حتى لا تذهب التوقعات بعيداً، ينبغي وضع الأمور في نصابها، من وجهة نظر شخصية لبنانية مواكبة لكل التحضيرات التي سبقت إنعقاد هذا اللقاء، “فالبابا فرنسيس يأتي من خلفية لم تكن على تماس دائم مع أزمات الشرق الاوسط بشكل عام، والازمة اللبنانية بشكل خاص. لذلك؛ في المرحلة الاولى من حبريته لم يعطِ كبير إهتمامه للبنان، أخذاً في الحسبان ان الوضع اللبناني منذ إنتخاب البابا السادس والستين بعد المائتين في العام 2013، كان إيقاعه مضبوطاً على إيقاع الإقليم وتحديداً الأزمة السورية التي إندلعت في العام 2011 وطالت شراراتها لبنان، أمناً وسياسةً وإقتصاداً وإجتماعاً ونزوحاً لكتلة مليونية سورية إلى ربوع لبنان”.
لم يهتز الإستقرار اللبناني إلى الحد الذي يجعل الكرسي الرسولي يعطي أولوية لملف لبنان على ما عداه، “إذ كان جُلّ إهتمامه منصباً اكثر على ملفات دولية عديدة، ابرزها على سبيل المثال لا الحصر، فك الحصار عن كوبا، بعد نحو ستة عقود من الحصار الاميركي للجزيرة، وهذه من ثمار الدبلوماسية الفاتيكانية التي يقودها بحرفية عالية امين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، وهو الشخصية الثانية بعد البابا”.
ثمة نظرة سلبية فاتيكانية ـ غير خافية على كثيرين ـ إلى المستوى الروحي في لبنان، وذلك على خلفية عدد كبير من الدعاوى المقدمة في حاضرة الفاتيكان من قبل رجال دين مسيحيين ضد مسؤولين كنسيين (دعاوى فساد مالي وعقاري واخلاقي إلخ..). يسري ذلك على المستوى السياسي المسيحي الذي تنظر إليه القيادة البابوية منذ نهاية الثمانينيات الماضية (القتال الماروني الماروني) أيضاً نظرة سلبية، بسبب تقديم الخاص على العام وعدم إيلاء قضية الوجود المسيحي في لبنان ما تستحقه من إهتمام.
لا يعني ذلك إهمال ملف لبنان. “هذا ملف لم يهمله كل من توالى على الكرسي الرسولي منذ زمن البابا ليون الثالث عشر الى يومنا هذا”، وخير دليل الاهتمام الكبير الذي اعطاه البابا القديس يوحنا بولس الثاني للبنان عندما قال ان “لبنان هو اكثر من رسالة”. لبنان “رسالة العيش معاً ورسالة حرية”. لبنان “رسالة للشرق وللغرب”.
اتى البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان ليستكمل المسيرة نفسها، انما كُثر من اللبنانيين لا يعرفون العمل الكبير الذي قام به البابا بيوس الثاني عشر الذي تأسست في حبريته العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وحاضرة الفاتيكان سنة 1947، خصوصاً عندما اوفد الكاردينال أنجيلو جيوسيبي رونكالي ممثلاً له لترؤس المؤتمر المريمي الذي عقد في لبنان سنة 1954 وتوّج تمثال العذراء في سيدة لبنان (حريصا)، وفي سنة 1958 فاز رونكالي بالحبرية تحت اسم البابا يوحنا الثالث والعشرين.
فوجئ بارولين “بإبتعاد الكنيسة في لبنان عن آلام ومعاناة اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين”، ولم يجد الا مؤسسة كاريتاس تحاول قدر المستطاع وفوق طاقتها بذل جهود لاغاثة ومساعدة المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، بينما بدت معظم المؤسسات الكنسية “في حالة غيبوبة”
في ما بعد أتى البابا بولس السادس الذي كان على علاقة صداقة متينة مع اول سفير للبنان في الفاتيكان وكان برتبة وزير مفوض هو شارل حلو، وبفضل هذه الصداقة تمكن حلو، عندما صار رئيساً للجمهورية، من ان يستوقف البابا بولس السادس في مطار بيروت وهو في طريقه إلى بومباي في الهند، ويُعد له استقبالا كبيرا في كانون الأول/ ديسمبر 1964، وشدد خلاله الحبر الأعظم على أهمية لبنان كنموذج للتعايش السلمي.
تتابع دوائر الفاتيكان عن كثب ما يجري في لبنان، وتأكد هذا الامر بشكل جلي عندما اوفد البابا فرنسيس الى لبنان امين سر الدولة الكاردينال بيترو بارولين، الرجل الثاني في الفاتيكان، في آب/ أغسطس 2020، وقد فوجئ الزائر البابوي “بإبتعاد الكنيسة في لبنان عن آلام ومعاناة اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين”، ولم يجد الا مؤسسة كاريتاس تحاول قدر المستطاع وفوق طاقتها بذل جهود لاغاثة ومساعدة المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، بينما بدت معظم المؤسسات الكنسية “في حالة غيبوبة”. وفي الوقت ذاته، لاحظ عدم وجود اي نظرة سياسية لمستقبل الوجود المسيحي في لبنان عند معظم قادة المسيحيين في لبنان، كما لاحظ ان الشعب اللبناني “متروك لمصيره ولا احد يلتفت اليه”.
هل المطلوب إطلاق مبادرة فاتيكانية؟
طُرح هذا السؤال للمرة الأولى غداة إنتهاء زيارة بارولين ممثلاً البابا فرنسيس في السنة الماضية. كان الإنطباع السائد ان المبادرات استنفدت إلى حد كبير في زمن حبريتي البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر، وبلغت ذروتها مع إصدار ارشادين رسوليين (ارشاد للبنان وآخر للبنان والشرق)، ومع زيارتين بابويتين الى لبنان لم يتم الاستثمار على اي من نتائجهما انما تم اهمال الارشادين الرسوليين ولم يطبقا.. ولعل الديموغرافيا وحدها تقدم أجوبة على هذا النزيف المستمر سواء على صعيد مسيحيي لبنان أو المشرق.
اتت زيارة البابا فرنسيس التاريخية الى العراق مؤخراً لتعيد تحريك فكرة قيام الحبر الأعظم بزيارة خاصة للبنان، لا أن يكون مجرد محطة عابرة. أدى تخاذل الطبقة السياسية اللبنانية من خلال عدم تأليف حكومة لبنانية جديدة إلى تفويت هذه الفرصة، غير أن الدبلوماسية الفاتيكانية قررت تكثيف تواصلها مع العديد من الدول الفاعلة ولا سيما الولايات المتحدة. لماذا؟
لم يُخف البابا فرنسيس حماسته لوصول جو بايدن الى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الاميركية، فالأخير كاثوليكي وتربطهما صداقة وطيدة، كما أن بايدن هو الذي اعد لزيارة الحبر الأعظم في 24 أيلول/ سبتمبر 2015 الى الكونغرس الاميركي، حيث القى خطاباً، في سابقة هي الاولى في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والفاتيكان. وسبق ذلك تعيين البابا كاردينالا جديدا لواشنطن هو ويلتون غريغوري، صديق بايدن و”مرشده الروحي”، على حد تعبير الشخصية اللبنانية نفسها.
وقبيل ثمانٍ وأربعين ساعة من موعد لقاء الأول من تموز/ يوليو، أطل البابا فرنسيس من على شرفة مقره داعياً جميع المؤمنين إلى الإتحاد روحياً مع المشاركين في يوم الصلاة والتأمل من أجل لبنان، وقال لهم “أدعوكم جميعاً للاتحاد روحياً معنا والصلاة من أجل لبنان كي ينهض من الأزمة الخطيرة التي يمر بها ويُظهر للعالم مجدداً وجهه، الذي هو وجه سلام ورجاء”.
هذه الدعوة جاءت غداة اللقاء الذي جمعه بوزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، وكان لافتاً للإنتباه إستضافة ماتيرا الإيطالية من بعده إجتماعاً ثلاثياً أميركياً ـ فرنسياً ـ سعودياً هو الأول من نوعه، وذلك على هامش محادثات مجموعة الدول الاقتصادية العشرين، وأعلن بلينكن لاحقاً أنه بحث مع نظيريه الفرنسي جان إيف لودريان والسعودي فيصل بن فرحان “ضرورة إبداء القادة السياسيين اللبنانيين مزايا القيادة الحقيقية عبر تطبيق إصلاحات طال انتظارها، لإيجاد استقرار اقتصادي وتوفير الدعم الذي يحتاج إليه الشعب اللبناني بشدة”.
من الواضح أن الدبلوماسية الفاتيكانية تحركت قبيل اللقاء البابوي مع رؤساء الكنائس في لبنان، ما يعني ان لقاء الأول من تموز/ يوليو، بتوقيته ومضمونه ولا سيما ما سيقوله البابا فرنسيس سيكون إستثنائياً بامتياز.. فهل يكون مناسبة لولادة مبادرة فاتيكانية أم أن الفاتيكان سيترك خُبز السياسة لغيره من الخبّازين السياسيين؟