أعطت المواقف الروسية الصادرة من موسكو منذ سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، إشارات واضحة إلى مقاربة روسية جديدة قائمة على الانفتاح على طالبان. وبرغم إشارات الحركة المشجعة لموسكو، أكدت روسيا بلسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، أنه من المبكر اعتراف موسكو بحركة طالبان، “شأنها شأن الدول الأخرى”، غير أن المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان، زامير كابولوف، توقع “بناء علاقات قوية ودية مع القيادة الجديدة في كابول”. كذلك كشف كابولوف أن موسكو أعدت “الأرضية لمحادثات مع الحكومة الجديدة في أفغانستان” بما يضمن “تحقيق المصالح طويلة الأجل للاتحاد الروسي”.
يضاف إلى ذلك إعلان موسكو عدم نيتها إغلاق سفارتها بكابول وعدم إجلاء موظفيها من هناك، بل على عكس معظم الدول الغربية، ذهبت موسكو أبعد من ذلك، عبر لقاء “ودي جدا” جمع سفيرها في كابول، دميتري جيرنوف، بقيادة طالبان لتأمين حماية مبنى السفارة الروسية.
موقف طالبان “الإيجابي” من روسيا، وإن يبدو أنه جزء من استراتيجية انفتاح الحركة دولياً، إلا أنه وبشكل خاص تجاه موسكو “دليل على نجاح العلاقات والحوار اللذين خاضتهما روسيا مع الحركة طوال الأعوام الماضية”، على حد تعبير كبار المعلقين الروس.
تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي إلى أفغانستان، زامير كابولوف، بأن موسكو غير قلقة بشأن أي تهديد من طالبان لحلفاء روسيا في المنطقة، توحي بأن الحركة قد قدمت ضماناتها في هذا الإطار لموسكو، بما يخفف حدة توجسها وقلقها حيال مستقبل المنطقة
بالنسبة إلى موسكو “إطلاق حوار وتشكيل حكومة أفغانية تضم كل الأطراف” أولوية من شأنها تحديد كيفية التعامل الروسي والدولي مع حكم طالبان. وقد لعبت موسكو دورا بارزا في هذا الإطار، إن من خلال استضافة منتدى للحوار بين الأطراف الأفغانية في مارس/ آذار الماضي، أو من خلال حوارها المباشر مع الحركة واجتماع وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، مع وفد الحركة الشهر الماضي.
ولعل البارز أيضاً، إعلان المدير العلمي لمنتدى فالداي الدولي للحوار، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية، فيودور لوكيانوف، إمكانية شطب طالبان من قائمة المنظمات الإرهابية في روسيا وذلك استناداً إلى الخطوات الإيجابية التي ستقوم بها الحركة.
لكن ماذا عن هواجس موسكو حيال أمن دول آسيا الوسطى؟
تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي إلى أفغانستان، زامير كابولوف، بأن موسكو غير قلقة بشأن أي تهديد من طالبان لحلفاء روسيا في المنطقة، توحي بأن الحركة قد قدمت ضماناتها في هذا الإطار لموسكو، بما يخفف حدة توجسها وقلقها حيال مستقبل المنطقة.. غير أن رئيس مركز الدراسات العالمية والعلاقات الدولية بالأكاديمية الدبلوماسية بوزارة الخارجية الروسية، فاديم كوزيولين، يعتقد أن تهديد طالبان الرئيسي لروسيا وآسيا الوسطى هو تهديد أيديولوجي بالدرجة الأولى، مع بروز خطاب إسلامي ضد هيمنة دكتاتوريي آسيا الوسطى، حلفاء موسكو.
وبحسب الخبراء العسكريين الروس، فإن موسكو، وبرغم ضمانات طالبان بعدم التعرض لدول الجوار، لا يمكنها ترك مسؤولية حماية الحدود بيد الدول الصديقة، خصوصاً الحدود الطاجيكية الأفغانية (أضعف جزء في منطقة آسيا الوسطى بحسب الخبراء)، وبالتالي ثمة حاجة إلى المساعدة الروسية. وبحسب نائب رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما، فإن موسكو شرعت بتعزيز تلك المنطقة بقواعد عسكرية “لحماية بلادنا”. كذلك أكد الخبراء أنه في حالة تفاقم الوضع، ستكون روسيا قادرة على الدفاع عن جمهوريات آسيا الوسطى. وقد أعطت موسكو إشارات حول مدى إمكانية مساعدة حلفائها من خلال مناورات عسكرية مشتركة مع أوزبكستان وطاجيكستان في الخامس من آب/أغسطس الحالي، قرب الحدود مع أفغانستان، حيث شاركت فيها قاذفات استراتيجية من طراز “تو-22 أم 3″، وقامت بمهمات تحاكي ضربات جوية جماعية ضد معسكرات مسلحة مموهة ومستودعات ذخيرة. إضافة إلى مناورات عسكرية بين روسيا وأوزبكستان، في منطقة “ترمز” الجبلية الواقعة على الحدود الأوزبكية الأفغانية. كذلك زوّدت روسيا قاعدتها العسكرية في طاجيكستان بمعدات عسكرية حديثة.
بكين على نهج موسكو
الصين وكما حليفتها روسيا، بدت ومن خلال تصريحات مسؤوليها أنها استعدت لأفغانستان الجديدة تحت حكم طالبان التي تعتبرها “قوة عسكرية وسياسية حاسمة في أفغانستان”. بكين أبدت استعدادها لإقامة “علاقات ودية” مع الحركة، مؤكدة أن الحديث عن علاقات دبلوماسية جديدة مع أفغانستان، سيكون بعد تشكيل “حكومة متسامحة ومنفتحة”. كذلك، أعلنت الصين التي تتشارك حدوداً مع أفغانستان تمتدّ على 76 كلم، أنها تعتزم الاستمرار في دعم جهود استعادة السلام ومساعدة أفغانستان.
تعكس هذه التصريحات الصينية ارتياح بكين لتطورات المشهد الأفغاني، وهي سارت على خطى موسكو، عبر الانفتاح على حركة طالبان ومطالبتها بقطع العلاقة مع “حركة شرق تركستان الإسلامية (أو الحزب الإسلامي التركستاني)، وهي جماعة تتهمها بكين بالوقوف خلف “هجمات إرهابية” في إقليم شينجيانغ.
وكشف المسؤول السابق بوزارة الخارجية الصينية، فيكتور جاو، لصحيفة “واشنطن بوست” أن بكين التي إستقبل وزير خارجيتها، وانغ يي، وفدا من طالبان في شهر تموز/يوليو الماضي، أبلغت الحركة “بوضوح شديد أنها لن تسمح لأفغانستان أن تستخدم من قبل أي قوة لتهديد الصين”. من جهتها، أعطت طالبان تطمينات إلى بكين مفادها “عدم السماح بإستخدام أفغانستان قاعدة لشن هجمات تستهدف أمن دول أخرى”.
ماذا عن مستقبل العلاقات الصينية ـ الأفغانية؟
يرى زميل “معهد واشنطن”، ديفيد بولوك، في تصريحات لموقع “الحرة” أن الصين ترغب في “علاقة جيدة” مع طالبان و”حدود هادئة” مع أفغانستان و”عدم تعطيل استثماراتها هناك”، وعدم قيام طالبان “بزعزعة استقرار جيرانها”، ويعتقد أن الحركة “تسير في هذا الاتجاه كما هو واضح من بياناتها وتصريحاتها التي تنم عن نبرة تصالحية مع العالم”.
من جهته، يشير مدير “مركز السياسة الأمنية”، والمدير السابق لمركز الأمن القومي خلال إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، المحلل السياسي فريدريك فليتز، في تصريح لموقع “الحرة”، إلى أن الجانبين سيقيمان “علاقة جيدة في المستقبل القريب”، إلا أنه لا يتوقع أن تستمر لفترة طويلة لأن طالبان “ستعارض اضطهاد الصينيين للإيغور”.
الوقائع والتصريحات الخارجة من الحليفين الإستراتيجيين (روسيا والصين) تعطي إشارات واضحة أنهما استعدا جيدا لتحويل التهديد القادم من أفغانستان إلى فرصة حقيقية لتغيير صورة ليس هذا البلد، بل تغيير صورة “العم سام” عند حلفائه الذين يخذلهم، بحسب الصحافة الروسية.
التخوف الغربي
وقبل أن تنجلي صورة الوضع في أفغانستان، خرجت أصوات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيال مخاوفهما من استفادة روسيا والصين من الوضع الجديد. الرئيس الأميركي، جو بايدن، وفي خطابه لتبرير الانسحاب الأميركي، ومن خارج أي سياق، قال إن “روسيا والصين تريدان منا إنفاق المزيد من الدولارات في أفغانستان”، فواشنطن ترى أن الخطر الرئيسي في ملء الفراغ ليس من تركيا، بل من روسيا والصين.
وفي أوروبا، دعت مجموعة من أعضاء البرلمان الأوروبي، الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة وضع استراتيجية جديدة بشأن أفغانستان، لأن روسيا والصين “ستحاولان بسرعة ملء الفراغ السياسي”.
المخاوف الغربية لها ما يبررها. آخر إتصال بين وزيري الخارجية الروسي والصيني كان مخصصاً لبحث الوضع في أفغانستان. أبدى خلاله لافروف استعداد موسكو للتعاون مع بكين حيال التغييرات الجارية في أفغانستان. في حين أكد نظيره الصيني أن بكين وموسكو بحاجة إلى حماية مصالحهما المشروعة في أفغانستان.
ويشير خبراء روس إلى أن الاعتبارات الدفاعية تحكم إقامة موسكو علاقات مع الحكومة الأفغانية الجديدة، في حين يشكل الاعتبار الاقتصادي في إطار مشروع طريق الحرير الأساس في مقاربة بكين للوضع في أفغانستان.
ويلفت أحد الخبراء الروس الإنتباه إلى أن روسيا والصين قد تصبحان شريكين رئيسيين مهمين لأفغانستان الجديدة، على حساب أوروبا والولايات المتحدة. ويشير إلى أن الجهود الدبلوماسية التي تبذلها كل من روسيا والصين، ستساعد في تنمية أفغانستان من جهة وألا تكون مصدر تهديد للدول المجاورة من جهة ثانية، كما يشير الخبير نفسه إلى أن أولوية روسيا ضمان أمنها وأمن دول آسيا الوسطى. كما عبّر عن شكوكه في أن الصين وروسيا ستتبعان سياسة منسقة معينة في أفغانستان، إذ أن كل لاعب جيوسياسي سيتصرف بشكل مستقل عن الآخر.
سال حبر كثير عن أن أحد أهداف الولايات المتحدة والناتو من الانسحاب “المستعجل” من أفغانستان، خربطة أوراق منطقة وسط آسيا، في إطار استراتيجية واشنطن لإشغال بكين وموسكو، إلا أن الوقائع والتصريحات الخارجة من الحليفين الإستراتيجيين تعطي إشارات واضحة أنهما استعدا جيدا لتحويل التهديد القادم من أفغانستان إلى فرصة حقيقية لتغيير صورة ليس هذا البلد، بل تغيير صورة “العم سام” عند حلفائه الذين يخذلهم، بحسب الصحافة الروسية.