“حقل قانا” في عالم إدارة الأصول.. (BlackRock) نموذجاً

توصلت أمريكا عبر قيصرها الشرق-متوسطي عاموس هوكشتاين، إلى اتفاق بخصوص تقسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ليذهب حقل كاريش بالكامل لإسرائيل، ويتقاسم الإثنان حقل قانا باحتياطاته غير المؤكدة وبالطرق المالية الملتوية بين إسرائيل والشركات المُشغلة للحقل.

التعامل مع الغاز كمورد للطاقة حالياً، يمكن أن نُعدّه نموذجاً للمرحلة الوسيطة بين عالمين. عالم الطاقة الأحفورية التقليدية تحت قيادة النفط، وعالم الطاقة النظيفة تحت فكر الـ Net Zero. تزامناً مع تناقص نسب الاعتماد على الزيت والفحم لمصلحة الغاز الطبيعي في العالم الأول، ومع التشكيك في مدى واقعية التواريخ المحددة للوصول إلى حالة محايدة الكربون الصفرية في العالم الثاني، فيما بدأت طلائع الطاقة المستخرجة من الهيدروجين تطل نسائمها علينا، وهي قابلة “لأن تصبح طاقة العصر في الخمسين سنة المقبلة” حسب أحد الخبراء.

تعالوا نُدقق في شراكة امتياز حقل قانا ما بين “توتال” الفرنسية وإيني” الإيطالية والشريك الثالث الذي كان “نوفاتيك” الروسية قبيل انسحابه لمصلحة “قطر بتروليوم” التي أظهرت اهتماماً بالدخول طرفاً ثالثاً في هذه الشراكة لكن بعد زيادة الحصة الثالثة من 20% إلى 30%، ما يعني أن كلاً من “توتال” و”إيني” ستتنازل عن 5% من حصتها، لتصبح الحصص في البلوك رقم 9 موزعة كالآتي: “توتال” 35%؛ “إيني” 35%؛ “قطر بتروليوم” 30%.

من هنا سنحاول فهم كيف تدار الأنصبة الشركاتية التي تظهر في صورة حقوق استكشاف ثم تنقيب وإستخراج ونقل تقوم بها شركات متخصصة في مجال الطاقة، ومن وراءها مِن حكومات، مستثمرين وشركات إدارة أصول، تشارك بأوزان مختلفة في امتلاك هذه الشركات، وتكون هي المحدد لتوجهاتها وقراراتها، بنصيب يتخطى أحياناً وزن شراكتها.

نأخذ البلوك اللبناني الرقم 9 كنموذج لربما يساعدنا في فهم أوسع للصورة من جهة الحقوق، الامتيازات، الاستثمارات، وإدارة الأصول. ومن خلاله نتعرف على موقع بقعة حقل قانا، في نسيج قماشة أصول العالم، التي تمسك بها أيادي الخياطين من كبار ترزية الأصول.

لنبحث عن العوامل المشتركة بين تشابكات هذا النسيج، ربما نرى ما لم نركز عليه من قبل. وهنا يجب ذكر عملاق إدارة الأصول الأكبر بالعالم، وهو “بلاك روك” BlackRock. فعالم إدارة الأصول، يمثل نسيجاً عالمياً يغطي جميع القطاعات. الرافعات المالية، الاستحواذات والتخارجات، وصناديق الاستثمار بأنواعها، لا يمكن حصره بين أطر المقالات، بل في حجم المجلدات.

وكمثال على هذا العالم المترامي الأطراف، لنبدأ من عند هذا الرجل:

جلين هابارد، هو اقتصادي أمريكي عين في 28 مايو/أيار 2021 في منصب “مدير مستقل”، كجزء من مجلس إدارة شركة “توتال” الفرنسية، لمدة ثلاث سنوات. وهو واحد من أربعة مدراء غير فرنسيين في مجلس إدارة الشركة. ذات الشخص يقبع أيضاً في مجلس مدراء شركة إدارة الأصول “بلاك روك“، تحديداً قسم رأس المال المغلق BlackRock Closed-End Funds. ذات المنصب يحتله في شركة إدارة الأصول كيه كيه آر KKR Financial Corporation. وهذه فقط ثلاثة مناصب يحتلها هذا الرجل الذي نستخدمه هنا كمفتاح، نفتح به صندوق باندورا، المليء بالتشابكات والتداخلات بين الأشخاص، الهيئات، المنظمات، الحكومات، الشركات، ومن فوقها جميعاً شركات إدارة الأصول بالعالم.

جلين هابارد هذا، إقتصادي ينتمي إلى الحزب الجمهوري الأمريكي، وكان يرأس مجلس المستشارين الاقتصاديين لمدة سنتين في فترة رئاسة جورج بوش الإبن. ورشحه كثيرون بعدها لمنصب رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي بعد تقاعد آلان جرينسبان، لكن العطاء رسا على بن برنانكي في مآل الأمر.

هابارد يرأس أيضاً شركة التأمين الشهيرة ميت لايف Metlife Inc، التي تجد ضمن قائمة مموليها شركات إدارة أصول مثل “فانجارد جروب” و”فرانكلين تمبلتون”. عدا عن احتلال الرجل العديد من المناصب في شركات، لجان، مجالس استشارية، ومنظمات، تتعدد مجالات عملها في شتى الاتجاهات، من علاج الإدمان، الاستثمار العقاري، الضرائب، الدراسات الاقتصادية، إلى الكنيسة المشيخية!

الشاهد، أن هذا الرجل له الحق في التصويت، في قرارات مجالس إدارة “توتال” الفرنسية، “بلاك روك” و”كيه كيه آر” الأمريكيتين. في ذات الفترة التي تملكت فيها شركة “بلاك روك” أصولاً استثمارية بوزن 8.88% في شركة “توتال” الفرنسية. ذلك ضمن صندوقها الاستثماري الخاص بفرنسا iShares MSCI France ETF، الذي يشمل أنصبة في 70 شركة فرنسية مختلفة بين يدي “بلاك روك”.

ذات الصندوق الاستثماري لـ”بلاك روك”، تجده في نسخته الإيطالية iShares MSCI Italy ETF، ويتضمن أنصبة في 30 شركة إيطالية، بينها شركة “إيني” بوزن 9.35 %.

أما صندوق “بلاك روك” القطري iShares MSCI Qatar ETF، فيضم 69 استثماراً في شركات قطرية على رأسها نصيب بوزن 21.38 % في بنك قطر الوطني QNB، وزن 8.62 % في شركة “صناعات قطر Qatar Industries” التي تعمل بمجال البتروكيماويات، وزن 4.10 % في شركة ناقلات Nakilat المتخصصة التي تملك وتدير وتشغل ناقلات الغاز المسال، كما تتشارك في امتلاك محطة إعادة تغويز للغاز المسال و4 ناقلات للغاز النفطي المسال. بالإضافة إلى أنصبة بأوزان تقل عن 4 % بقليل في شركتي “وقود Woqod” وشركة “مسيعيد للكيماويات القابضة” التابعة لشركة “قطر للطاقة Qatar Energy”.

إقرأ على موقع 180  قبرص قاعدة هجوم اسرائيلي ضد لبنان!

كما أن “بلاك روك” تملك أيضاً صندوق iShares خاص بروسيا بالمثل، يضم استثمارات في 33 شركة روسية في مجالات مختلفة. لكن بأنصبة ذات أوزان جميعها يقل عن 1 % في الشركات الروسية التي تعمل بمجال الطاقة، مثل غازبروم، نفت جاز، تاتنفت، لوك أويل وكذلك – وهنا الرابط – شركة “نوفاتيك” Novatek بوزن 0.04 % فقط.

أبدأت ترى الصورة الآن عزيزي القارئ؟ لنكمل الرحلة سوية..

لا شك في أن نصيب ملكية الدولة يزيد في روسيا، عن مثيله في فرنسا، إيطاليا أو قطر. يتناسب عكسياً مع هذه الزيادة، تزايد أنصبة الاستثمار التي تقبع بين يدي “بلاك روك”.

لذا فمن الأصح حينما نفكر في امتيازات البلوك 9 وحقل قانا أن ندرك من يملك من وماذا، وما هو مدى تأثير أعلام الدول في مثل هكذا عالم؟

لتخرج “نوفاتيك” إذن من الشراكة الثلاثية لامتياز البلوك 9 (حقل قانا) أو من شرق المتوسط بأكمله؛ لن يصنع ذلك فارقاً كبيراً بالنسبة للدولة التي يقع الحقل في حدودها البحرية، أو المساهمين الأفراد، أو مالكي أنصبة الأصول مثل “بلاك روك”، بل إن نصيب “بلاك روك” الاستثماري، إذا ما دخلت شركة قطرية بدلاً من روسية في الشراكة الثلاثية، سيزيد من أنصبة استثماراتها، إلى ما هو أكثر مما كانت ستحققه إذا ما كانت الشركة روسية.

ناهيك عن أن شركة “بلاك روك” ومن خلال سلسلسة قرارات متتالية بدءاً من مارس/آذار الماضي وصولاً إلى أغسطس/آب 2022، قررت وقف التداول وتسييل أصول صندوق روسيا الاستثماري ERUS، نتيجة للعقوبات المفروضة على روسيا دولياً بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا.

يستطيع إذن، جلين هابارد (ممثل أمريكا) بوزن صوته الإداري ـ السياسي، ولو كان 0.1%، أن يفعل فعله في مناقشات مجلس إدارة “توتال” أو على الأقل أن يمثل صوت “بلاك روك” داخل مجلس إدارة الشركة الفرنسية، لتتحرك الأمور نحو تخارج شركة “توتال” على سبيل المثال، من شراكتها مع شركة “نوفاتيك” الروسية في حقول القطب الشمالي وغرب سيبيريا للغاز المسال، بدعوى أن الشركة الروسية-الفرنسية تيرنفتجاز Terneftgaz، تسهم في إمداد الجيش الروسي بمنتجات وقود يستخدمها في العملية العسكرية بأوكرانيا.

بعدها مباشرة، صرّحت الحكومة الروسية أنها لن تجعل الأمر سهلاً على الشركاء الأوروبيين، في تخارجهم من مثل هكذا شراكات، وأعلنت عن إعادة شراء نصيب “توتال” (49%) في شركة تيرنفتغاز ثانية، بسعر خسرت فيه فرنسا الكثير، لكن “بلاك روك” الأمريكية لم تخسر شيئاً بالتأكيد.

فالاهتمام الذي أبدته قطر للحلول محل “نوفاتيك”، يضمن لها نصيباً ذات وزن أكبر، عبر الشركات القطرية التي تملك بها أنصبة ضمن صندوقها الاستثماري القطري iShares MSCI Qatar ETF.

هل أصبحت الرؤية أكثر وضوحاً الآن؟

لتدور عجلة الشراكات والاستحواذات، بين مديري أصول مثل “بلاك روك” و”كيه كيه آر”، في مشروعات عقارية بالولايات المتحدة، ولتتشارك الاثنتان في صناديق استثمار صينية، أنابيب نفطية إماراتية، وفي الحصول على أنصبة سيادية للديون الأوروبية. ولينتقل شخص مثل البريطاني إيان ويليامسون Ian Williamson من منصب إداري في BlackRock، إلى منصب إداري في KKR. بينما يقبع شخص مثل جلين هابارد Glenn Habbard في مجالس إدارات الشركتين، بالإضافة إلى مقعده في مجلس مدراء شركة “توتال”، يمكنه من خلاله الدفع باتجاه الاستثمار في الاستكشاف بحقل قانا اللبناني، أو أي قطاع بحري أو حقل غازي، حسب رؤية المُلاك ومُحددي سياسات العالم، وأولها أن يشارك شرق المتوسط بنصيبه من كعكة استبدال غاز روسيا، التي تتكامل مع رقع أخرى، حتى وإن تواجدت حقول الغاز في حدود موزمبيق البحرية التي تتنافس على امتيازاتها وأنصبتها الآن، حوالي 13 شركة طاقة عالمية منها، “توتال” الفرنسية، “نوفاتيك” الروسية، “إيني” الإيطالية و”قطر للطاقة”. بينما تحتفظ “بلاك روك” ومثيلاتها من مُلاّك الأصول، بأنصبتها المتزايدة في ذات هذه الشركات وما يتخطاها في مختلف المجالات. يكفي القول إن “بلاك روك” شركة أمريكية.. وهناك تُصنّع أغلب القرارات.

كيف السبيل إذن للصغار والمفلسين، للحصول على وزن نسبي، نصيب استثماري أو صوت إداري وسط هذه الوحوش التي لم نعرض إلا نماذج فردية منها، لاستحالة عرض جميع ما يستحق العرض في هذا السياق. فما عُرض هو مدعاة للبحث الأعمق، أكثر منه دعوة للاكتفاء به.

هل يُغضب أحد القول إن أعلام الدول أصبحت مجرد رقعات، في نسيج أصول عالم أوسع، يسعى لاستغلال بقع الغاز غير الروسية في إطار سياسة دولية أكبر.

لا أعلم، لكن هذا القول، بالطبع لن يُغضب.. لاري فينك وأقرانه.

وما خفي كان أعقد..

تحياتي.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هوكشتاين عائد بمعادلات جديدة.. وشركات تُهدّد إسرائيل بالإنسحاب!