أنظمة الاستبداد عامة تعامل الناس وكأنهم قطعان من الماشية؛ عليهم الطاعة. واجبهم الاستسلام. أنظمة العرب والمسلمين معظمها استبدادية. كان الاستبداد يعتمد على النفط لتمويل الأنظمة وإفقار الناس؛ سيعتمد الاستبداد على الموارد المائية لتحقيق أهدافه. ستكون سياسة الماء أهم سلاح ضد العرب. وهم أكثر من يحتاج الى الماء. كان أمراء النفط وملوكه يستخدمون بعض مواردهم لتحلية المياه. ستصير مشكلة شح المياه أشمل وأوسع. ربما أصبح ثمن المياه العذبة أكثر من النفط. ماذا سيفعل العرب حينذاك؟ إذا كانت مصر تعتبر النيل مسألة حياة أو موت، فإن أقطارا غير عربية أخرى قد حوّلت مصادر دجلة والفرات الواردة الى بلدان عربية؛ وقد فات أوان الاحتجاج لكثرة ما بني على النهرين من سدود في تركيا وإيران.
اعتمدت الحضارات القديمة في المنطقة على مياه أحواض الأنهر. واعتمدت الأخرى على الزراعات البعلية. بعد الآن، سوف تعتمد الحضارات، خاصة العربية، على مياه الأمطار، على ما في ذلك من تقلّب، خلال التاريخ، وما بعد التغيير المناخي. يتحدث علماء التغيير المناخي عن ذوبان الثلج القطبي والفيضانات، وما سيصيب مناطق الأرض الوطيئة. قليلا ما يتحدثون عن التصحّر. التصحّر سيصيب المنطقة العربية أكثر من أي منطقة أخرى في العالم. زحف الصحراء نحو ساحل البحر في جميع أقطار العرب أمر مؤكد أو شبه مؤكّد.
سياسة الأرض Geopolitic سيضاف إليها، أو يحل مكانها في منطقتنا، سياسة الماء.
هناك ما يسمى قوانين دولية تحكم توزيع المياه في مجاري الأنهار بين بلدان المصدر والبلدان التي تقع على مجرى كل نهر. نعلم أن الفرات ودجلة لم يعودا يصلحان للملاحة كما كانا حتى أواسط القرن العشرين. لم يعد الأمر كذلك بعد بناء عشرات السدود على نهري دجلة والفرات في بلدي المصدر
هناك ما يدل أن الكثير من صحارينا كانت تكثر فيها الغابات. الحضارات التي كانت تستلزم قطع الأشجار وحرقها، حوّلتها الى صحارى، أو بعضها على الأقل. في بعض معانيه، وجود الانسان يتناقض مع وجود الطبيعة. سلخ الإنسان نفسه عن الطبيعة. ازداد افتخاره بنفسه ومنجزاته. ازداد تعاليا على الطبيعة. أراد إنشاء طبيعة أخرى، على غرار الطبيعة الرأسمالية. كلاهما يؤديان الى أزمة الوجود الإنساني. عفواً، أزمة البقاء الإنساني. من الطبيعي أن تكون أكثر البيئات تعرضاً هي البيئة ذات الحضارة الأقدم. فيها انتهكت الطبيعة أو البيئة أكثر من غيرها. وازداد التصحّر مع تغيير الحضارات. بلادنا الآن هي التصحّر دون تقدم. التصحّر مع التخلّف. التصحّر مع العجز عن معالجته.
التصحّر وازدياده ظاهرتان ساهم فيهما الإنسان منذ أقدم العصور حتى العصر الراهن. تطور الرأسمالية زاد الظاهرتين حدة. يروى أن هارون الرشيد كان يأتي الرقة (في سوريا الآن) تحت الظل. هذه المنطقة الفراتية الآن تخلو من الأشجار. غابات واسعة في أوروبا حُوّلت الى مراع للأغنام وغيرها، وذلك في سبيل الربح. أيضاً الغابات الاستوائية أكبر ممتص للغازات الكاربونية التي يعد انبعاثها مساهما أساسيا في ثقب الأوزون الذي يعرّض البشرية أكثر فأكثر للاشعاعات المضرة. هذه الغابات تتعرّض لحرائق دائمة خاصة في البرازيل وأندونيسيا خدمة للمصالح الغربية العقارية والمالية. كانت الزراعة قديماً، في بداية الحضارة البشرية أو قبلها، تعتمد على قطع الأشجار وحرقها. هناك وسائل تقنية جديدة للحرق والجرف. نقص الغابات وتراجع مساحة الأرض الزراعية المروية والبعلية، كل ذلك ينذر بمصير يبعث على الشؤم. فيما يتعلّق بمنطقتنا العربية وما حولها، نقص المياه المتزايد يساهم مساهمة أساسية في كل ذلك. مياه الأنهار الكبيرة مثل النيل والفرات ودجلة تنبع من بلدان مجاورة. وهذه تسيطر على منابع المياه وعلى مصير أهالي المناطق التي تجري إليها هذه الأنهار. لا يهم إذا كان أصحاب المنابع مسلمين كأكثرية سكان المنطقة العربية أو غير ذلك؛ الماء هو بالنسبة إليهم مصدر ثروة. مصدر سلطة. في المقابل، البلدان العربية المتلقية للمياه تخسر استقلالها وسيادتها. هناك ما يسمى قوانين دولية تحكم توزيع المياه في مجاري الأنهار بين بلدان المصدر والبلدان التي تقع على مجرى كل نهر. نعلم أن الفرات ودجلة لم يعودا يصلحان للملاحة كما كانا حتى أواسط القرن العشرين. لم يعد الأمر كذلك بعد بناء عشرات السدود على نهري دجلة والفرات في بلدي المصدر.
أما الزراعة البعلية فهي تتوقف على هطول الأمطار سنوياً. وهذا يتعرّض لتغييرات كبيرة منذ أقدم العصور. سبع سنين عجاف وسبع سنين سمان؛ تعبير مستعمل في الكتب المقدسة. المجاعات كانت متلاحقة كل بضع سنوات. تتبعها الأوبئة والطواعين. من يقرأ كتب التاريخ التي أُلفت في الألفي سنة الماضية يدرك ذلك؛ يدرك أن دورة الطاعون الجارف والمجاعة كانت كثيرة الحدوث. أما قسوة جباة الخراج فكانت تؤدي الى فرض ضرائب واقتطاع كميات كبيرة من المحصول؛ وبالنهاية الى اندثار القرى وهجرة بعض من يبقى على قيد الحياة. قطع الأشجار للتدفئة حوّل أراضي الغابات الى صحاري. خلو القرى حوّل الناس الى قطّاع طرق لنهب ما لم تنهبه السلطات. انعدام الأمن أدى الى انعدام الاستقرار إلا عن طريق القمع واستخدام السخرة. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تحدث فوليني الرحالة عن مئات القرى المهجورة في منطقة حلب والجزيرة. قبل ثورة 2011، كانت مئات القرى في شمال سوريا قد أفرغت من سكانها. الحياة الفلاحية كانت دائماً قاسية. معدل عمر الفلاحين قبل العصر الحديث كان لا يزيد كثيراً عن ثلاثين عاماً.
المنطقة العربية عموماً هي منطقة جفاف. شهر العسل مع النفط قارب على الانتهاء. بؤس الجفاف يتطور. بعض بلدان المنطقة بدأت بتعطيش أجزاء منها. في بلدان عديدة متعددة السكان، وتحكمها نخب دينية، يمكن الاستغناء عن بعض السكان، إما بالإماتة عطشاً أو بالتهجير
مع ظهور النفط في ثلاثينيات القرن العشرين لم يتحسن وضع الزراعة. يروي المؤرخ العراقي محمد سلمان حسن أن العراق صار مستورداً للقمح للمرة الأولى في تاريخه بعد النفط. رغم انجازات عبد الناصر، كانت مصر تعتمد على استيراد القمح الأميركي لتغذية شعبها. يحق لنا التساؤل: أما كان ذلك من أسباب كامب دايفيد؟
مع التبدلات المناخية، يصير الطقس بما في ذلك ازدياد حرارة بعض المناطق الباردة أكثر حتمية. كثرت السيول المدمرة في السنوات الأخيرة. في مناطق أخرى من العالم، يزداد الجفاف ويصاب السكان بالمجاعة. المجاعات تتبعها الأوبئة. ازداد عدد سكان الأرض. مع ازدياد السكان يزداد الطلب على المياه. وهذه تصير أكثر شحة. ازدياد السكان مع نقص مياه (عشوائيتها) يجعل الحياة مزرية أكثر فأكثر لأعداد متزايدة من الناس. يزداد اعتمادهم على من يملكون مصادر المياه في الأرض. يتلاشى استقلال الدول. تزداد الأوبئة. تنتشر المجاعات. ما هو مصير الحضارة البشرية؟ سؤال يحق طرحه مع ازدياد عشوائية المناخ. لا شيء ثابتاً إلا تطوّر تراكم الثروات بيد قلة من أصحاب التريليونات. ثروات تتراكم على حساب الفقراء، وهم أكثرية البشرية. أكثرية ساحقة. وعلى حساب البيئة. هذه البيئة التي سوف تصير أقل ملاءمة للحياة الحرة الكريمة.
تحولات البيئة ذات النتائج المدمرة جعلت النفط أقل أهمية في الحياة البشرية من المياه. تكفي المقارنة بين سعر قنينة مياه الشرب وليتر النفط الخام أو المكرر. المياه التي تستخدم منزلياً أو للزراعة، سواء كانت زراعة مروية أو بعلية، ستصير أكثر ندرة وربما أغلى من النفط. حروب النفط ستتحوّل الى حروب المياه. أليس مؤشراً ما يحدث حول سد النهضة؟
المنطقة العربية عموماً هي منطقة جفاف. شهر العسل مع النفط قارب على الانتهاء. بؤس الجفاف يتطور. بعض بلدان المنطقة بدأت بتعطيش أجزاء منها. في بلدان عديدة متعددة السكان، وتحكمها نخب دينية، يمكن الاستغناء عن بعض السكان، إما بالإماتة عطشاً أو بالتهجير.
ماذا سيحدث عند خصخصة مصادر المياه كالينابيع والسدود. لن يصغي أحد للحديث الشريف: “الناس شركاء في الماء والكلاء”. لن يكون عامة الناس شركاء في شيء. سوف يستولي على الماء قلة من الأغنياء. سيباع الماء بكميات محددة للزراعة، كما تباع مياه الشرب بالقناني لمن لا يجرؤ على الشرب من الحنفية. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم استشارة الأميركيين من منطلق النيوليبرالية المزدهرة في أواسط الستينيات الماضية، حصلت خصخصة واسعة، بحيث سيطر ستة أشخاص على معظم الموارد الطبيعية في الاتحاد السوفياتي سابقاً. خمسة منهم كانوا يهوداً، كما تقول ايمي شوا، أستاذة في جامعة يايل في الولايات المتحدة، ومتزوجة من يهودي.
الأخطار التي تهدد المنطقة العربية متعددة. أهمها شح المياه، والحروب الأهلية، والاستبداد المؤدي الى العجز عن القرار. أخطار تهدد البقاء.