يبقى الرئيس ميشال عون من أكثر الشخصيات السياسية إشكالية في تاريخ لبنان الحديث، خاصة في ما يتعلق بطبيعة رأي المواطن به كزعيم وقائد، اذ انه نادراً ما تجد من يناصره او يعارضه باعتدال. فإما هو حب قاتل وأعمى أو عداوة لدودة لا ترحم.
لكن السنوات الأخيرة شهدت تغيراً ملحوظاً في مشهد من يناصر “الجنرال” وتياره السياسي. فباستثناء من يعتمد “الولاء غير المشروط” لعون ـ الرئيس، ظهر جلياً ان شرائح عديدة من الكتلة الموالية له تساقطت أو تتساقط تباعاً.
ربما يتساءل العماد عون وبعض المحيطين به عن عدم تجاوب الأكثرية الشعبية مع نداءاته الشخصية المتتالية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حتى يومنا هذا، وهذا الأمر يستوجب مراجعة سريعة، أقله للسنوات الممتدة من 2005 حتى يومنا هذا.
في العام 2005، حظي العماد عون بفرصة تاريخية بنيله ما يقارب ثلثي أصوات المقترعين المسيحيين في الانتخابات النيابية، وبرغم ذلك، تم اقصاؤه عن السلطة التنفيذية مما وضعه في موقع معارض متميز لكنه لم يطرح برنامج اصلاح محكم ومقنع ومتكامل جدير بأقوى كتلة معارضة في مجلس النواب بل بادر بعض المقربين منه الى خوض معارك جانبية ودونيكشوتية وعبثية تهدف الى تسجيل نقاط شخصية بدل تحقيق أهداف ذات منفعة عامة.
عام 2006، حسنا فعل العماد عون عندما احتوى محاولة اقصاء مكون لبناني هو حزب الله من خلال حوار تحول إلى “ورقة تفاهم” بين حزب الله و التيار الوطني الحر، وهو تفاهم هدف – حسب التيار والعماد عون – الى “لبننة حزب الله” و”اشراكه في عملية بناء الدولة المدنية”.
ما حصل لاحقاً ان التيار الوطني الحر ذاب في الحزب الذي استفاد من غطاء التيار المسيحي مقابل “رشاوى سياسية” في بعض الاستحقاقات الحكومية والانتخابية، بينما أحجم الحزب عن رفع الغطاء عن الفاسدين او استعمال هيبته في سبيل الحد من الفساد. ابعد من ذلك، قال أحد نواب الحزب في العام 2009 “ان العماد عون يذهب أحياناً أبعد مما نريد وهذا غير مفيد لنا لأنه إذا ضعف “الجنرال” مسيحياً لن يقدم أي شيء للحزب”.
بعد 2009، تم تعيين وزراء من التيار ومن دائرة العماد عون الذي أصر على تولي حقائب محددة معروفة بإشكاليتها (الطاقة، الاتصالات إلخ..). وتوقع الجميع ان التيار الذي واجه سوريا في لبنان من 1989 الى 2005 يعي بالتأكيد حجم التحديات وزخم المعطلين واستعدادهم للذهاب الى أبعد درجات الأذى في سبيل الحفاظ على منافعهم.
انقسم وزراء التيار الى قسمين: منهم من حاول فعل الصح، ولكنه فشل اما بسبب الجهل أو بسبب سوء تقدير مستوى المواجهة مع من لا يريد التغيير، فيما انبرى القسم الآخر الى التطبع مع حالة الإدارة المتحللة والانخراط بها. حتى لو فرضنا ان وزارة الطاقة هي مغارة علي بابا ولا يمكن إصلاحها، لماذا لم يتم اصلاح وزارات أخرى (الشؤون الاجتماعية، التربية، البيئة، العمل إلخ..). نذكر على سبيل المثال كيف تم تقديم عدة اقتراحات الى أحد وزراء الشؤون الاجتماعية من قياديي التيار الحر وكيف تجاهلها ولم يعمل على إيجاد بدائل إصلاحية مكتفيا بالتنظيرات التلفزيونية.
وفيما كان يجاهر التيار بنزاهة أعضائه وكفاءاتهم، كان أداء وزراء التيار موصوماً بالجهل، او ركوناً للاستسلام وبلغ في بعض الأحيان حد الشراكة في الفساد عن سابق تصور وتصميم. لو كان يعلم أولياء القرار في التيار حجم التحدي وقوة شبكة المصالح المناهضة لجهودهم وفشلوا بمهامهم الإصلاحية فهذه مشكلة، ولكن المشكلة الأكبر إذا كانوا لا يدركون حجم ونفوذ المناوئين لهم، والأدهى أن يكون خطاب هؤلاء يتناقض جذريا مع سلوكهم، بدليل تسوية العام 2016.
ترافقت هذا الانتقائية المعيبة في ذاكرة العونيين السياسية مع حملة “مكارثية” لم ترحم لا الأخضر ولا اليابس ضمن التيار نفسه ممن قرر عدم البصم “عالعمياني” للقيادة، فرأينا أبشع أنواع الذل والانتقام والتهشيم ترتكب بحق مناضلين ومناضلات ارتبط اسم التيار باسمهم في أحلك ظروف المواجهة مع الوصاية السورية
يدافع العونيون عن أنفسهم بالقول ان القوى السياسية الأخرى عرقلت عملهم. وبرغم صحة هذا التوصيف في حالات عديدة، الا ان اهم صفات القيادة هي التخطيط الجيد بما فيه تحديد المخاطر والمعوقات ورسم استراتيجيات للتغلب عليها. بالحد الأدنى فشل التيار والعماد عون في هذا الجانب. زادت الخيبة عندما مارس التيار سياسية المقاطعة والتعطيل – وهي من الأساليب المقبولة دستوريا وديمقراطيا إذا كانت في سبيل منفعة عامة وليس خاصة ولا تشل الخدمات الأساسية – في بعض الاستحقاقات الانتخابية والحكومية ولكنه أحجم عن استعمال نفس منسوب التصعيد في سبيل قضايا ذات منفعة عامة أخرى. مؤلم مثلا ان يكون توقع العماد عون منذ نهاية التسعينيات طبيعة وحجم الأزمة المالية والنقدية التي استفحلت عام 2019 ولكنه لم يقم القيامة في 2009 و2010 و2011 من أجل اصلاح القطاع النقدي وتحسين الية مساءلة المصرف المركزي والمصارف الخاصة، كما فعل للحصول على حقيبة معينة او تعيين بعض كبار الإداريين في الدولة.
تبوأ العماد عون رئاسة الجمهورية في عام 2016 على وقع اتفاقين سياسيين واعدين: اتفاق مع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري واتفاق آخر مع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع. الإشكالية في حالة الحريري ان الاتفاق معه جاء من دون أي حجة مقنعة لكيفية اقفال حلقة “الابراء المستحيل” الذي استعمله التيار لسوق اتهامات خطيرة جدا ضد “الحريرية السياسية” من دون أن يترجم هذا الى تبعات قانونية أو سياسية. فجأة أصبح عدو الأمس “الفاسد” و”المُفسد” شريكاً أساسياً في التسوية الرئاسية وفي السلطتين التنفيذية والتشريعية.
في ما يخص اتفاق معراب، كان يمكن أن يشكل افضل نهاية لأسوأ جولة من جولات الحرب اللبنانية التي وضعت الأخوة والأقارب والأصدقاء في متاريس متصارعة، لو بني على أسس المصالحة الحقيقية – المكاشفة بالحقيقة والمصارحة – بدل ان يكون مجرد اتفاق محاصصة يوفر للعماد عون فرصة الوصول الى الرئاسة وللقوات اللبنانية حصة في السلطة التنفيذية كما في الإدارة (مناصفة مع التيار وبالتالي إختزالهما كل التمثيل المسيحي). وفيما كانت الذاكرة الجماعية المسيحية لا تزال ترزح تحت وطأة منازلة 1990 الكبرى بين أقوى طرفين مسيحيين، تلهت القيادات الحالية بكيفية تحسين مشاركتها في السلطة ولو على حساب الحقيقية ما أدى – كما كان متوقعا – الى مواجهة جديدة بين الطرفين لا تقل أذى – سياسيا – عن جولة 1990. وما زاد الطين بلة هو لجوء التيار والعماد عون الى الهروب الى الأمام، فبدل تشخيص مكامن الخلل في اتفاق معراب ومعالجتها لتدعيم الدور السياسي المسيحي وبدل الانفتاح على القوى المسيحية الاخرى (الكتائب، المردة، الكتلة الوطنية والشخصيات المستقلة التي لها حيثيتها..)، هرولوا الى تعويم مجموعة من زمن الوصاية السورية.
ترافقت هذا الانتقائية المعيبة في ذاكرة العونيين السياسية مع حملة “مكارثية” لم ترحم لا الأخضر ولا اليابس ضمن التيار نفسه ممن قرر عدم البصم “عالعمياني” للقيادة، فرأينا أبشع أنواع الذل والانتقام والتهشيم ترتكب بحق مناضلين ومناضلات ارتبط اسم التيار باسمهم في أحلك ظروف المواجهة مع الوصاية السورية. ومرة أخرى بدل احتواء الأمر وإيجاد مساحات مشتركة بين المتنافسين ضمن التيار نفسه، اختار العماد عون طريق التفضيل بين مناضل وآخر على أساس الولاء المطلق وليس بناء على تاريخ الشخص وتضحياته وقدراته في خدمة القضية. فأصبحت صورة مع أحدهم في مكان عام سببا موجبا للطرد من الحزب وفق اليات كيدية وغير شفافة جديرة فقط بأسوأ الأحزاب الشمولية. أضف الى ذلك تغييب أي إطار للمساءلة داخل التيار، فرأينا فشل كوادر التيار في ملفات عديدة من دون محاسبة حتى صح القول بهم ان “فاقد الشيء لا يعطيه”. إذ لا يمكن للتيار ان يحاسب الآخرين ما لم يمتلك جرأة المساءلة الداخلية. على العكس من ذلك، دأبت قيادة التيار على تنمية روح التنمر لدى كوادره، فرأيناهم يرجمون الآخرين بادعاء العفة وراحوا يتهمون كل من يختلف معهم بالرأي – بمن فيهم بعض وجوه التيار التاريخية – بأسوأ المزاعم والإتهامات.
لم تؤد مقاربة الرئيس عون والوزير باسيل الى بناء مؤسسة حزبية متماسكة تجسد استمرار الخط التاريخي للتيار بل أوصلتنا الى منظومة سياسية محكومة بالمنافع الخاصة والانتخابية وبقلة إنتاجية والمزيد من مركزية وحصرية القرار وبالتالي المزيد من النزف التنظيمي وتآكل الشعبية
جاءت تطورات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لتشكل تحدياً للتيار مع الذات والجمهور. طالب الناس بما طالب به التيار لسنوات – ولو مارس عكسه بعد 2005ـ وبدل الاستفادة من الفرصة وتصويب الوجهة عبر الاعتراف بالأخطاء والعمل على مبادرات اصلاحية حقيقية، لجأت القيادة الى نظرية المؤامرة وشيطنة كل من في الحراك، فذهب الصالح في عزاء الطالح. رزح الناس تحت رحمة المصارف الخاصة التي تحكمت بأموالهم، وبدل ان يستعمل الرئيس عون صلاحياته وقدرته التعطيلية لكبح جماح المصرف المركزي والمصارف الخاصة، استسلم للأمر الواقع وفضّل – مرة أخرى – لعب دور الضحية على القيام بهزة كبرى تكون بحجم الأزمة وتداعياتها الكارثية. ترافق ذلك مع هجوم اعلامي مركز على حاكم المصرف المركزي وسياساته النقدية والمالية لا سيما الهندسات المالية، متناسين ان التجديد لرياض سلامة حصل عندما كان عون رئيسا للجمهورية والتيار بأفضل حالاته حكوميا وبرلمانيا وفي عز دفن “الإبراء المستحيل” في زمن التسوية الرئاسية، وان عدداً من أركان التيار من جماعة المصارف (م. ب؛ ر. خ؛ ر. ن؛ عائلة ن. ص وغيرهم) استفادوا بشكل مباشر او غير مباشر من نفس الممارسات التي يقدمونها اليوم كمُسبب للازمة (فوائد مرتفعة، هندسات مالية، تماهي بين المصارف الخاصة والهيئات الرقابية إلخ..).
منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى الآن، لم يستطع لا الرئيس عون ولا التيار تقديم ولو بداية حل جزئي للأزمة. لقد تحكموا طوال أشهر بحكومة حسان دياب وبرغم عدم وجود قوى متهمة بعرقلة التيار (المستقبل، القوات، الاشتراكي) في الحكومة، كانت نتيجة عملها صفرية. أضف الى ذلك الخيبة من أداء التيار بعد انفجار 4 آب/ أغسطس حيث تبين ان تواجد التيار في السلطتين التنفيذية والتشريعية وفي الإدارة (الجمارك) لم يسمح حتى بدفع قضية مخزون النيترات الى الواجهة الإعلامية وبالتأكيد لم يؤثر على أداء القضاء المرتبك حتى يومنا هذا.
إذ يتحرك الرئيس عون والتيار الوطني الحر اليوم برصيد سياسي متآكل بفعل أخطاء – وخطايا في بعض الأحيان- وسوء إدارة واستراتيجية تواصل فاشلة، فإن الوقائع تدل أن الرئيس عون اساء تقدير “ظروف المعركة” واتكل على عناصر وهمية وخلق سوابق في مراحل معينة ناقضها في مرحلة لاحقة (كما التصريح في عهد ميشال سليمان انه لا يحق لرئيس الجمهورية ان يطالب بحصة في الحكومة بينما يطالب هو الان علنا بكتلة وزارية من ثلث الوزراء).
اما الوضع داخل التيار الوطني الحر فليس أفضل بكثير. لم تؤد مقاربة الرئيس عون والوزير باسيل الى بناء مؤسسة حزبية متماسكة تجسد استمرار الخط التاريخي للتيار بل أوصلتنا الى منظومة سياسية محكومة بالمنافع الخاصة والانتخابية وبقلة إنتاجية والمزيد من مركزية وحصرية القرار وبالتالي المزيد من النزف التنظيمي وتآكل الشعبية.
في السنوات الـ 16 الأخيرة، تحول مشروع الرئيس عون من مشروع تحرر وتغيير واصلاح الى مشروع مشاركة بالسلطة بأي ثمن ولو على حساب المبادئ والتاريخ وتضحيات المناضلين وأصبح الهدف السياسي العام هو توريث جبران باسيل ونقطة على السطر. فهل نتعجب حينها ان تبقى نداءات الرئيس عون من دون أية استجابة؟