لبنان إلى “نادي الكآبة”.. الليرة بالكيس والشنطة!

يجري الحديث عن امكان لجوء مصرف لبنان الى طباعة ورقة نقدية جديدة من فئة 500 ألف ليرة، تساوي بأسعار اليوم في السوق الموازية 25 دولاراً أميركياً فقط. قد ينفي مصرف لبنان ذلك، لكن المسار الحتمي هو بهذا الاتجاه، شئنا أم أبينا، كما حصل في زيمبابوي، على سبيل المثال لا الحصر.

للمقارنة، فان أكبر ورقة (بنكنوت) متداولة حالياً هي من فئة 100 الف ليرة وقيمتها نحو 5 دولارات وأكثر قليلاً، بعدما كانت تساوي عشية الأزمة في صيف 2019 نحو 66 دولاراً. وتكبر الحاجة الى فئة نقدية جديدة (200 أو 500 ألف ليرة) مع استمرار هبوط سعر صرف الليرة اللبنانية بشكل أسبوعي تقريباً.. ويومي أحياناً، وإلا فان الدفع بالليرة سيحتاج الى محافظ كبيرة وأكياس وشنط في غضون أشهر قليلة اذا بقي الحال مضطرباً سياسياً واقتصادياً ومالياً ونقدياً واجتماعياً، وربما أمنياً كما هو متوقع من قبل قادة الأجهزة الأمنية. عندئذ تدخل البلاد في حلقة التضخم المفرط غير المستبعدة وفقاً للمعطيات القاتمة القائمة.

يذكر ان زيمبابوي، التي دخلت تلك الحلقة الجهنمية منذ سنوات، اصدرت قبل أيام ورقة جديدة من فئة 50 دولاراً زيمبابوياً (0.15 دولاراً أميركياً) تكفي اثنتان منها بالكاد لشراء رغيف خبز.

دخول النادي الكئيب

في العام 2020، دخل لبنان “نادي” الدول الأكثر معاناة من التضخم في العالم. وفي النادي الكئيب فنزويلا (بتضخم بلغت نسبته 2720 في المائة) والسودان (363 في المائة) وزيمبابوي (162 في المائة) ولبنان (122 في المائة) وسورينام (50.4 في المائة) والأرجنتين (48.8 في المائة) وإيران (46.9 في المائة).

واذا كانت المقارنة مع زيمبابوي تحديداً، فان للتضخم المفرط في هذا البلد الافريقي الفقير والمضطرب جملة أسباب أبرزها: الطباعة المفرطة للنقود؛ انعدام الثقة في الحكومة؛ استشراء الفساد؛ السياسات الاقتصادية الضعيفة؛ انخفاض الانتاج الوطني؛ والاضطرابات السائدة في علاقات القبائل والفصائل المتناحرة.

فهل تذكرنا هذه الاسباب بلبنان؟ نعم الى حد كبير!

فطباعة الليرة ارتفعت بشكل جنوني في سنتين حتى بلغت الكمية المتداولة 40 الف مليار ليرة حالياً مقابل 6 آلاف مليار في صيف 2019، ونسبة الزيادة التي قاربت 600 في المائة أسهمت في انخفاض سعر الصرف بنسبة وصلت إلى 90 في المائة، والحبل على الجرار.

وبقية الأسباب الزيمبابوية تكاد تتطابق مع الواقع اللبناني المرير. باستثناء الاضطرابات الأمنية التي لم نعد بمنأى عنها، بعدما سجل شهر حزيران/يونيو الماضي رقماً قياسياً في الأحداث الأمنية بلغ عددها 97 حادثة معظمها على الطرقات وفي احتجاجات الغضب المتصاعد جراء تسارع تدهور الاوضاع السوسيو-اقتصادية، ما بات يفرض تحديات على الجيش اللبناني الذي استنجد بعدد من الدول للحصول على دعم يعزز قدراته الضامنة للسلم الأهلي نسبياً.

تكبر الحاجة الى فئة نقدية جديدة (200 أو 500 ألف ليرة) مع استمرار هبوط سعر صرف الليرة اللبنانية بشكل أسبوعي تقريباً.. ويومي أحياناً، وإلا فان الدفع بالليرة سيحتاج الى محافظ كبيرة وأكياس وشنط في غضون أشهر قليلة

صراع الدولار الشحيح

وبالعودة الى سعر الصرف، فان الحلقة الجديدة في مسلسل الهبوط تتمثل في قضية الدعم الواقع في صلب نقاش محتدم حول ترشيده أو الغائه. والمقصود هو تقنين شديد في تأمين دولارات من مصرف لبنان بسعر 1515 و3900 ليرة للدولار لزوم استيراد المشتقات النفطية والدواء والقمح. علماً بأن الدعم على مساوئه، يوفر بعض السلع للمقيمين باسعار تفضيلية هي ادنى من السعر السوقي الحر في حال لجوء المستوردين الى السوق الموازية للحصول على الدولار باسعار جنونية وصلت الى أكثر من 19 الف ليرة مقابل الدولار الواحد في الساعات الأخيرة.

ويتمحور النقاش حول عدم المساس بما يسمى “الاحتياطي الإلزامي” في مصرف لبنان، والذي وصل الى ما بين 14 و15 في المائة من اجمالي الودائع بالدولار، علماً بأن لا ارقام نهائية مدققة لدى أحد باستثناء الحاكم رياض سلامة فقط!

ويعتبر البعض ان ما تبقى آخر حصن من حصون الدفاع عن الودائع، بعدما تبدد 85 في المائة منها. وما يستطيع المودعون سحبه الآن هو عبارة عن خسارة (هيركات) بنسبة 80 إلى 85 في المائة.

انقسام بين فسطاطين

وتنقسم البلاد الى فسطاطين. الأول يدعي الدفاع عما تبقى من اموال المودعين، مقابل آخر يدعي الحرص على ضرورة دعم البنزين والمازوت وفيول الكهرباء والدواء، لأن تحرير اسعار هذه المواد يعني ان الأسر الفقيرة ستجد نفسها أمام فاتورة للمحروقات فقط بأكثر من مليوني ليرة شهريا بينما معظم الرواتب بالليرة ترواح بين الحد الادنى (675 الف ليرة) و3 ملايين ليرة. ما يعني ان فاتورة البنزين والمازوت والدواء ستلتهم مداخيل اللبنانيين عن بكرة أبيها على حساب قوتهم وصحتهم وتعليم ابنائهم.

والسؤال الصعب هو: ما هي منافع تقنين الدعم وصولاً حتى الغائه، مقابل المساوئ الناتجة عن ذلك؟

7 منافع غير أكيدة

بين المنافع المذكورة لالغاء الدعم ما يلي:

أولاً؛ عدم منح الطبقة السياسية المزيد من الوقت تستخدمه للمراوحة حيث هي في صراعاتها العبثية على حصص ومنافع فاسدة، والضغط على تلك الطبقة للتعجيل بتأليف حكومة واعداد خطة انقاذ تستجلب دعماً دولياً.

إقرأ على موقع 180  دومينو الشرق الأوسط: حروب المياه.. متى تنفجر؟ (1)

ثانياً؛ الحفاظ على ما تبقى من أموال المودعين.

ثالثاً؛ التعويل على ما تبقى من دولارات لهيكلة المصارف وتأمين استمراريتها المرحلية بانتظار اعادة الهيكلة الشاملة.

رابعاً؛ ترشيد الاستهلاك بحيث ينتفي الهدر المرافق لرخص الأسعار عادةً.

خامساً؛ تحرير الأسواق من أساليب الدعم التي كانت من مسببات أزمة عجز الموازنة وتفاقم الدين العام، خصوصاً دعم تعرفة كهرباء لبنان التي أورثت هدراً وفساداً بعشرات مليارات الدولارات.

سادساً؛ دفع الحكومة الى برامج دعم موجهة أكثر نحو الاكثر حاجة دون غيرهم من السكان الميسورين.

سابعاً؛ وقف التهريب وخصوصاً المحروقات إلى سوريا.

كل ما يجيدونه الآن هو تقاذف الاتهامات ضد بعضهم البعض عن سابق اصرار وتصميم  لتضييع مسؤولية خسارة 100 مليار دولار وإفقار مجتمع كامل  لسنوات طويلة مقبلة ملؤها البؤس والحرمان. والأخطر هو تعريض السلم الأهلي لاهتزاز عنيف.. وساعتها لات ساعة مندم

7 مساوئ أكيدة

في المقابل، هناك 7 مساوئ لترشيد الدعم باتجاه الغائه وهي:

أولاً؛ ارتفاع الاسعار، لأن المستورد سيلجأ الى السوق الموازية للحصول على الدولارات. والفارق الآن نسبته في المتوسط العام 85 في المائة، وهي النسبة المتوقعة لارتفاع اسعار المحروقات والادوية اذا ألغي الدعم. علما بأن تحرير اسعار البنزين والمازوت سيرفع كلفة النقل المؤثرة في اسعار بقية السلع والخدمات.

ثانياً؛ زيادة معدلات الفقر على نحو متسارع واضافي ليشمل 75 في المائة من السكان على الأقل وفقاً لمعظم التقديرات المتشائمة.

ثالثاً؛ امكان حصول فلتان اجتماعي بتداعيات أمنية نتيجة العنف المتولد عن الحاجة غير الملباة وانسداد الافق أمام شرائح واسعة من السكان بضغط يولد الانفجار.

رابعاً؛ هبوط الليرة اللبنانية أكثر بسبب زيادة الطلب على الدولار من السوق الموازية لزوم الاستيراد.

خامساً؛ منح فرصة اضافية لحاكم مصرف لبنان ليتصرف كأنه المحور الذي تدور الضرورات حوله، في الوقت الذي يجب فيه فرض تدقيق جنائي على حسابات مصرف لبنان لتحديد الفجوة فيه ومعرفة سبل معالجتها.

سادساً؛ محاولة ابراء ذمة المصارف لتظهر كأنها المدافع عن المودعين في حين انها تمعن في عدم تحملها مسؤولية المخاطر التي ركبتها في ايداع اموال الناس في مصرف لبنان الذي بددها بدوره من دون الاعتراف حتى الان بهذه المسؤولية الخطيرة التي عليه تحملها عاجلاً أم آجلاً.

سابعاً؛ الدفع باتجاه اعتقاد خاطئ بأن البطاقة التمويلية التي أقر مجلس النواب قانوناً خاصاً بها بواقع 93 دولاراً للأسرة الفقيرة شهرياً على انها الحل الناجع الذي يبرئ ذمة السياسيين.

سابق اصرار وتصميم

في قضية الدعم كما في خطط الانقاذ المالي وتوزيع الخسائر واعادة اطلاق عجلة الاقتصاد وقضايا مصيرية أخرى، لا ترغب الطبقة السياسية الكليبتوقراطية في بذل أي جهد منهجي حقيقي لاجراء المفاضلة السليمة واتخاذ القرار المناسب، لأن ذلك يعري فساد تلك الطبقة وفشلها لتبقى عوراتها مغطاة بورقة تين طائفية فقط. فكل ما تفعله الحكومة المستقيلة ومجلس النواب ومن ورائهم زعماء ائتلاف الطوائف هو شراء بعض الوقت الاضافي، بانتظار فرج ارتهان ما يأتي من خارج الحدود. في الأثناء، كل ما يجيدونه الآن هو تقاذف الاتهامات ضد بعضهم البعض عن سابق اصرار وتصميم  لتضييع مسؤولية خسارة 100 مليار دولار وإفقار مجتمع كامل  لسنوات طويلة مقبلة ملؤها البؤس والحرمان. والأخطر هو تعريض السلم الأهلي لاهتزاز عنيف.. وساعتها لات ساعة مندم.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  البؤس اللبناني.. وسذاجة المشروع الفيدرالي