القرن” الشهيرة، والتي عنت بأحد وجوهها ضم الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربية وإسقاط “حل الدولتين “.
في ولاية الرئيس دونالد ترامب وصلت العلاقات الأردنية ـ الأميركية إلى أسوأ مراحلها، كما أن العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية انحدرت إلى مستوى التنابذ الشخصي بين الملك عبدالله الثاني وبنيامين نتنياهو.
قليل من الشواهد الماضية:
في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020، نشر معهد “كارنيغي” مقالة لوزير الخارجية الأردني الأسبق مروان المعشر حول “الوطن البديل”، جاء فيه “ليس من باب التهويل الإستنتاج أن سيناريو الوطن البديل ما زال حاضرا وبقوة لدى ذهن صانع القرار الإسرائيلي، وتبعا لذلك لا نستطيع أن نستخف بالمقالات الإسرائيلية الأخيرة على أساس أنها لا تعبر عن الموقف الإسرائيلي الرسمي، هذا السيناريو هو اليوم في صلب التفكير الإسرائيلي الرسمي”.
والصرخة المدوية تجاه “صفقة القرن” وتداعياتها على الأردن، انطلقت من حوار أجرته مجلة “دير شبيغل” الألمانية (15 ـ5 ـ2020) مع عبد الله الثاني حيث قال “إذا ضمت إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية فإن ذلك سيؤدي إلى صدام كبير مع الأردن، ونحن ندرس جميع الخيارات”.
يوني بن مناحيم: “يخشى الأردنيون من أن يأتي التقارب بين إسرائيل ودولة الإمارات على حسابهم، والأردنيون يخشون أيضا من احتمال أن توافق إسرائيل على منح السعودية موطئ قدم على جبل الهيكل”
كثير من الشواهد القريبة:
قد يكون من مفارقات شهر آذار/ مارس الماضي، الحضور الكثيف لواقع العلاقات المتردي بين عمان وتل أبيب في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية، وإلى مستوى كادت فيها التحليلات العائدة لكبار المحللين الإسرائيليين تجد مكانة شبه يومية في الصحف الإسرائيلية الكبرى، وكلها يدور في فلك يحلل سوء العلاقات الحالية ويستشرف أفقها، وصولا إلى طرح مصير النظام في الأردن على بساط السؤال.
بتاريخ السادس عشر من آذار/ مارس 2021، كتب نوعا لنداو في صحيفة “هآرتس” تحت عنوان “الفشل الأردني لنتنياهو وخصومه”، فقال “نتنياهو نسج واحتفل بتطبيع العلاقات مع دول اتفاقات ابراهام، لكن خبراء أمنيين يحذرون منذ سنوات كثيرة من أزمة آخذة في الإشتداد مع الأردن، حيث اتفاقية السلام آخذة بالبرود”، غير أن افتتاحية “هآرتس” (29 ـ 3 ـ 2021) التي جاءت بعنوان “لا تتركوا الأردن لمصيره” كانت لافتة للإنتباه، وورد فيها “يبرز في هذه الأيام تدهور سلبي متواصل للعلاقات بين الأردن وإسرائيل، ويتصرف نتنياهو كأنه مستعد لتعريض السلام مع الأردن للخطر، ومع كل الإحترام لإتفاقات السلام الجديدة مع الدول البعيدة، فمن المحظور ترك الإتفاقات القديمة مع جيراننا القريبين لمصيرها”.
صحيفة “يديعوت أحرونوت” نشرت مقالة لكسينيا سفاتلوفا (16 ـ 3ـ 2021) قالت فيها:”إذا لم تتعقل القيادة الإسرائيلية في الوقت المناسب، فإن أزمة العلاقات مع الأردن ستزداد تفاقماً، وفيما ينتهج الأردنيون سياسة معتدلة للغاية، فإن إسرائيل تعرقل تنفيذ المشاريع الضخمة التي وعدت بها المملكة عند توقيع اتفاقات السلام في سنة 1994، وتتطلع إلى طرد الأردن من الحرم القدسي لمصلحة جهات عربية أُخرى، ولا تضيع الفرصة للمس بكرامة الأردنيين “.
مستقبل الحرم القدسي، كتب عنه يوني بن مناحيم (15 ـ 3ـ 2021) قائلا “يخشى الأردنيون من أن يأتي التقارب بين إسرائيل ودولة الإمارات على حسابهم، والأردنيون يخشون أيضا من احتمال أن توافق إسرائيل على منح السعودية موطئ قدم على جبل الهيكل”، وفي الجانب نفسه، رأى نداف شرغاي في صحيفة “إسرائيل هيوم” (12 ـ3 ـ2021)، أن “الأردن غاضب من مجرد طرح الفكرة، ولكن نتنياهو ورجاله يشاركون في محادثات حول إمكانية إدراج السعودية كصاحب مكانة في الحرم، وقد بدأ ذلك منذ الفترة التي أعدت فيها صفقة القرن وتواصل الأمر حتى وقت قصير مضى”.
وعلى ما يبدو، لا تخرج عن هذا السياق، الزيارة المبتورة لولي العهد الأردني الحسين بن عبدالله إلى الحرم القدسي في العاشر من آذار/ مارس الماضي، وبحسب التبريرات الإسرائيلية، فإن إلغاء الزيارة من قبل الأردنيين كان بسبب الخلاف حول الترتيبات الأمنية، ولكن يوني بن مناحيم يذهب إلى أبعد من هذا التفسير الأمني الظاهري، وكتب قائلا “كان الهدف الأردني ببساطة هو تقديم وريث العرش على أنه صاحب الأرض في القدس، وقد اعترضت إسرائيل على ذلك وهي محقة في اعتراضها”.
قبل الإنتخابات الإسرائيلية الأخيرة كان بنيامين نتنياهو يقول ويردد: إن ملك الأردن يخرّب عليه
وعموما، الرد الأردني جاء سريعاً وفي اليوم التالي مباشرة، إذ رفض الأردن أن تهبط طائرة نتنياهو في مطار عمان وهو في طريقه إلى الإمارات، وفي ردة فعل عالية المستوى، أصدر بنيامين نتنياهو قرارا بإغلاق الملاحة الجوية بين الأردن وإسرائيل، ولم يتراجع عنه إلا بعد إقناعه بمخاطر تنفيذ هذا القرار مثلما أورد بن كسبيت في صحيفة “معاريف” (16 ـ 3ـ2021)، ونقل بن كسبيت أيضا عن “مصدر أمني كبير” قوله “لحق بالعلاقات مع الأردن ضرر إستراتيجي هائل، من الصعب أن نصف كيف سيكون ممكنا أن نرمم في المستقبل المنظور الثقة بيننا وبين القصر في عمان”.
وحول ذلك كتب عاموس هرئيل في “هآرتس” (26 ـ 3ـ 2021) فقال “بحسب مصادر إسرائيلية فإن رئيس الحكومة يعرض للخطر وبصورة متعمدة استقرار اتفاق السلام مع الأردن، واحتدمت الأزمة على خلفية الزيارة الملغاة إلى الإمارات، وهناك ايضا قضية المياه، فالأردن يطلب أحيانا كميات إضافية من المياه جراء شح الأمطار في بعض المواسم، وفي الأغلب تستجيب إسرائيل، الطلب الأخير تم تقديمه هذا الشهر، إلا أن نتنياهو وهيئة الأمن القومي قاموا بتأخير الرد، بصورة تدل إلى نية الرفض”.
هل هذا كل شيء؟
لا.
يقول يوني بن مناحيم (29 ـ3ـ2021) بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض ودخول جو بايدن إليه “استيقظ الملك عبد الله مرة أخرى واعتقد أنه يستطيع إقامة حقائق جديدة في القدس ومواجهة الحكومة الإسرائيلية دون أي خوف أو وجل”، وفي اليوم نفسه، كتب عاموس هرئيل في “هآرتس” ان نتنياهو يتهم ملك الأردن بالتشويش عليه، وبمحاولة التدخل في الانتخابات العامة لصالح منافسيه، وكان أمنون لورد كتب (12 ـ 3ـ 2021) في “إسرائيل هيوم” بعنوان “الأردن في رسالة لبايدن: نحن الى جانبك”، معتبرا أن الأردن اختلق قضية زيارة ولي عهده إلى الحرم القدسي ليتشارك مع الإدارة الأميركية الجديدة للضغط على بنيامين نتنياهو “.
كيف ينظر الإسرائيليون إلى الأردن؟
في السادس عشر من آذار/ مارس الفائت، كتبت سمدار بيري في “يديعوت أحرونوت” أن هناك مدرستين إسرائيلتين في التعامل مع الأردن، ولكل واحدة رؤيتها الخاصة.
ـ المدرسة الأولى “تؤيد استمرار حكم عبدالله على افتراض أن حاكما أردنيا أفضل من أي أحتمال آخر”.
ـ المدرسة الثانية “خطت على علمها شعار أن عبدالله سيكون الملك الأخير، وبعده ستتحد ضفتا الأردن بحكم فلسطيني”.
كلمة ختامية وسؤال :
مساء يوم السبت الماضي، أعلنت السلطات الأردنية عن إحباط محاولة لزعزعة استقرارالأردن، من بين رموزها ولي العهد السابق حمزة بن الحسين والشريف حسن بن زيد ورئيس الديوان الملكي الأسبق باسم عوض الله، وذلك بالتنسيق مع جهات خارجية.
من هي تلك الجهات؟
قد يكون من الأهمية القصوى أن يصار إلى مراقبة منسوب العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية في المرحلة المقبلة.
الإجابة قد تأتي من طبيعة تلك العلاقات، فتقول تلك الإجابة ما لا يريد الأردن أن يقوله.
إشارة أخيرة لا بد منها.
قبل الإنتخابات الإسرائيلية الأخيرة كان بنيامين نتنياهو يقول ويردد: إن ملك الأردن يخرّب عليه.