قد يكون الرئيس صائب سلام (1905 ـ 2000)، في طليعة رؤساء الحكومات اللبنانية الذين دفعتهم مرارات السياسة إلى “اعتزال” رئاسة الحكومة مبكراً، ومن أصل ست حكومات ترأسها، استقال من اثنتين، وكانت الأخيرة بمثابة “طلاق بائن” أعقب انفجار العلاقة بينه وبين الرئيس سليمان فرنجية إثر اغتيال اسرائيل ثلاثة قياديين فلسطينيين في بيروت، وفي حينه طرح صائب سلام معادلة: إما أنا وإما قائد الجيش اسكندر غانم.
عن تلك المرحلة، يروي صائب سلام للزميل غسان شربل في “دفاتر الرؤساء” فيقول “استقلت عام 1973 وقررت ألا أتولى رئاسة الحكومة وأعلنت أنني طلقتها”، ولكن عملية شارع “فردان” التي شارك فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهودا باراك، لم تكن في الواقع سوى مفتاح الهجرة المريرة من عالم رئاسة الحكومة، فصائب سلام الذي جرى تكليفه برئاسة الحكومة لأول مرة عام 1952 في عهد الرئيس بشارة الخوري ولأربعة أيام فقط، سرعان ما طالبه رئيس الجمهورية بالإستقالة فقال له سلام “نستقيل معاً”، وتلك الواقعة شكلت له جرعة الحنظل الأولى على طريق الآلام الطويلة.
في عهد الرئيس كميل شمعون، ترأس صائب سلام الحكومة لأربعة أشهر دون سواها، ثم فرقت السبل وخرائط السياسة بين “فتى العروبة الأغر”، أي الرئيس شمعون وبين صائب سلام الذي أسهم بفعالية بإيصاله إلى الرئاسة الأولى، وحين اندلعت أحداث العام 1958، نال صائب سلام نصيبه من الجروح والضربات بأعقاب البنادق، فشج رأسه، كما يعترف هو نفسه لغسان شربل، ومثلما يقر لشكري نصرالله في “مذكرات قبل أوانها”، ومثلما جاء في شبه السيرة الذاتية لعصام شبارو بعنوان “الرئيس صائب سلام”.
رئيس حكومة يُضرب؟ ما المانع وما الحائل؟
هذه قصة أخرى عن رئيس حكومة آخر.
عبد الله اليافي (1901ـ 1986) ترأس تسع حكومات لبنانية بعد الإستقلال، وفي حوار شخصي، مع نجله السيد غياث، أنه في الأول من نيسان/ابريل 1954، انعقدت جلسة لمساءلة الحكومة حول حادثة مقتل حسان ابو اسماعيل أحد مناصري الحزب التقدمي الإشتراكي في تظاهرة طالبية، وعلى ما يبدو ارتفع السجال بين الرئيس عبدالله اليافي وكمال جنبلاط إلى حدود خرج فيها جنبلاط عن طوق التحكم بأعصابه، فتقدم نحو اليافي ورشقه بكوب ماء، وقيل صفعه، وفي الثاني من نيسان/ابريل، صدرت صحيفة “الهدف” بالعنوان العريض التالي “جنبلاط يصفع اليافي”!
يقول غياث اليافي، إن والده كان يمكن أن يبادل جنبلاط بالمثل، ولكن إيمانه بالنظام العام والإنتظام الدستوري، دفعه إلى الطلب من رئيس مجلس النواب صبري حمادي أن يرد جنبلاط إلى مقعده، وحول الحادثة نفسها يقول حكمة أبو زيد في “رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم” أنه كان يحضر الجلسة النيابية “المنعقدة قبل الظهر، مندوبا لجريدة “الهدف”، فأسرعتُ أزودها بالخبر”.
من وصايا عبد الله اليافي لأبنائه “إياكم والسياسة، ولن ترثوا مني سوى علومكم وشهاداتكم”، ومن أقواله المأثورة أن رئيس الحكومة ليس “إلا باشكاتب” عند رئيس الجمهورية، ولذلك، كان “يلملم” أغراضه الحكومية ويمشي، كلما استشعر أن مساحته ضاقت أو كادت تضيق.
هل من عبرة في وصية عبد الله اليافي لأبنائه “إياكم والسياسة”؟
في قصة الرئيسين أمين الجميل ورشيد الصلح ما يستحق الرواية:
تولى رشيد الصلح (1926 ـ2014) رئاسة الحكومة للمرة الأولى في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/اكتوبر1974، ربما كان حظه عاثرا، فخلال ولايته الحكومية، جرى اغتيال الرمز الناصري الصيداوي معروف سعد في السادس والعشرين من شباط/فبراير 1975، مما عنى اقتراب لبنان من فم التنين، وفي الثالث عشر من نيسان/ابريل في العام نفسه، وقعت واقعة الباص في منطقة “عين الرمانة”، وهي التي تؤرخ لإنزلاق لبنان نحو بيوت النار.
وإثر واقعة “عين الرمانة” توجهت أصابع الإتهام نحو حزب “الكتائب اللبنانية”، وجراء ذلك استقال ما يقارب نصف الوزراء من الحكومة وطالبوه بالإستقالة فرفض وأصر على المثول أمام مجلس النواب، وهناك وقعت الواقعة الثانية، فبعدما ألقى رشيد الصلح كلمته في “مجلس الأمة” في الخامس عشر من أيار/مايو 1975، اختتمها بالإستقالة المنشودة وتأهب للخروج من المجلس، إلا أن النائب (الرئيس) أمين الجميل تصدى له بعنف مفرط، وسحبه من معطفه وتعارك معه، ويُروى انه عاجله بصفعة على خده الأيمن وحثه على الإصغاء لكلمة “الكتائب”، وحقيقة الأمر، أن كلمتي رشيد الصلح و”الكتائب” دخلتا التاريخ، ومما جاء في الكلمتين:
ـ قال رشيد الصلح: “ظهر الثالث عشر من نيسان/أبريل وقعت جريمة منكرة في عين الرمانة، ومن الواضح ان حزب الكتائب يتحمل المسؤولية الكاملة عن المجرزة، وقد ثبت ذلك منذ اللحظة الأولى للجريمة البشعة، وممانعته في تسليم المسؤولين عنها طوال ثلاثة ايام، ثم إقراره الصريح والعلني بالمسؤولية وتسليمه اثنين من المسؤولين ووعده بتسليم آخرين”.
ـ رد حزب “الكتائب” على الصلح: “الإستنكار البالغ لإنحدار رئيس الحكومة إلى هذا الدرك من اللا أخلاقية الوطنية والسياسية وانعدام الشعور بالمسؤولية العامة والشخصية، وشجب استغلال رئيس الحكومة لمنبر المجلس لخلق فتنة في البلاد بما ضمن بيانه من أكاذيب وافتراءات، والتنديد بأسلوبه في عدم السماح بالرد عليه بما يتنافى مع ابسط مبادىء الرجولة، إن حوادث عين الرمانة وما سبقها، ما كانت لتحصل لو أن رئيس الحكومة لم يتعمد إفراغ السلطة، متحيناً الفرص لقلب نظام الحكم في لبنان”.
على أية حال، تلقى رشيد الصلح “نصيبه” من الصفع أو الضرب أو الرشق، كما زميلاه صائب سلام وعبد الله اليافي، وهذه الثلاثية من الأفعال المنبوذة والتي يمكن إدراجها في عالم الغرائب والعجائب، قد تبدو مجتمعة أشبه بحرف واحد من حروف أبجدية القتل التي تعرض لها رؤساء الحكومات اللبنانية.
لماذا قتلوا رياض الصلح؟
لغاية الآن، ما زالت عملية اغتيال الرئيس رياض الصلح (1894 ـ1951) تكتنفها الطلاسم والألغاز، إلا أن ثلاثة تواريخ متلاحقة ومتقاربة، يجدر التأمل بها والتوقف عندها، وهي:
ـ اغتيال رياض الصلح في 16 ـ7 ـ1951.
ـ اغتيال ملك الأردن عبد الله الأول بعد أربعة أيام، أي في 20 ـ 7 ـ 1951.
ـ إزاحة حزب “الشعب” عن رئاسة الحكومة السورية وهيمنة أديب الشيشكلي على مقاليد السلطة في 29ـ11ـ 1951.
ما الجامع بين هذه التواريخ؟
في حديث شخصي مع نقيب الصحافة اللبنانية الراحل زهير عسيران، أن رياض الصلح ذهب إلى العاصمة الأردنية عمان بعد إلحاح من الملك عبدالله بغرض البحث في مشروع “الإتحاد العربي” بين الأردن والعراق، والذي يمكن أن تنضم إليه سوريا في وقت لاحق، خصوصا أن حزب “الشعب” كان من مناصري هذا المشروع.
وعلى ما يقول الجنرال السوري محمد معروف الذي تشارك مع سامي الحناوي بإطاحة حسني الزعيم في كتابه “أيام عشتها” ـ 2003 أن عاصمتين إقليميتين عربيتين كبيرتين كانتا تعارضان بشدة وحزم مشروع “الإتحاد العربي”، وعملتا على تقويضه، وهو ما يؤكده الأكاديمي المصري شريف البراوي في كتاب له صدر عام 1952 بعنوان “حقيقة الإنقلاب الأخير في مصر”، وما يُقره اللبناني عبد الرحمن محمود الحص في كتابه “النكبات السياسية في دول الجامعة العربية” الصادر في عام 1954، وما سيعيد قوله باتريك سيل في كتابه “رياض الصلح والنضال من أجل الإستقلال العربي ـ 2010″، ويورد باتريك سيل ما قاله الملك عبد الله لرياض الصلح: “إني أفكر في ما سيؤول إليه أمر الأردن بعد رحيلي، لذا فكرت في إقامة نوع من الإتحاد بين الأردن والعراق، يرأسه إبن أخي عبد الإله بعد وفاتي، لقد اخترتك بإقناع العرب بهذا المشروع”.
هل جرى استدراج رياض الصلح لإغتياله في عمان؟ هل للدول العربية المناوئة لـ”الإتحاد العربي” علاقة بإغتياله؟ هل لبريطانيا علاقة بعملية الإغتيال وهي التي كانت تعارض مشروع “الإتحاد” كما يقول المفكر الفلسطيني أكرم زعيتر في مقدمة كتاب “قل كلمتك وامش” وهو مجموع افتتاحيات كامل مروة صاحب و ناشر صحيفة “الحياة”؟.
كل ذلك في علم الغيب، ولكن رياض الصلح قد قُتل.
في قائمة اغتيال رؤساء الحكومات اللبنانية كما هو معروف، رشيد كرامي (1921ـ 1987) ورفيق الحريري (1944 ـ 2005) وكلاهما استشهد في ظروف عصيبة، وفي الحالتين، ما فتئت النهاية المأساوية للرجلين تعتمل جراحات غائرة ومؤلمة على المستوى الوطني اللبناني العام، ولولا قدرة قادر، كان الرئيس سليم الحص قد دخل في القائمة نفسها حينما تعرض لمحاولة اغتيال في صبيحة عيد الفطرعام 1984.
هل هي لعنة رئاسة الحكومة في لبنان أم ماذا؟
لا إجابة عن هذا السؤال ولكن هو سؤال للتأمل والتفكر!
أخيراً؛ إشارة مختصرة:
في دلالة إلى حالة الغثيان من ترؤس الحكومة اللبنانية أو المشاركة في وزاراتها، ينقل روجيه جهشان (حسين العويني/ خمسون عاما من تاريخ لبنان) عن صحف بيروت الصادرة في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1968، أن الرئيس حسين العويني استقال من حكومة عبدالله (اليافي) في جلسة الثقة النيابية، ولكن الرؤساء شارل حلو وصبري حمادي ورشيد كرامي واليافي والمفتي الشيخ حسن خالد حثوه على البقاء، فوافق على مضض، وقال “أرغموني على دخول الحكومة وأرغموني على عدم الإستقالة منها”.
بعد ثلاث سنوات توفي حسين العويني.
بعيداً عن الماضي، ثمة سؤال في الحاضر: هل يعود الرئيس حسان دياب الى لبنان.. ومتى؟