تميز العديد من الجغرافيين والمؤرخين الغربيين بحرفة أنسنة الجغرافيا وإخراجها من قوالبها وخرائطها الجامدة، ولعل أبرزهم سيريل فوكس في كتابه “شخصية بريطانيا” وهالفورد ماكيندر في “بريطانيا والبحار البريطانية” وإرنست لافيس في كتابه “شخصية فرنسا الجغرافية”. في عالمنا العربي، خرج الجغرافي والمفكر الكبير جمال حمدان بمؤلفه الثري والعميق “شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان”. سبقه إلى ذلك حسين مؤنس في كتابه “مصر ورسالتها” وشفيق غربال في “تكوين مصر”. هؤلاء شرحوا أن الدور السياسي يأتي من خلال الشخصية الجغرافية وليس العكس. والأهم فسروا أهمية الجغرافيا في بناء المجتمعات وكل ما تحمله من تاريخ وفن واقتصاد وحضارة.
تعلمنا من مؤرخينا أن لنهر النيل دوراً لم يمنح له. الدور مكتسبٌ منذ أن صنع الإله حابي هذا المجرى المائي بحسب الأساطير الفرعونية. فيه يجري الماء بقوة الجاذبية لا بقوة السلاح أو السياسة. يسافر من الأعلى حتى الأسفل عازفاً نوتة مصرية سرمدية لا تزال تطرب أذن كل زائر. تصنع حكايات على أطراف كورنيشها ثم تدخل التاريخ من دون “إحم ولا دستور”.
قبل مائة سنة، التقطت أذن رئيس المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل هذا الصوت الجذاب، وهو يصنع خرائط وحدود في المشرق العربي. من على “برندة” فندق سميراميس في شهر آذار/ مارس من العام ١٩٢١ عقدت اجتماعات ضمت أربعين عضواً متشحين بغواية المستعمر الذي لا يسمع إلا ما يُطرب كبرياءه. اجتمعوا لتسوية الفوضى التي خلّفها الانهيار العثماني بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بفوز الحلفاء عليهم. هؤلاء هم “تشرشل والأربعين حرامي”، كما وصفهم الكاتب البريطاني جيمس لانجتون. “عصابة سياسية”، تداولت بمصائر فلسطين والأردن والعراق. سرعان ما اكتشف تشرشل عندما أصبح رئيساً لوزراء بريطانيا العظمى أن هذا الصوت لا يأتي من دون فيضه. فاض النهر بساحر أسمر ألهب العالم العربي بكلامه. عندها صاحت هتافات في الساحات العربية تغني نوتة نهرية على وزن ناصر.
كل صباح باكر، يجد الشاب طلال سلمان هذا الرجل جالساً أمام نهر النيل صامتاً ومتأملاً بكل هدوء وطمأنينة. ذات يوم اقترب سلمان منه بفضول يسأله سر هذه الجلسة اليومية. أجابه حارس النهر: “انا أطمئن كل يوم على النيل، إذا كان بخير فالدنيا بخير”
غير أن جمال عبد الناصر الإنسان ذاته وقع في شباك هذا النهر الساحر. الرجل لم يجد سبيلاً لإستعادة طعم الحياة إلا من على ضفاف الكورنيش النهري للنيل. بحسب الكاتب العربي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، كان “الريس” جمال يسأل عن لقاءات الفنانين والصحافيين في المقاهي الممتدة على طول الكورنيش في قلب القاهرة. يسمع أخبارهم مستمتعاً بالخلطة العبقرية التي تصنعها هذه اللقاءات لناس أتوا من تيارات متعددة بينهم الناصري والشيوعي والأزهري والتقليدي. هؤلاء كانوا يأتون من مغرب العرب ومشرقهم مع أكثرية من أهل الخليج مفتونة بالنهر العظيم (الى يومنا هذا). فعلت الدواعي الأمنية فعلها في جدول أعمال “الريس”، ما دفعه إلى سماع القصص الرديفة للتقارير الأمنية المدبجة بأقلام موظفين. كل ذلك وهو يحلم بفرصة المشاركة في مثل هذه اللقاءات على إيقاع النيل. سنحت الفرصة مع زيارة رئيس قبرص المطران مكاريوس، فجرى الإعداد للقاء معه في تراس فندق سميراميس. أعدت الخطة بكل تفاصيلها وبحماسة بالغة. وعندما وصل “الريس” إلى مكان الاجتماع.. والسعادة الفائضة تغمره، لم يتمالك نفسه فاتصل بمحمد حسنين هيكل قائلاً “إحزر أنا فين؟” لربما كان يقصد أن أذنه اشتاقت الى صوت النهر وإلى التصرف بكل طبيعية من دون قيود المنصب!
وجدت نفسي أستمع الى قصة من وحي سحر هذا النهر لا تزال عالقة في ذهني. ففي أحد أيام العام 2020، وقبل انتشار جائحة كورونا بأسابيع قليلة وقفت مع مجموعة من الأصدقاء أمام فندق سميراميس في إنتظار سيارة أجرة. حينها وقف الأستاذ طلال سلمان بحزم وقال لي: لماذا السيارة، لما لا نمشي على كورنيش النيل سيراً على الأقدام؟
آثر الأستاذ طلال سلمان المشي على وقع صوت النهر، وهو الذي اتخذ جعل صوته وصوت صحيفة “السفير” لعقود من الزمن “صوت الذين لا صوت لهم”. إلتزمنا بأوامر الأستاذ سلمان وخلال مشينا بخطى هادئة، إستذكر من زمن الشباب قصة رجل مصري كان يلبس أجمل وأشيك الملابس بمعايير الزمن الناصري. الطربوش الأحمر على الرأس والبدلة السوداء. فخامة اللونين الأسود والأحمر لا يقطعهما سوى لون المنديل الناصع البياض على صدره. بينما الفيونكة السوداء بأضلاعها المثلثة تحتل صدره بكل ثقة. كل صباح باكر، يجد الشاب طلال سلمان هذا الرجل جالساً أمام نهر النيل صامتاً ومتأملاً بكل هدوء وطمأنينة. ذات يوم اقترب سلمان منه بفضول يسأله سر هذه الجلسة اليومية. أجابه حارس النهر: “انا أطمئن كل يوم على النيل، إذا كان بخير فالدنيا بخير”.
بدون استئذان وبصنع هذا النهر صيغت أسطورة أم الدنيا. والأذن تطرب والعقل يفيض بينما الفرعون يتبدل. أكاد أجزم أن هذا الدور الفيضي للنهر هو سر القوة الناعمة لبلاد الفراعنة. لنتخيل الفلاح منغرساً في الأرض تحت الشمس وبعد يوم مضنٍ من العمل الجميل والصعب، يسترق النظر باتجاه الماء الذي يجري هونا فيصيح كما صاح الشاعر عبد الرحمن الأبنودي “وتعيش يا نيل يا طيب، وتعيش يا نسيم العصر”، ثم ترتسم على خد الفلاح ابتسامة عريضة مع آخر بيت في قصيدة الشاعر وهو يقول “وتعيشي يا ضحكة مصر”.
عجيب صوت هذا النهر. إذا إنقطع ينقطع معه التاريخ وتتوقف الحياة. صوت وصل صداه إلى أصقاع العالم متخطياً تشرشل وجمال عبد الناصر وحارس النهر. لا تزال أفئدة كثيرين تهيم شطر مصر لسماع صوت نهرها. كل شأن في الحياة المصرية هو نتاج فيض هذا النهر العظيم. في السياسة والفن والثقافة والإجتماع والاقتصاد وحتى المؤامرات. هذه هي الروح التي تفيضها، لا شرق ولا غرب، هي ببساطة أم الدنيا. إذا توقف النهر توقفت الدنيا. اسألوا التاريخ عنها. هو حارسها وحاميها.