أذكره عندما كانت رسائله متنوعة، تحمل الفرح حينا والحزن حينا. أذكره كبيرا يحتل موقعا عاليا لا أصل إليه إلا من فوق مقعد. نحن الذين نذهب إليه وهو ثابت أو مثبت في مكانه. لا يذهب إلى أحد ولا يصاحب أحدا فيذهب معه أو معها إلى حيث ينفردان. حدث هذا بالفعل ولكن بعد مرور زمن طويل. حدث وقتها أن زارنا عامل كهرباء أو لعله كان موظفا بمصلحة التليفونات ومعه سلك أسود وسميك يباع بالأمتار. بعد الزيارة صار الهاتف يرافقنا إلى حيث نريد وسط اعتراض أمي التي كانت تحتج على وجود أي نوع من أسلاك تحمل كهرباء أو ما شابهها وتنتشر وتختبئ كالثعابين في أرجاء البيت وتحت الأرائك وبخاصة تلك التي تندس تحت البطاطين والملايات في غرف النوم. تعودنا على الهاتف المتحرك وتعود علينا فأتينا له بـ «سبت» من الخوص تزينه شرائط من الحرير الخالص.
***
وقتها كنت المراهق الوحيد في بيتنا. وربما كنت الصبي الوحيد في عائلة ممتدة من جهة الأم تجتمع أيام نهاية الأسبوع في بيت جدتنا. عشت سنوات مراهقتي تحت الرقابة. الطريف في الموضوع أنني قضيت أوقاتا رائعة على امتداد حيواتي العديدة أراقب فيها الرقباء مرورا بأنواعهم المتباينة. أعترف أنني لم أتعرف حتى يومنا هذا على رقيب في ذكاء ودهاء الأم البسيطة الحريصة بكل الإيمان والحب على حماية ابنها من قسوة سنوات المراهقة وإغراءاتها ومن شراسة وخطط وغوايات أمهات في كل مكان يبحثن عن «عريس» مناسب لبناتهن المراهقات أيضا. كلهم، أقصد كل رقبائي على امتداد وتعدد حيواتي، كانوا يشتركون في زعم واحد أو حقيقة لا زيف فيها وهو أن هدف الرقابة حمايتنا مما يحاك لنا من غرباء. سمعتها من أمي وبعد مرور عقدين سمعتها من رقيب في سفارة عملت فيها. ذات سهرة في أحد بيوت السهر في مدينة أوروبية، قال «وظيقتي؛ أحميك من مؤامرات للإيقاع بك في شبكات معادية وأكون قريبا منك خوفا عليك وعلى الوطن من لحظات ضعفك». أذكر أنني فاجأت الرقيب في تلك الليلة حين حذرته من صديقة له مكلفة بالإيقاع به. قال وهو غير مصدق «أتراقبني»، أجبته بأنها الصدفة المحضة التى ساقتني إلى الاستماع إلى تفاصيل علاقتهما. عشت ورقيبي صداقة طويلة الأجل ذكرتني دائما بالعلاقة خفيفة الظل التي قامت بيننا، أمي وأنا في سن المراهقة، وبالعلاقة، أيضا خفيفة الظل، التي قامت بيني وبين ابني في سن المراهقة. أنا إن نسيت أفضالا غير قليلة فلن أغفل عن فضل التليفون، طويل السلك، في تطور هذه العلاقة.
***
أطفال ليسوا كالأطفال. اخترت مقعدا قريبا من أطفال تصورت أنهم يلعبون ألعاب أطفال. هم بالفعل يلعبون ألعاب أطفال. أشفق على كل من يشتغل هذه الأيام بتربية أطفال بينما ذاكرته عن مراحل طفولته لا تزال حادة وغنية بالتجارب. قضيت دقائق وسط أربعة أطفال من الجنسين، كل طفل يحمل هاتفا. عرفت أنهم لا يلعبون كما تصورتهم فاعلين، رأيتهم يتبادلون معلومات عن أمور كنت أظن أنها لا بد أن تقع في اهتمام أفراد من شرائح عمرية متقدمة. بل أؤكد أنني، أنا نفسي، لا أذكر أنني تحدثت فيها بصوت عال أمام آخرين حتى بلغت وربما تجاوزت سنوات المراهقة.
***
مغزى ما رأيت هو أن هذه الحفنة من الأطفال لن تمر بمرحلة الطفولة. ليس هذا فقط ما أخشاه، هناك الأسوأ. هذه الحفنة من الأطفال تعيش مرحلة من تأليف وصياغة وتخطيط منظرين قرروا إلغاء مرحلة عمرية من حياة جيل من أجل صنع إنسان جديد، إنسان ما بعد أزمة الكوفيد، إنسان جاهز لعصر الذكاء الاصطناعي والآلات المولدة لآلات، إنسان أعيد تركيبه لمستقبل تذوب فيه فوارق عديدة.
رأيت أطفالا يلتفون حول «المحمول»، باعتباره مرجعية تحتل أسبقية على مراجع أخرى كان الظن أنها الأولى بالحماية والرعاية مثل الأم والمدرسة. هذه الصورة تذكرني بصورة أطفال يجلسون في الكتاتيب حول شيوخ استطاعوا وبنجاح كبير تخريج أجيال في منطقتنا قادتنا في اتجاه ما نحن فيه. في هذه الصورة يحتل الهاتف المحمول مكان الشيخ ومكانته ليقودنا جميعا نحو عالم غريب.
***
قالت الصديقة «قل ما تشاء في حق الهاتف المحمول. أتفق معك في أن أحدا منا لم يفلح في التخلص منه أو من تأثيراته. ولكني أذكرك يا عزيزي بحقيقة لن تنكرها. هل تتصور عالما يعيش فيه الناس بدون فيسبوك وتويتر وواتساب وعشرات الإبداعات في فنون الاتصال، كلها ما كانت لو لم يوجد الهاتف منذ بدأ مثبتا على حائط حتى صار محمولا في جيب قريب من القلب أو في يد تحتضنه في حرص وحب».
(*) بالتزامن مع “الشروق“