في اللحظة التي تتغلب فيها العواطف على الوقائع، تبدو كل الأشياء جميلة وزاهية كما تراها عيون القلب، وحين تتغلب العقائد على الوقائع، يتخيل لأصحاب الأولى أن ما انتجته عقولهم يساوي المنطق والحكمة كاملين، وهذا ما ينقده وينقضه الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط في كتابه الشهير “نقد العقل المحض” او “نقد العقل الخالص”، ذلك أن كانط اعتبر ان العقل النظري محدود بينما العقل العملي أوسع مدى وأرحب فضاء.
انطلاقاً من ذلك الإطار الفلسفي، الذي ينقد عالم الأذهان المجردة، والذي يخضع في كثير من مفاصله إلى الرغبات والأمنيات، يمكن الإطلالة على قاعدتين للسياسة الروسية تجاه اسرائيل، واحدة في المرحلة السوفياتية، والثانية في مرحلة ما بعد انهيار النظام السوفياتي، أي في عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين.
ـ أولاً؛ المرحلة السوفياتية:
في حوار مثير أجرته قناة “روسيا اليوم” في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2013، مع أناتولي غروميكو، نجل وزير الخارجية السوفياتية اندريه غروميكو، ومندوب موسكو إلى مجلس الأمن الدولي في اربعينيات القرن العشرين، قال غروميكو الإبن إن والده “كان يتعاطف كثيرا مع اليهود لأنهم شجعان، وشاهد بأم عينه كيف تمت إبادتهم في الحرب العالمية الثانية”.
وعلى ما يشرح أناتولي غروميكو ويقول: “القادة السوفييات كانوا يراهنون على القادة الإسرائيليين من ذوي العقائد اليسارية والإشتراكية، فتلك الميول كان من شأنها بحسب ظنون المسؤولين السوفييات ومن ضمنهم جوزيف ستالين، أن تجذب الإسرائيليين وتشدهم نحو الإتحاد السوفياتي، وتحول دون تطلعهم نحو الغرب الرأسمالي والإمبريالي”.
تلك الشهادة لغروميكو الإبن، تستحضر من قاع الذاكرة خطاب غروميكو الأب في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ الرابع عشر من مايو/أيار 1947، حين قال: “إن ممثلي الدول العربية يزعمون أن قرار تقسيم فلسطين غير منصف وغير عادل ولكن وجهة النظر العربية غير منصفة، لأن للشعب اليهودي حقا وثيقا في فلسطين”.
وفي السياق نفسه، إنما بعد حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967، خطب رئيس مجلس الوزراء السوفياتي الكسي كوسيغين في الأمم المتحدة (19 حزيران/يونيو 1967) فقال: “لكل شعب الحق في تأسيس دولته الوطنية المستقلة، وحددنا من هنا بالذات موقفنا من اسرائيل كدولة، وصوتنا عام 1947 إلى جانب قرار هيئة الأمم المتحدة وأقام الإتحاد السوفييتي بعد ذلك علاقاته الدبلوماسية مع اسرائيل اهتداء منه بهذا الموقف”.
والمفارقة المدهشة في الموقف السوفياتي آنذاك، أن السياسة السوفياتية رفضت إعادة النظر بقرار التقسيم في آذار/مارس 1948، وفي كتاب لنورهان الشيخ بعنوان “موقف الإتحاد السوفياتي وروسيا من الوحدة العربية” صادر عن مركز “دراسات الوحدة العربية” في بيروت عام 2013، ان العاصمة الحمراء تذرعت بموقفها الرافض لمراجعة القرار لأن واشنطن “تقدم مصالحها النفطية على حساب التسوية العادلة”.
وتورد “الموسوعة الفلسطينية” شروحات وتفاصيل عن موقف الإتحاد السوفياتي من الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى عام 1948، وتخلص للقول إن موسكو شنت حملة سياسية وإعلامية في مجلس الأمن الدولي ضد الجيوش العربية التي هاجمت القوات الإسرائيلية واتهمتها بممارسة الأفعال العدوانية ضد اسرائيل، وأكثر من ذلك، عمدت الكتلة الشرقية (الشيوعية) إلى تسليح الإسرائيليين بما يريدونه من سلاح وعتاد، مما افضى إلى احتلال أراض فلسطينية لم ينص عليها قرار تقسيم فلسطين.
يروي صلاح الدباغ في كتابه “الإتحاد السوفياتي والقضية الفلسطينية” (1968) أن القادة السوفيات رفضوا استقبال ياسر عرفات كممثل للشعب الفلسطيني، علما انه كان يرافق الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته إلى موسكو، وهذا الرفض ألزم عرفات بالبقاء وحيدا في الطائرة لمهلة معينة
ماذا يقول القادة الفلسطينيون عن تزويد الكتلة الشرقية لإسرائيل بالسلاح؟ هنا شهاداتان:
ـ يقول بهجت أبو غربية (1916 ـ 2012) الذي شارك في مختلف مراحل النضال الفلسطيني في مذكراته المعنونة “في خضم النضال العربي الفلسطيني” إنه في الأول من نيسان/ابريل 1948 “وصلت إلى ميناء حيفا السفينة نورا من يوغوسلافيا حاملة أسلحة تشيكوسلوفاكية تتألف من 4500 بندقية و200 رشاش خفيف و5 ملايين طلقة، وفي أوائل أيار/مايو وصلت من تشيكوسلوفاكيا 5000 بندقية و1200 رشاش و6 ملايين طلقة”.
ـ يشير القيادي والمؤرخ عارف العارف (1892 ـ1973) في الجزء الثاني من كتابه “نكبة فلسطين والفردوس المفقود” إلى أن “اليهود اشتروا من براغ طائرات، إلا انهم لم يستطيعوا جلبها إلى اسرائيل، إذ أن الحكومة اليونانية رفضت أن تسمح لها بالنزول في مطاراتها، وقد اضطروا أن يرسلوا هذه الطائرات شقفا متناثرة، بدرجة أن هذه الطائرات وصلت متأخرة، ولم تتمكن من القتال ضد المصريين إلا بعد شهر”.
وفي “يوميات الحرب 1947 ـ 1949″، يقول ديفيد بن غوريون أول رئيس حكومة في اسرائيل “هناك خبر بشأن سفينتين في بلغاريا توشكان أن تبحرا، موشي تحدث مع الممثل السوفياتي غرومكيو، بلغه ما يتعلق بالأسلحة من تشيكوسلوفاكيا إلى العرب في مصر، أسف غروميكو لذلك، وأبدى اهتماما بمعرفة حالة عتادنا، ماذا ينقصنا وماذا يمكن إدخاله، وإذا كان بالإمكان إدخال أي شي بعد الخامس عشر من أيار/مايو”.
وفي عقد الخمسينيات، أجهض الإتحاد السوفييتي مشروع المقاطعة الإقتصادية العربية لإسرائيل بين الأعوام 1953ـ 1956 عبر معادلة “النفط الروسي مقابل الحمضيات الإسرائيلية”، وفي كانون الثاني/يناير 1966 أسقطت موسكو مشروعا دعا لعدم الإعتراف بإسرائيل، كان يناقشه مؤتمر “تضامن الشعوب الأفروـ آسيوي ـ أميركي اللاتيني” المنعقد في العاصة الكوبية هافانا.
وهذا الإصرار السوفياتي على الإعتراف بإسرائيل، كان يقابله إصرار على عدم الإعتراف بمنظمة التحريرالفلسطينية بعد سطوع نجمها إثر حرب العام 1967، ويروي المفكر الفلسطيني صلاح الدباغ في كتابه “الإتحاد السوفياتي والقضية الفلسطينية” الصادر في حزيران/يونيو 1968 حكاية حافلة بالحيرة والغرابة، إذ يقول إن القادة السوفيات رفضوا استقبال ياسر عرفات كممثل للشعب الفلسطيني، علما انه كان يرافق الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته إلى موسكو، وهذا الرفض ألزم عرفات بالبقاء وحيدا في الطائرة لمهلة معينة.
وفي حكاية اخرى لا تقل إثارة وعجبا، وتاريخها يعود إلى الثاني عشر من حزيران/يونيو 1967 ويوردها محمد حسنين هيكل في كتابه “الإنفجار”، وخلاصتها أن الرئيسين المصري جمال عبد الناصر والجزائري هواري بومدين، كانا يناقشان مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجينف ورئيس وزرائه الكسي كوسيغين تداعيات وآثار “حرب الأيام الستة”، فقال كوسيغين، لبومدين: “أعطيناكم سلاحا بأسعار مريحة”، وبسرعة البرق رد بومدين عليه بالتوجه إلى وزير المالية الجزائرية قائلا له: “اسحب الصك المالي وحوّل إلى وزارة الدفاع السوفياتية مائة مليون دولار”.
وعلى العموم، فإن مواقف الإتحاد السوفياتي من القضية الفلسطينية ومساندته لقرار التقسيم، انسحبت بالإجمال على سياسات الأحزاب اليسارية العربية، وفي ذلك يقول المفكر المصري اليساري أنور عبد الملك في كتابه “المجتمع المصري والجيش”: “إن الأحزاب الشيوعية المختلفة والملتزمة بالمبدأ الماركسي ـ اللينيني دعت الى الإعتراف بإسرائيل ضمن حدود قرارات الأمم المتحدة عام 1947 وتعويض اللاجئين وعقد معاهدة سلام مع اسرائيل”.
ويستعرض حنا بطاطو في كتابه “العراق ـ الحزب الشيوعي”، مواقف الشيوعيين العراقيين المتماهين مع السياسة السوفياتية،إذ انهم دعوا عبر صحيفتهم “الأساس” إلى إقامة دولة عربية ديموقراطية في الجزء العربي من فلسطين، وأدان الشيوعيون العراقيون والسوريون “التدخل الرجعي العربي المسلح في فلسطين” خلال حرب العام 1948، كما يقول عبد الله تركماني في كتابه “الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي”، وأجهر بعض قادة جماعة “حدتو” الشيوعية المصرية بتأييد اسرائيل “لأنها تمثل مرحلة أرقى من التطور الإجتماعي، وهي مرحلة الرأسمالية، في حين أن الدول العربية تمثل مرحلة العلاقات الإقطاعية”.
في 30 تموز/يوليو 1970، أسقط الإسرائيليون خمس طائرات مقاتلة سوفياتية في صحراء سيناء المصرية، وفي 17 أيلول/ سبتمبر 2018، أسقطت اسرائيل طائرة روسية من نوع “اليوشن 20” في الساحل السوري، ولقي 15 عسكريا روسيا حتفهم، وفي الحالتين كانت التسويات العاجلة بين موسكو وتل أبيب اسرع من عمليات دفن الموتى
ما الذي تغير بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ورحيله؟
لا يبدو أن شيئاً تغير، وهنا انعطافة نحو المرحلة الحالية.
ـ ثانيا؛ المرحلة البوتينية:
ـ أوردت صحيفة “كوميرسانت” الروسية (19 أيلول/سبتمبر 2019) أن الرئيس فلاديمير بوتين التقى المشاركين في مؤتمر المجلس اليهودي “كيرن هيسود” ووصف إسرائيل بأنّها دولة ناطقة باللغة الروسية.
ـ نشرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية تقريرا (23 ـ 3 ـ2010) بعنوان “إسرائيل تتكلّم الروسية.. ولكن”، جاء فيه “حين يمثّل اليهود الروس نحو 20 في المئة من سكان إسرائيل، يكون الحديث عن علاقة خاصة بين روسيا وإسرائيل أمرا بديهيا، وقد قالها رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بوضوح: روسيا تنظر باهتمام إلى أكثر من مليون ناطق بالروسية في إسرائيل حتى أنه وصفها بإحدى الدول الناطقة بالروسية”.
ـ نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية (11ـ 2 ـ 2019) عن سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية قوله “إن أمن اسرائيل يحظى بالأولوية لدى موسكو”.
ـ اشارت نشرة “فلسطين اليوم” في 28 شباط/فبراير 2019، إلى أن فلاديمير بوتين قال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “إن روسيا كانت شريكة في إقامة إسرائيل”.
ـ كتبت ليوبوف شفيدوفا، في صحيفة “سفوبودنايا بريسا” الروسية (14 ـ 2 ـ2019) مقالة تحت عنوان “أمن إسرائيل في سلم أولويات روسيا”.
ـ اكد المستشارالأمني الروسي نيكولاي باتروشيف (24 ـ 6 ـ2019) عشية “قمة أمنية” في القدس المحتلة مع مستشاري الأمن القومي الأميركي والإسرائيلي “أن روسيا تولي أهمية خاصة لأمن إسرائيل، وهذه المصلحة الروسية الخاصة مردها إلى نحو مليوني روسي يعيشون في اسرائيل”.
ـ ذكر موقع “روسيا اليوم” بتاريخ 23 ـ 1ـ 2020 أن بوتين قال خلال مشاركته في احتفال في القدس المحتلة “تعطي إسرائيل أهمية بالغة لحقيقة إسهام الإتحاد السوفياتي في الإنتصار على النازية، نحن نحزن لجميع ضحايا النازية بمن فيهم 6 ملايين يهودي قُتلوا في معسكرات الموت، و40 في المائة منهم هم من مواطني الإتحاد السوفياتي السابق”.
هل من مزيد؟ ليس من الضرورة، فسيرغي لافروف ومن خلال تصريحه في التاسع من هذا الشهر حول أولوية الأمن الإسرائيلي بالنسبة لروسيا، لم يترك مكانا للزيادة والإستزادة.
أخيراً هذه العبرة:
في 30 تموز/يوليو 1970، أسقط الإسرائيليون خمس طائرات مقاتلة سوفياتية في صحراء سيناء المصرية، وجراء ذلك قُتل الطيارون فلاديمير جورافليف، نيكولاي يوريتشينكو، ويفغيني ياكوفلييف، وفي 17 أيلول/ سبتمبر 2018، أسقطت اسرائيل عن طريق “التضليل” طائرة روسية من نوع “اليوشن 20” في الساحل السوري، ولقي 15 عسكريا روسيا حتفهم، وفي الحالتين كانت التسويات العاجلة بين موسكو وتل أبيب اسرع من عمليات دفن الموتى!.
خلاصة العبرة أن العجين والملح لا يتقاتلان.. هكذا يقول المثل الروسي الشهير.