سميح صعب01/10/2023
ليست المرة الأولى التي يقسو فيها التاريخ على ناغورني-كراباخ. لم يحتج الأمر أكثر من 24 ساعة كي يسقط الإقليم الجبلي المنيع والمتجذر في وجدان الأرمن، ضحية تبدل التحالفات في جنوب القوقاز، المنطقة المضطربة التي شهدت في العقود الأخيرة حروباً ونزاعات دامية، بعضها دام سنوات وبعضها الآخر كان خاطفاً.
قبل مئة عام، قرّر الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين منح كراباخ الحكم الذاتي كجيب ملحق بجمهورية أذربيجان السوفياتية. وبزوال الاتحاد السوفياتي، انتفض أرمن الإقليم ليعلنوا من جانب واحد “جمهورية آرتساخ”، ويخوضوا بعدها حربين راح ضحيتهما عشرات الآلاف فضلاً عن تشريد أكثر من مليون شخص، وسقطت عشرات المبادرات الروسية والغربية التي طُرحت لإيجاد حل دائم لنزاع ذي حمولة عرقية ودينية. وفي عام 2001، مثلاً قال الرئيس الأميركي عامذاك جورج دبليو بوش، إنه لا يريد أن يسمع بكراباخ، بعد فشل وساطة أميركية.
وكثرت التحليلات والتفسيرات للهجوم الأذري الخاطف الذي أفضى إلى استسلام كراباخ ونزوح سكانه الـ120 ألفاً إلى أرمينيا. وتنقل صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية عن المحلل السياسي الأرميني إريك هاكوبيان، إن “شعور أرمينيا بالتفوق عام 1994، كان خطأ مميتاً جعل (جمهورية آرتساخ) غافلة في السنوات التالية عن حقيقة كم تغير ميزان القوى. وكيف بات الجيش الأذري قوة رهيبة، مع أسلحة جديدة تم شراؤها بأموال النفط والغاز”.
ليس اختفاء كراباخ نهاية الأزمات بالنسبة إلى أرمينيا. بعد يومين فقط من سقوط الإقليم، جاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى جيب ناخيتشفان الأذري الواقع بين تركيا وأرمينيا وإيران. وخلف اختيار أردوغان لهذا الجيب للقاء علييف وتهنئته بالانتصار، تكمن رمزية كبيرة، ورسالة مباشرة إلى يريفان
والكل يتذكر كيف أن تأييد الرئيس الأرميني السابق ليفون تير-بيتروسيان لتسوية تفاوضية حول كراباخ في عام 1998، كانت سبباً في خروج تظاهرات في يريفان تطالب بتنحيه، وهذا ما حصل فعلاً. وعلى الضفة المقابلة لمجرى الأحداث، ألقى الأذريون باللوم في الهزيمة أمام أرمينيا عام 1994 على رئيسهم وقتذاك أبو الفضل التشيبي. وقد أُرغم على التنحي ليخلفه حيدر علييف، القائد السوفياتي لأذربيجان والرئيس السابق لجهاز “الكي جي بي”، والد الرئيس الحالي الهام علييف.
ولولا حرب أوكرانيا، ربما استمر الوضع على ما عليه في كراباخ لعقود أخرى، محمياً بتحالف تاريخي بين روسيا وأرمينيا. زوال الإقليم وسيطرة أذربيجان عليه بسرعة لم يتوقعها أحد، كان من الخسائر الجانبية للحرب الروسية-الأوكرانية. لا يستطيع الكرملين خوض حرب على جبهتين. وهذا أحد الأسباب التي جعلت روسيا عاجزة عن الوفاء بتعهداتها بمقتضى اتفاق وقف النار في حرب 2020. كان يفترض بروسيا أن تحمي “ممر لاتشين” الواصل بين كراباخ وأرمينيا بعدما عمدت أذربيجان إلى قطعه بذرائع “بيئية”. ردّت أرمينيا على العجز الروسي، بالابتعاد عن موسكو والتقرب من الغرب.
بيد أنه في مشهد سياسي وعسكري يشهد صعود أذربيجان كلاعب قوي في المنطقة يحظى بدعم تركي بلا حدود، ربما اقتضت الواقعية السياسية والضغوط الهائلة التي تتعرض لها روسيا بعد الحرب في أوكرانيا، إلى عدم الذهاب إلى حدود الصدام المباشر مع باكو من أجل حماية كراباخ. ويضاف إلى ذلك أن روسيا تملك حدوداً مشتركة مع أذربيجان وهي دولة أغنى بكثير من أرمينيا. وقبل يومين من غزو كراباخ، زار علييف موسكو، وأبرم اتفاقاً مع فلاديمير بوتين لاستيراد الغاز من روسيا. وفي أيار/مايو الماضي، اتفقت روسيا وأذربيجان وإيران على انشاء خط للسكك الحديد على طول الساحل المطل على بحر قزوين. ووقتذاك ذهب بوتين في التفاؤل إلى حد اعتبار مثل هذا الخط ممراً منافساً لقناة السويس.
ظروف الحرب الضاغطة، وضعت بوتين في موقف لا يمكنه من معاداة أذربيجان ومن خلفها تركيا. أي خطوة من هذا النوع، ستزيد من الأعباء على الكرملين.
وتطورات كراباخ عمّقت الهوة بين روسيا وأرمينيا. وهذا ما ترجمته يريفان بقرار طلبها الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي سبق وأن أصدرت مذكرة اعتقال بحق بوتين بتهمة الوقوف وراء نقل أطفال من أوكرانيا إلى روسيا. لا بد وأن باشينيان يدرك الحساسية التي ستقابل بها موسكو خطوة كهذه. ويطرح التدهور المستمر في العلاقات الروسية-الأرمينية، تساؤلاً في شأن مصير قاعدة غيومري الجوية الروسية في أرمينيا والتي تهدف في الأساس إلى حمايتها من تركيا.
ثم أن للتقارب الأرميني من الغرب حدوداً. فليس من المتخيل أن تحصل أرمينيا على مقعد في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي. والود الذي يظهره الغرب حيال أرمينيا في الوقت الحاضر لا يعدو كونه ورقة ضغط يمارسها على موسكو في مرحلة حرجة.
وليس اختفاء كراباخ نهاية الأزمات بالنسبة إلى أرمينيا. بعد يومين فقط من سقوط الإقليم، جاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى جيب ناخيتشفان الأذري الواقع بين تركيا وأرمينيا وإيران. وخلف اختيار أردوغان لهذا الجيب للقاء علييف وتهنئته بالانتصار، تكمن رمزية كبيرة، ورسالة مباشرة إلى يريفان.
لطالما طالب أردوغان بفتح ممر بري عبر جنوب أرمينيا من ناخيتشفان إلى أذربيجان، كي تصبح تركيا متصلة برياً بباكو. ومن شأن فتح هذا الممر الذي يطلق عليه “زانجيزور” أن يقطع التواصل البري بين أرمينيا وإيران. ولذلك يثير المطلب التركي تحفظاً إيرانياً وجورجياً.
وفي الحسابات الإيرانية أن الاتصال البري بين تركيا وأذربيجان، يمنح باكو مزيداً من القوة، في وقت تعاني العلاقات الإيرانية-الأذرية من الكثير من التعقيدات، نتيجة العلاقات الجيدة التي تربط أذربيجان بإسرائيل.
وعلى المقلب الآخر، ينبع تحفظ جورجيا على ممر “زانجيزور” من قاعدة اقتصادية، لأن التبادل التجاري بين تركيا وأذربيجان يمر الآن عبر الأراضي الجورجية. وفي حال توافر التواصل البري المباشر بين تركيا وأذربيجان، فستحرم جورجيا من موارد مالية مهمة.
يطرح التدهور المستمر في العلاقات الروسية-الأرمينية، تساؤلاً في شأن مصير قاعدة غيومري الجوية الروسية في أرمينيا والتي تهدف في الأساس إلى حمايتها من تركيا
وفي أي اتفاق نهائي للتطبيع بين أرمينيا من جهة وأذربيجان وتركيا من جهة ثانية، سيكون ممر “زانجيزور” مطلباً أساسياً لأنقرة وباكو. ولن يفوت أردوغان الذي يُردّد دائماً أن تركيا وأذربيجان هما “أمة واحدة في دولتين”، فرصة الوهن الذي تمر به أرمينيا اليوم، من أجل الدفع نحو اتفاق تطبيع معها يصب في مصلحة تعزيز الدور الإقليمي لأنقرة.
هذه التطورات المفترضة على الجانب التركي، تستدعي سؤالاً عن الانعكاسات المستقبلية المحتملة على الجانب الروسي. هل يمكن أن تنحو جورجيا، الجمهورية القوقازية الأخرى، منحى أرمينيا لجهة الافلات من دائرة النفوذ الروسي التقليدي، فتثير مجدداً المطالبة بمنطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليتين؟ وماذا يمكن أن يكون حال جمهورية مولدوفا السوفياتية السابقة مع انفصاليي ترانسنيستريا المدعومين من موسكو؟