بتاريخ الخامس والعشرين من تموز/يوليو 2021، قال عبدالله الثاني لقناة “سي إن إن” الأميركية “إن الرئيس الأسد ونظامه سيبقيان في سوريا لأمد طويل وأدعو إلى حوار منسق مع دمشق”، وفي الثالث من تشرين الأول/اكتوبر 2021، جرى اتصال هاتفي مطول بين الأسد وعبدالله الثاني.
تلك المفاصل التاريخية، بقدر ما ينطوي جانبها الأول على مفاصل نزاعية معقدة بين سوريا والأردن في مراحل معينة، فإن جانبها الآخر يؤشر إلى منعطفات تتخلى عن الماضي السلبي الذي عصف بعلاقات الدولتين الجارتين، وتؤشر في الوقت نفسه إلى تحولات إيجابية قد تعيد صياغة الإطار العام لمجمل علاقات دول الإقليم العربية من مصر إلى العراق، مرورا بالأردن وسوريا ولبنان.
بيت القصيد في كل ذلك، يبدو لبنان، كيف؟
في التاسع عشر من تموز/يوليو الماضي، زار عبدالله الثاني العاصمة الأميركية واشنطن، وفي العنوان العام كان الملك الأردني أول زعيم عربي يلتقى الرئيس جو بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض في مطلع السنة الجارية، وفي صلب المباحثات التي دارت بين الجانبين حضرت سُبل معالجة القضية السورية وكيفية إخراج لبنان من محنة انهياره.
الملاحظة التي يمكن التمعن فيها، ذاك الربط المحكم لخرائط الحل بين سوريا ولبنان، وفي حقيقة الأمر، أن هذا الربط غير مسبوق بين الواقعين المؤلمين في البلدين الجارين، فللأزمة السورية أسبابها وللمحنة اللبنانية أسبابها المختلفة، ولكن جديد الطرح الأردني تمثل بمقدمة حلول مشتركة تتجاوز العناصر المؤججة للحرب السورية، وتتخطى العوامل المؤدية للإنهيار اللبناني.
قبل هذا الربط الآتي من الأردن، لا طروحات مثيلة أو مشابهة، ويكاد يذهب القول إلى اليقين بأن ذاك الطرح علامة اردنية مسجلة.
إعتبار لبنان “مدخلا إنسانيا” يمكن من خلاله أن يتحول خط الغاز العربي خطا سياسيا مستقيما من دمشق إلى جامعة الدول العربية ومن الجامعة إلى العاصمة السورية، ومن الآن حتى شهر آذار/مارس المقبل، موعد انعقاد مؤتمر القمة العربية، قد تكون خطوط التواصل بين دمشق ونظيراتها العربيات قد استوت ونضجت
بعد لقاء عبدالله الثاني وجو بايدن، نشر موقع قناة “روسيا اليوم” (21 ـ 7 ـ 2021) تقريرا منقولا عن صحيفة “الغد” الأردنية يحذر فيه عبدالله الثاني “من تدهور الأوضاع في لبنان خلال اسابيع”، وفي حوار مع قناة “سي إن إن” الأميركية في الخامس والعشرين من تموز/يوليو الفائت، قرع ملك الأردن جرس “المجاعة الوشيكة في لبنان”، وقال إنه ناقش هذا الأمر مع الرئيس الأميركي، وأعادت قناة “الحرة” الأميركية التذكير (27 ـ 9 ـ 2021) بأن “العاهل الاردني ناقش الوضع المتردي في لبنان خلال لقائه بالرئيس بايدن في البيت الأبيض، بما في ذلك نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، ونقل الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا إلى لبنان”.
وأما صفارة الإنذار المبكر التي أطلقها ملك الأردن حيال تداعيات الأزمة اللبنانية واحتمال خروجها من إطارها المحلي، فقد كانت باريس قاعدة إطلاقها، ففي “المؤتمر الدولي الثالث لدعم لبنان” الذي نظمته فرنسا بالشراكة مع الأمم المتحدة في الرابع من آب/أغسطس الفائت، قال عبدالله الثاني “من دون جهد دولي منسق بشكل جيد، قد تمتد الأزمة في لبنان إلى خارج حدوده، وتلقي بظلالها على المنطقة وخارجها”.
أغلب الظن، أن هذا الإنذار غير المسبوق أيضا، يعادل في سبقه عملية ربط مقدمات الحلول للأزمتين اللبنانية والسورية.
عموما، بعد المحطة الأميركية التي جمعت عبدالله وبايدن، انتقل الأول إلى موسكو للقاء الرئيس فلاديمير بوتين في الثالث والعشرين من آب/اغسطس المنصرم، ولكن قبل اللقاء، كانت التقديرات في العاصمة الأردنية، تؤكد على ارتباط هذا اللقاء بالبُعدين السوري واللبناني، فعضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأعيان الأردني محمد المومني والمحلل السياسي عامر السبايلة، قالا لوكالة “الأناضول” التركية (22 ـ 8 ـ 2021) إن اللقاء المرتقب بين الملك وبوتين “سيحسم الكثير من الأمور، خاصة على صعيد الأزمة السورية والتطورات في محافظة درعا، وأن ملف سوريا ومحاولة تسويق فكرة ربط لبنان بكهرباء الأردن سيكون هو الأبرز”.
وإثر اللقاء أعلن الديوان الملكي الأردني (23 ـ 8 ـ2021) أن الملك والرئيس “استعرضا التطورات الأخيرة في سوريا بخاصة في الجنوب”، ونشرت صحيفة “الغد” الأردنية (23 آب/أغسطس 2021) مقالة لزيد نوايسة قال فيها إن “الملف الأكثر حضوراً هو الملف السوري وتحديداً ملف درعا وأيضاً الحديث عن إمكانية تزويد لبنان بالتيار الكهربائي من الأردن عبر خطوط النقل السورية”، وكتبت لما جمال العبسة في صحيفة “الدستور” الأردنية (7 ـ 9 ـ 2021) أنه بعد فترة وجيزة من لقاءي القمة اللذين عُقدا بين عبدالله الثاني وبايدن وبعدها القمة الروسية الأردنية، “ظهرت النتائج جلية، حيث كانت اولى نجاحات هذه القمة العمل فعليا على مساعدة لبنان لحل المشكلة الكبرى لديه في قطاع الطاقة”.
ما الذي جرى في منتصف الطريق بين قمتي واشنطن وموسكو وبعدهما؟
من الضرورة القصوى التأمل في تعاقبات ومتتاليات الجدول الزمني التالي:
ـ 19 آب/أغسطس: الرئاسة اللبنانية تعلن أن السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، أبلغتها موافقة إدارة بايدن على استجرار الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا.
ـ 4 أيلول/سبتمبر: وفد وزاري لبناني يزور دمشق رسمياً للمرة الأولى منذ العام 2011، للبحث قي كيفية استقدام الطاقة إلى لبنان.
ـ 8 أيلول/سبتمبر: اجتماع وزاري في العاصمة الأردنية ضم وزراء النفط والطاقة لكل من لبنان وسوريا والأردن ومصر، تمحور حول الطرق الآيلة إلى إمداد لبنان بالغاز المصري.
ـ 19 أيلول/سبتمبر: وزير الدفاع السوري العماد علي أيوب يزور الأردن، ويلتقي رئيس هيئة الأركان الأردنية اللواء الركن يوسف الحنيطي.
ـ 23 أيلول/سبتمبر: وزير الخارجية الأردنية أيمن الصفدي يجتمع بنظيره السوري فيصل المقداد في نيويورك.
ـ 24 أيلول/سبتمبر: وزير الخارجية المصرية سامح شكري ووزير الخارجية السورية فيصل المقداد يجتمعان في نيويورك.
ـ 29 أيلول/سبتمبر: إعادة فتح معبر نصيب ـ جابر على الحدود السورية ـ الأردنية.
ـ 3 تشرين الأول/أكتوبر: عودة الرحلات الجوية بين الأردن وسوريا.
في واقع الحال، إن مجموع هذه التطورات تعني تجويف أو خفض منسوب “قانون قيصر” الذي أقرته إدارة الرئيس دونالد ترامب الراحلة، إنما من دون أن تعلن الإدارة الحالية تخليها الرسمي عنه، وتحت مبررات “إنقاذ لبنان من العتمة”، يجري العمل على تجاوز “قانون قيصر” ولكن من غير نعيه ولا الإعلان عن موته، ولعل متابعة أصداء ذلك، يفي بالأغراض والأهداف:
في السادس عشر من الشهر الفائت، تحدثت باربرا ليف المرشحة لمنصب مساعد وزير الخارجية الأميركية في جلسة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ عن “انفتاح الولايات المتحدة على رفع بعض العقوبات المرتبطة بقانون قيصر لتسهيل مرور الغاز والكهرباء إلى لبنان عبر سوريا من مصر والأردن”.
سأل الملك حسين الرئيس كميل شمعون: أصحيح أنكم على اتصال بالإسرائيليين؟ وحين ردّ شمعون بالإيجاب، قال له الملك: “إسرائيل تُدفىءعن بُعد وتحرق عن قرب، ليس لكم من خيار إلا سوريا”
هذا الرأي، سبقته وأعقبته آراء عدة في كبريات الصحف العالمية، فمجلة “فورين بوليسي” الأميركية قالت في السادس والعشرين من آب/أغسطس المنصرم إن إدارة بايدن “تصرف النظر عن خرق دول عربية لقانون قيصر، وبما يؤشر إلى تخليها عن عزل نظام الرئيس الأسد”، وكتبت صحيفة “التايمز” البريطانية (6ـ 9ـ2021) أن الرئيسين الأسد وبايدن “يوحدان مواقفهما لحل أزمة المحروقات والطاقة في لبنان، وعلى ما يبدو أن الرئيس بايدن يفضل الإنفتاح على سوريا في هذه المرحلة”، وأشار موقع “ميدل إيست آي” البريطاني (23ـ 9 ـ 2021) إلى أن بايدن “قد يتخذ في المستقبل مواقف مرنة تجاه الرئيس الأسد، ومؤخرا أعفى مشروع غاز مصري لإيصاله إلى لبنان عبر الأردن وسوريا”.
وإذا كانت صحيفة “التايمز” اللندنية قد ربطت بين التطورات العسكرية الأخيرة في محافظة درعا التي انتهت لصالح الجيش السوري، وبين الرغبة بإعادة تأهيل خط الغاز العربي (3 ـ 9 ـ 2021) فإن نظيرتها “الأوبزرفر” لاحظت في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي أن الولايات المتحدة “تتلاعب بقيود قانون قيصر، وبصورة قد تسهم بعودة نظام الرئيس الأسد إلى الواجهة، ففي الطريق نحو حل أزمة الطاقة في لبنان، أعلنت السفيرة الأميركية في بيروت عن خطة لإرسال الغاز المصري عبر الأردن وسوريا، وهذه الخطة تعطي الأسد دورا مباشرا في عملية البحث عن حل للأزمة اللبنانية التي باتت مندمجة بالأزمة السورية”.
وذهبت “الايكونوميست” البريطانية إلى القول (24 ـ 9 ـ 2021) أن مرور خط الغاز “عبر الأراضي السورية، يعني أن دمشق ستحصل على رسوم المرور، نقدا أو بطريقة أخرى، ومهما كان خيار واشنطن، فالأمر خرق لقانون قيصر”.
وهذه القراءات الغربية، لا تبتعد عنها القراءات الروسية، فصحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الصادرة في موسكو، نشرت ( 30 ـ 9 ـ2021) مقالة حملت عنوان “الولايات المتحدة تخفض عقوباتها على دمشق” جاء فيها “وافقت إدارة الرئيس بايدن على استئناف الرحلات الجوية بين سوريا والأردن وقامت عمان بفتح معبر نصيب- جابر، وهذه الخطوات تلبي المصالح الإقتصادية المشتركة للطرفين، ولكن، ليس هذا هو السبب الوحيد، فالجانبان الأردني والسوري يشكلان عنصرين مهمين في مشروع نقل الغاز المصري إلى لبنان الذي حصل أيضا على موافقة إدارة بايدن”.
إن حصيلة ما ورد قوله، يمكن إيجازه بالآتي:
ـ ترابط ملامح أو مقدمات الحلول بين الأزمتين اللبنانية والسورية.
ـ المسعى الإقليمي ـ الدولي لإيجاد أرضية مشتركة بين المحنة اللبنانية والتطبيع العربي مع سوريا.
ـ اعتبار لبنان “مدخلا إنسانيا” يمكن من خلاله أن يتحول خط الغاز العربي خطا سياسيا مستقيما من دمشق إلى جامعة الدول العربية ومن الجامعة إلى العاصمة السورية، ومن الآن حتى شهر آذار/مارس المقبل، موعد انعقاد مؤتمر القمة العربية، قد تكون خطوط التواصل بين دمشق ونظيراتها العربيات قد استوت ونضجت، وليس ذاك الشهر المأمول بعيدا عن الناظرين في عاصمة الأمويين وغيرها.
خلاصة أخيرة:
في حوار شخصي مع الرئيس الأسبق لحزب “الكتائب” اللبنانية كريم بقرادوني، قال الآتي:
“بعد اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، زار وفد من الجبهة اللبنانية العاصمة الأردنية عمان، وخلال مأدبة غداء أقامها الملك حسين للوفد، سأل الحسين الرئيس كميل شمعون: أصحيح أنكم على اتصال بالإسرائيليين؟ وحين ردّ شمعون بالإيجاب، قال له الملك: إسرائيل تُدفىءعن بُعد وتحرق عن قرب، ليس لكم من خيار إلا سوريا”.
قال الملك ذلك.. الجغرافيا تقول أكثر.