منذ العام 2017، انخفض معدّل الدخل الفردي في لبنان بأكثر من 40٪، وفقدت الليرة اللبنانية 90٪ من قيمتها، وتم حجز المدّخرات الوطنية وتقليصها تدريجياً في ظل فشل النظام المصرفي، وتعثُّر الدولة في سداد ديونها السيادية. كما أن معدَّلات البطالة والفقر، التي تجاوزت الـ 40 والـ 50٪ على التوالي، تستمر بمنحى تصاعدي، فيما تعيش العديد من الأسر على الصَدَقات والمساعدات الغذائية. وقد تفاقم هذا الوضع بشكل مأساوي بسبب الخسائر التي سبّبتها جائحة كورونا، وتداعيات انفجار مرفأ بيروت.
ولأنه في نهاية المطاف لا مفرّ لها من رفع الدعم عن الغذاء والأدوية والمحروقات بشكل تدريجي، بسبب تبخُّر الاحتياطي من العملات الأجنبية وانخفاض تدفقات الرساميل الخارجية، فإن حكومة تصريف الأعمال تدرس وضع خطة للرعاية الاجتماعية عبر تحويلات نقدية تطال 80٪ من السكان، وهي نسبة مئوية من المستفيدين نادراً ما يتم شمولهم في أي برنامج للرعاية.
في العام الماضي، أشار البنك الدولي أن لبنان يواجه “ركودا متعمدا”. هذا الوضع ناجم عن سياسات متهورة وعدم استجابة الـ Nomenklatura (في البلدان الشيوعية السابقة، كان Nomenklatura هم الأشخاص الذين وافق عليهم الحزب الشيوعي وعُينوا في مناصب السلطة) التي تتحكم بمصير البلاد منذ قرابة نصف قرن، والآن تقودها إلى الانهيار.
سيحكم التاريخ على القيادات اللبنانية بالتقصير في أداء واجبها، وقد يصِفهُ البعض بالإهمال الجنائي، إذ أنه عبارة عن تخلٍ عن شعب معوز وشبه معدوم ووضعه في منحنى شديد الانحدار نحو الهاوية. فبدلاً من رسم طريق للاصلاح، تتجاهل هذه القيادات آلام أُمّةٍ بكاملها تعاني من تقلبات السياسة الإقليمية والمنافسات الحزبية، تاركة مصير شعبها لأهواء مصرف مركزي يتخبّط بشكل صارخ في إدارة السياسة النقدية، ويلعب ويعبث بحطام قطاع مصرفي يَسلب بشكل مٌمَنْهَج الطبقة الوسطى الآخذة في الانكماش.
من خلال سياسة تغذية الخوف من “نهاية العالم”، فإن الإستراتيجية التي يعتمدها القادة الزعماء هي محاولة الحفاظ على الوضع الراهن من خلال مجموعة من “الرشاوى” حتى موعد الانتخابات التشريعية المقررة في مايو/ أيار 2022
لا ضرورة للإسهاب في العلل والمصاعب التي يعاني منها المجتمع اللبناني، من أمّهات غير قادرات على شراء الحليب لأطفالهن، ومرضى يتم إبعادهم حتى عن الطوارئ في المستشفيات، وطوابير طويلة أمام محطات الوقود، وتقنين إمدادات الطاقة، وتراكم طلبات الهجرة. لقد مرّت سنوات وعقود أدت إلى تراكم هذا الوضع الرهيب، فلا ينبغي أن يكون مفاجأة لأحد. ما قد يكون مفاجئاً هو مرونة الطبقة الحاكمة المكروهة والمنبوذة ظاهرياً من قبل الشعب، وقد أضعفتها أشهر من السخط، ولكنها مع ذلك لا تزال ثابتة على صهوة الجواد برغم الطريق الوعر والخطِر التي وضعت فيه شعبها، فما الذي يمكن أن يفسِّر مثل هذه المثابرة والقدرة على الصمود لدى هذه الطبقة الحاكمة؟
في لبنان، كان المواطنون والمقيمون – على حد سواء – يتمتّعون، ولفترة طويلة، بمستوى معيشي أعلى بكثير مما تبرره الأسس الاقتصادية للبلاد. لقد تمتعوا بفائض من الدعم في “دولة الرفاهية” كان يُقدِّم للسكان من جميع الطبقات، وإستفاد منه الأغنياء قبل الفقراء وبطرق غير متناسبة أو عادلة. كانت الرافعة الرئيسية لهذه الشبكة الواسعة من الدعم هي الارتفاع المبالغ فيه، بل القيمة غير الواقعية، لسعر صرف الليرة، مما جعل الواردات تشكل، بشكل مباشر أو غير مباشر، حوالي 80٪ من مجمل قاعدة الاستهلاك في لبنان. في مقابل ذلك، انخفض الإنتاج المحلي، باستثناء السلع غير القابلة للتداول عبر الحدود (كالبناء مثلاً)، فيما تعرضّت الصادرات لجزية شديدة (في عام 2018، وفي حين كانت الصادرات أقل من 3 مليارات دولار أميركي، تجاوزت الواردات الـ 23 مليار دولار أميركي، أي ما يقرب من 50 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي).
كيف أمكن للبنان أن يتحمَّل نظام سعر صرف ثابت ومبالغ فيه لما يقرب الثلاثة عقود؟
لم يكن ذلك ممكناً لولا التدفقات المالية المستمرة من الجاليات اللبنانية المنتشرة في الشتات – يعاني لبنان من “المرض الهولندي” حيث سلعة التصدير الرئيسية هي شعبه – والودائع التي يجذبها نظام مصرفي متضخم، عبر أسعار فوائد مرتفعة (وأحيانا نظام السرية المصرفية الذي يسمح بهامش واسع من حرية التصرف والتحرر من عبء التصريح عن مصدر الأموال). وعندما أدّت الأحداث الإقليمية، ولا سيما حرب سوريا، وبيئة الأعمال غير المؤاتية بل العدائية أحياناً للاستثمار، وممارسات الحوكمة الوقحة، إلى تعطيل التدفقات إلى الداخل، لم يعد من الممكن استمرار النموذج الاقتصادي الهَشّ القائم على الاستيراد والاستهلاك. لقد انهارت ركائز الهيكل بأكمله (قيمة العملة، النظام المصرفي، المالية العامة، الرعاية الاجتماعية، ونمط المعيشة اليومية) الأمر الذي وضع نهاية مفاجئة لرحلة البهجة والثراء.
حتى الآن، لا تزال مجموعة أمراء الحرب الطائفيين مع ألوية البلطجية “غب الطلب” تُمسك بزمام السلطة، وذلك بعد مرور عامَيْن على اندلاع انتفاضة وطنية عابرة للطوائف والمناطق والأجيال، وبرغم السخط الشعبي العارم، وفي ظلّ غياب تام لأي خطط أو إجراءات ذات مصداقية لإدارة الأزمة، ناهيك عن حلَّها، وبرغم الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي لا حصر لها (انفجار مرفأ بيروت، جائحة كوفيد، تداعي أنظمة الرعاية الصحية والتعليم، تهالك البنى تحتية، تدهور بيئي لا رجعة فيه، مؤسسات عامة مجوّفة، وأرضٌ مثقَّلة بعبء لا يُحتمل بسبب وجود 1.5 مليون لاجئ سوري). من وجهة نظري، يرجع السبب في ذلك إلى أن الكثيرين ما زالوا لا يدينون للدولة ومؤسساتها، بل لأكباش الطوائف التي ينتمون إليها والذين غرسوا في أذهان الفرد والجماعة ثقافة التبعية والمحسوبية على حساب قيم المواطنة.
مع التدهور المستمر للأوضاع وغياب أي آفاق لأي حلول، قد يصل الحرمان إلى عتبة الحد الأقصى، مما سيؤجج التوترات الاجتماعية التي يمكن أن تتحول إلى اضطرابات وأعمال عنف تترتب عنها عواقب على السلم الأهلي والاستقرار
للتوضيح، لنفترض أن مستوى المعيشة الذي يتلاءم مع طاقة البلاد الاقتصادية كان يمكن أن يوازي معيار 100، فيما أرسي في لبنان عند مستوى 200 بفضل الدعم السخي. وقد أدّى الانهيار السريع للنظام المالي إلى انخفاض المستوى إلى 40. مع ذلك، يأمل كثيرون في عدم الهبوط أكثر ويعتقدون أنه بمجرد أن ينتصر “عرَّابوهم” (أكباش الطوائف) على منافسيهم في صناديق الاقتراع أو بأية وسيلة أُخرى، فإن هؤلاء الزعماء – الذين يدينون لهم بوظائفهم وسبل عيشهم وبتوفير الحماية لهم من الملاحقة عندما ينتهكون القانون – هم من سيقودونهم من العاصفة إلى برِّ الأمان. ومن خلال سياسة تغذية الخوف من “نهاية العالم”، فإن الإستراتيجية التي يعتمدها القادة الزعماء هي محاولة الحفاظ على الوضع الراهن من خلال مجموعة من “الرشاوى” حتى موعد الانتخابات التشريعية المقررة في مايو/ أيار 2022.
إلى ذلك الحين، يسعى أولياء الأمر جاهدين للإبقاء على الدعم المخصص للاستهلاك الأساسي (مواد غذائية أساسية، أدوية الأمراض المزمنة، القمح، مشتقات النفط) وذلك بالرغم من النقص المتزايد في الإمدادات. في موازاة ذلك، يقترحون مشروعاً، على افتراض أن البنوك قادرة على تحمل تكاليفه، لتحرير جزء من الودائع المصرفية المقوَّمة بالدولار يستهدف حوالي 800 ألف حساب (او ناخِب؟) لا تتعدّى قيمة الواحد منها قرابة 25000 دولار أميركي. في غضون ذلك، يبقى الأشخاص الأكثر احتياجاً في مستوى الاكتفاء الذاتي من خلال المساعدات الإنسانية التي تتدفق من الداخل والخارج عبر المنظمات غير الحكومية، وعبر برنامج تحويلات نقدية مموَّل بقرض من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار أميركي والذي لم يدخل حيز التنفيذ بعد. وأخيراً، والأهم من كل ذلك، هناك حوالي 2-3 مليار دولار أميركي في شكل تحويلات سنوية تأتي من المغتربين اللبنانيين في الخارج لدعم عائلاتهم.
في الختام، وعلى الرغم من أن تدابير الإغاثة المتنوعة تساعد في تخفيف معاناة العديد من الأسر اللبنانية، إلا أن النتائج السياسية قد تكون مخيبة لآمال أولئك الذين يأملون بإزاحة الطبقة الحاكمة من السلطة في انتخابات العام المقبل – إذا ما تمَّت في موعدها المحدَّد – لا سيما في ظل القانون الانتخابي الحالي المُفَصَّل بحسب المقاس، وبالنظر إلى المعارضة المجزأة وغير الفعَّالة لثوار “ثورة WhatsApp”(*). غير أنه يجب توخّي الحذر في حالة تعذّر إحداث تغيير في القيادة والحوكمة من خلال صناديق الاقتراع. فحتى الآن، تم الحفاظ على السلم الاجتماعي بسبب صفات الطِيبة والنَخوة التي يتمتع بها اللبنانيون والإستعداد لمساعدة الغير. كما أثبت اللبنانيون قدرتَهم على تحمّل الصعاب جرّاء تاريخ مُضرّج بالصراعات والفتن، إضافةً إلى ابتكار بدائل للخدمات العامة الغائبة أو المتدنية – مثل تأمين الطاقة بواسطة مولِّدات خاصة منتشرة في الأحياء، وصهاريج المياه التي تتنقل بين الأحياء، والتعليم الخاص، وحتى.. الجيش الخاص – بالإضافة إلى شريان الحياة الذي يؤمنه المغتربون لأسرهم. وبرغم ذلك، ومع التدهور المستمر للأوضاع وغياب أي آفاق لأي حلول، قد يصل الحرمان إلى عتبة الحد الأقصى، مما سيؤجج التوترات الاجتماعية التي يمكن أن تتحول إلى اضطرابات وأعمال عنف تترتب عنها عواقب على السلم الأهلي والاستقرار. ففي حال تَفاقَمَ الضغطُ وعمدَت حشودٌ غاضبة من البؤساء إلى اجتياح البوابات المعدنية للمستشفيات، وتسلّق الأسوار التي تحمي البنوك، واقتحام مخازن المؤن والإمدادات، وقطع الطرق الرئيسية، فإن القوات المسلحة الضامنة للقانون والنظام والمؤتمنة على حماية الممتلكات العامة والخاصة، سوف تجد نفسها في موقفٍ صعب، لأن القمع، وإن لم يَكُنْ بقوةٍ مُفرِطة، قد يقوّض النوايا والمشاعر الحسنة التي اكتسبها الجيش وقوى الأمن في قلوب وعقول الشعب اللبناني.
لقد آن الأوان لكي يستيقظ القَيِّمون على الوضع الكارثي للبلاد، علّهُم يوقِنون ويكِفّون عن المراوغة والتملُّص من تحمل واجباتهم تجاه شعب يطلب الخلاص. لكن هل لديهم الرؤية والاستعداد للقيام بذلك؟
(*) “ثورة WhatsApp”: انتفاضة لبنان الشعبية في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، مدفوعة بقرار حكومي، تم إلغاؤه لاحقاً، بفرض علاوة يومية بنسبة 20 سنتاً على حسابات WhatsApp.