بعد أفغانستان: أوروبا تتكل على الذات.. و”الناتو” مسألة وقت

 يستعرض سيمون تيسدال، محرر الشؤون الخارجية في صحيفة "الغارديان" البريطانية، أثر قرار الإنسحاب الأميركي من أفغانستان على دور الولايات المتحدة "القيادي" للعالم الغربي، وبالتالي قناعة الأوروبيين بأن زيادة الاعتماد على الذات هو الحل المنطقي الوحيد. ماذا تضمنت مقالة تيسدال؟

اتسعت منطقة شمال الأطلسي الأسبوع الماضي. فكلما كان الرئيس الأميركي جو بايدن يحاول إلقاء اللوم على الفوضى الأفغانية، كانت الفجوة بين أميركا وحلفائها في المملكة المتحدة وأوروبا تتسع أكثر فأكثر. هذا الرئيس الأميركي يُبشر بفضائل التعددية، لكنه يتصرف من تلقاء نفسه. وما فعله في غضون الأسابيع القليلة الماضية لتقويض التحالف الغربي فاق بكثير ما فعل سلفه دونالد ترامب بكل صخبه.

مع الأخذ بكل الأمور في الاعتبار، قد لا يكون ما حدث نتيجة سيئة. تصفية الحساب قد تأخرت كثيراً. قرار بوش – بلير بغزو العراق كان خطأ تاريخياً. وقرار أوباما بالإنسحاب من سوريا كان مخجلاً، لسبب معاكس. وها هو قرار غزو أفغانستان، الذي استمر 20 عاماً وكلف خسائر بشرية ومادية مؤلمة وضخمة، ينتهي بكارثة، والمزيد من فوضى اللاجئين، وخطر تجدد الإرهاب الذي سيؤثر، مرة أخرى، وبشكل أساسي على أوروبا.

إذا كان هذا هو المكان الذي تتولى فيه الولايات المتحدة “القيادة”، فمن يحتاج إلى هكذا دولة؟ عندما تلعب أميركا دور “شرطي العالم”، كما يقول من يُسمون أنفسهم “المحافظون الليبراليون الجُدد”، فإن الكثير من الناس في العديد من الأماكن ينتهي بهم الأمر بالصراخ “لا أستطيع التنفس!”. إن أميركا اليوم إما خارج الواقع بشكل مؤسف – أو أن استبدادها المهيمن ينتهي دائماً بدموع. وهذه الدوامة من المآسي تتكرر بإستمرار. والمخاوف تزداد من انجرار حلفاء الولايات المتحدة إلى “حرب أبدية” أخرى، وقد تكون هذه المرة مع الصين.

لم يكن السلوك الأميركي الأناني أثناء جائحة كوفيد-19 (كورونا) غريباً عن النمط الذي تنتهجه هذه الدولة عادة. لقد تسبب ترامب في ضرر لا يُمكن وصفه نتيجة الإنكار والتقاعس المُتَعَمّد الذي مارسهما في تعامله مع الأزمة. وإدارة بايدن عرَّضت حياة الملايين للخطر من خلال تخزين اللقاحات. وأفغانستان اليوم ما هي إلا تعبير جيوسياسي عن هذه الظاهرة المألوفة. ترامب لم يخترع “أميركا أولاً”. كما أن بايدن ليس سوى مجرد “نصيرها الأخير” (لأميركا).

فوضى بايدن الأفغانية تعني أن أوروبا لم يعد بإمكانها الاعتماد عليه. والمطلوب علاقة أمنية أكثر توازناً واحتراماً.. أو لن يكون هناك أي تحالف غربي

هل تسمع ذلك يا جو؟

كان الخطاب المتلفز للرئيس بايدن يوم الاثنين في السادس عشر من آب/أغسطس صادماً حقاً لغير الأميركيين: إزدراؤه غير المُستحق للقوات الأفغانية، وإغفاله المُفعَم بالغطرسة والخيانة للتضحيات التي قدمها حلفاؤه في “الناتو”. ادعاؤه بأن بناء دولة في أفغانستان لم يكن أبداً هدف الولايات المتحدة غير صحيح على الإطلاق. فقد كتب جورج دبليو بوش في مذكراته التي نشرها في عام 2010، نقاط قرار الغزو، ومنها: “كانت مهمتنا الأساسية في أفغانستان هي بناء دولة. كان لدينا إلتزامٌ أخلاقي بأن نترك وراءنا شيئاً أفضل”. هل تسمع ذلك يا جو؟

ومع ذلك، فإن رفض بايدن الواضح للدور القيادي التقليدي للولايات المتحدة هو الذي هزَّ المؤسسات البريطانية والأوروبية. فقد أعلن أن “الانتشار العسكري اللانهائي للقوات الأميركية” في الصراعات الخارجية لا يصب في المصلحة الوطنية. وأن أفغانستان كانت فقط من أجل الدفاع عن “الوطن”. بالنسبة لأولئك الذين نشأوا في عالم تحدده القوة الأميركية وتحيط به قواعدها الدائمة، كان كلام بايدن هذا مذهلاً.

أرمين لاشيت، الذي اختارته أنجيلا ميركل لخلافتها في منصب المستشارة الألمانية، وصف الانسحاب الأميركي من أفغانستان بأنه “أكبر كارثة عانى منها حلف الناتو منذ تأسيسه”. بدوره، شجب النائب البريطاني المحافظ توم توجندات، وهو من قُدامى المحاربين، الإنسحاب، واصفاً إياه بأنه “أكبر كارثة في السياسة الخارجية لبريطانيا منذ السويس” – والسويس هي بالمناسبة إخفاق آخر من الإخفاقات البريطانية التي كان للولايات المتحدة مساهمة أساسية فيه.

في غضون ذلك، يشهق بوريس جونسون الهش مثل خنزير عالق في المنتصف. لقد استسلم رئيس الوزراء البريطاني، بلا خجل، لواشنطن منذ إحراق قواربه في الاتحاد الأوروبي. والآن، يتعين على الوزراء والجنرالات الغاضبين أن يعضوا ألسنتهم – خوفاً من إلحاق الضرر بالعلاقة “الخاصة” والأوسع نطاقاً والمحفوفة بالمخاطر. إن ثمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الارتفاع.

لقد تمت تقوية أعداء الديموقراطية.. والأفغان يدفعون ثمناً باهظاً بدون شك

دروس لأوروبا

الدرس الواضح للقادة الأوروبيين، وحتى لجونسون، هو أنه لا يمكن الاعتماد على واشنطن، هذا إذا كان من الممكن أساساً فعل ذلك. أفغانستان هي أحدث دليل على أن الولايات المتحدة، مثل أي دولة قومية أخرى، تعمل في نهاية المطاف من أجل مصلحتها الخاصة فقط، وفي اللحظة التي تراها هي مناسبة بغض النظر عن وعود الدم الجليلة التي قُطعت بشكل رسمي.

باختصار، كانت الاستثنائية الأميركية مُخادعة دائماً. إن زيادة الاعتماد على الذات في أوروبا هو الحل المنطقي الوحيد.

إقرأ على موقع 180  فيتكونغ جديدة في غرب أسيا.. مَنْ يختبىء وراء مَنْ؟

الفترة التي تلت العام 1945، كانت مناسبة جداً للولايات المتحدة لترسيخ نفوذها المادي والاقتصادي الجديد على أوروبا، وبالتالي احتواء منافسها الاتحاد السوفياتي السابق. وفي حين أن مبدأ “عقيدة ترومان” الناتج عن ذلك كان من أجل الدفاع عن الحريات العالمية، إلا أن محوره الأساسي ركَّز على المصلحة الذاتية. ولم يكن للإيثار علاقة تُذكر به. الآن، مع إنحدار قوة الولايات المتحدة مقارنة بالصين، هناك تحديات جديدة ظهرت تُملي إعادة تقييم الذات وإعادة تحديد الأولويات وتقليص النفقات.

هذا هو السياق الأوسع الذي يجب أن يُفهم فيه الانسحاب الأفغاني – ومن غير المرجح أن يتصرف خلفاء بايدن بشكل مختلف تماماً. ويتعين على دول الاتحاد الأوروبي، مع بريطانيا أو بدونها، أن تفعل ما وعدت به طوال سنوات مثل بناء قدرات دفاعية وأمنية أوروبية مستقلة وذات مصداقية. باختصار، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حق، وميركل مخطئة.

عصر أميركي جديد

مع ذلك، من الخطأ الاستمرار في لوم ومهاجمة بايدن. من المؤكد أن الانسحاب من أفغانستان أُسيء إدارته بشكل مخيف. كان بإمكان الولايات المتحدة، وينبغي لها، أن تحافظ على الحدّ الأدنى من التواجد في قاعدة باغرام الجوية، لأغراض الردع. لقد تعزز وضع أعداء الديموقراطية بالتأكيد. ولا شك أن الأفغان يدفعون ثمناً باهظاً.

لكن وصف كل الفترة الزمنية المضافة منذ ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) على أنها “حروب إلى الأبد”، كجزء من هذا الإصلاح الضروري للسياسة الخارجية الأميركية، كان أمراً حتمياً ولا مفر منه.

وإذا نجح بايدن في تحقيق أهدافه المعلنة، فإن القيادة الأميركية العالمية في المستقبل ستُعطي الأولوية للدبلوماسية، وأدوات القوة الناعمة، والدوافع الاقتصادية والمالية، والمميزات التي توفرها التكنولوجيا، وجمع المعلومات الاستخبارية، والقدرات الدفاعية العسكرية المتخصصة، والغزوات واسعة النطاق، وفرض الاحتلالات المسلحة إلى أجل غير مُسمى. مسؤولو بايدن يسمونها “القوة الذكية” لعصر جديد. هذا بالتأكيد تقدم من نوع ما.

يُرمز إلى هذا التحول بمبادرة بايدن إلى إنهاء “الحرب العالمية على الإرهاب” التي قادها بوش الإبن. إن سياسة المراجعة متوقعة من أجل التوصية بتقليص البصمة الأميركية لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، والتي نمت بشكل كبير منذ العام 2001. ويُقال إن السياسة الجديدة ستتجاوز الإرهاب الإسلامي إلى التهديدات المتزايدة التي تواجهها أميركا على الصعيد المحلي من قبل متطرفين يمينيين (…).

المشروع الأفغاني قد فشل. ولحسن الحظ، فإن عصر السلام الأميركي الباهت والملطخ بالدماء، و”الانتشار العسكري الأميركي اللامحدود واللانهائي” الذي شجبه بايدن يقتربان من نهايتهما. ولقد كان لحلف الناتو يومه أيضاً، بعدما فقد مصداقيته، وصار موسوماً بسوء القيادة، بالإضافة إلى أنه يُنظر إليه وكأنه أمر مُسلَّم به ومفروغ منه. إن الوضع الآن يتطلب إقامة علاقات أمنية أكثر توازناً واحتراماً بين الولايات المتحدة وأوروبا. وبدون ذلك، قد لا يبقى هناك تحالف غربي لقيادته، لا من قبل الولايات المتحدة ولا من قبل الإتحاد الأوروبي.

*ترجمة بتصرف نقلاً عن صحيفة “الغارديان” البريطانية.

 

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خدام يروي قصة حافظ الأسد.. و"حزب الله"