متى يُعلنونَ وفاة لبنان؟

في الثامن والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1994، نشرت صحيفة "الحياة" اللندنية، قصيدة رؤيوية مؤلمة للشاعر نزار قباني، عنوانها "متى يُعلنون وفاة العرب"؟

وكعادة أهل الشرق في انتهاج “سياسة النعامة” ودفن الرؤوس في الرمال، لم يبقَ قلم دخيل على فن الشعر وعلم السياسة، إلا وأطلق حمم التحقير على الشاعر الدمشقي الكبير باعتباره “شاعر اليأس والخيبة”.

في تلك القصيدة، يقول نزار قباني:

أنا منذ خمسين عاماً

أحاول رسم بلاد/ تُسمى مجازاً بلاد العرب

وحين انتهى الرسم ساءلتُ نفسي

إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب

ففي أي مقبرة يُدفنون؟ ومن سوف يبكي عليهم؟

وليس لديهم بنات/ وليس لديهم بنون

وليس هنالك حُزن/ وليس هنالك من يحزنون!

بالإمكان، إجراء تعديل بسيط وسريع في نص القصيدة النزارية واستبدال العرب بلبنان، للذهاب نحو خلاصة مؤداها أن محاولات إحياء لبنان الذي كان قبل العام 1975، وبصرف النظر عن شكله الجديد وبنية نظامه السياسي والإجتماعي المفترض، هي صرح من وهم وخيال، نظراً للعقم الذي تتسم به غالبية القوى السياسية اللبنانية الحالية، وافتقادها  للعناصر الفكرية والفلسفية التي تؤهلها لبناء وطن ودولة جديدين، والحكمة تقول: فاقد الشيء لا يعطيه.

هل يمكن إعادة تركيب الشظايا الطائفية اللبنانية واستجماعها في بناء واحد؟

هذا السؤال ناقشه الكاتب المصري عماد الدين أديب في مقالة (26  ـ 10ـ  2021) قال فيها “في لبنان المعاصر لا أحد يخطئ، وبالتالي لا أحد يتحمل المسؤولية، ولا أحد يقدر أو على استعداد أن يدفع الثمن السياسي، أزمة شراكة الطوائف في  لبنان الآن وصلت إلى حالة إعلان الإفلاس، ولكن لا أحد يعرف كيف يقوم بتصفيتها”.

لبنان الذي اراده مسيحيو لبنان مساحة لضمان الوجود والتعايش (العيش) مع الآخرين (المواطنين)، ينتظر إحدى الإجابتين أو أحد الخيارين: لبنان حقوق الطائفة أم لبنان حقوق المواطنة؟

واقع الحال يصادق على استنتاجات عماد الدين أديب كمراقب من الخارج، ذلك أنه حين تعلو بيارق حقوق هذه الطائفة أو تلك، تنتكس قبالتها الراية الوطنية، وهذا ما كان حذّر منه المفكر اللبناني بقامة الفيسلوف ميشال شيحا، حين كتب  لصحيفة “لوجور” ـ  le jour في الثاني من تموز/يوليو 1936 مقالة بعنوان “مدخل إلى سياسة لبنانية” فقال “لا يمكن مداواة الفوضى الطائفية والإجتماعية في لبنان، بالتجاهل المقصود لما ينتمي إلى حقل السياسة، وكل ما تربحه الفكرة الطائفية، فالأمة هي التي تخسره”.

إذاً.. تربح الطوائف، يخسر الوطن.

من يفكر مثل ميشال شيحا في هذه الأيام اللبنانية المريضة؟

قد يكون صلب هذا السؤال، موجهاً ومصوباً على وجه الدقة نحو المسيحيين اللبنانيين خصوصاً، إذ انهم أكثر الأطراف المحلية معنية بمستقبل لبنان ومصيره، فلبنان الذي أرادوه مساحة لضمان الوجود والتعايش (العيش) مع الآخرين (المواطنين)، ينتظر إحدى الإجابتين أو أحد الخيارين: لبنان حقوق الطائفة أم لبنان حقوق المواطنة؟.

لا شك أن كثرة من أهل النقاش والجدال، ستقف مأخوذة بالسؤال الآنف الذكر وأهداف تخصيصه للمسيحيين اللبنانيين دون غيرهم، وإذ لا ضرورة للإعادة والتكرار بأنهم معنيون بأمر تجديد لبنان أكثر من سواهم، فلأنهم من ناحية أخرى كانوا في طليعة النخبويين الذين أسهموا في إنتاج وطنيتين: العروبة واللبنانية، وكلاهما قام على فكرة التعايش بين الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر في إطار الدولة الواحدة والجامعة، ولا مهرب من القول في هذا الجانب، إن الإبداع الفكري  الذي أنتجه المسيحيون اللبنانيون طوال نصفين في القرنين التاسع عشر والعشرين، هو الذي صيّرهم رواداً في الحُكم والسياسة والفن والإعلام والثقافة، ولم يتحولوا مرة واحدة الى رواد عن طريق الصراعات والنزاعات.

هل لبنان بحاجة إلى مفكرين مسيحيين يتبعون خطى ما قاله المفكرون الأوائل منهم؟

هنا عودة مرة جديدة إلى ميشال شيحا، حيث كتب في السابع والعشرين من أيار/مايو 1947، فقال “مصلحة العالم العربي كله أن نقرأ لأجله جميع الكتب، وأن نستوعب لأجله جميع المعارف، ومصلحة العالم العربي أن نملك محادثة الكون بسهولة لنجيد خدمته”.

لنلاحظ ذاك العمق الفكري عند ميشال شيحا، فاللبناني في نظره، تقع عليه مسؤولية الريادة الثقافية والفكرية، وبما يتجاوز الحدود الجغرافية للبنان إلى عموم العالم العربي، بل إن لبنان بشخصيته وحضوره، وهو عنوان أحد كتب ميشال شيحا، من واجبه أن يقرأ بهدف خدمة العرب، والمطلوب منه أن يستوعب معارف وعلوم الأرض كلها، لأجل أن يخدم العرب!

عملياً، كان ميشال شيحا وأمثاله، يؤسسون لدور مسيحي فوق طائفي وعابر للحواجز العربية، إنما مع التشديد على لبنان الوطن والدولة، ولذلك فإن لبنان الأول وفي مرحلته الذهبية قبل الحرب المشؤومة عام 1975، أنتج رواداً من نوع فريد في المجالات كافة، لم يكونوا بالضرورة من المولودات الفكرية لـ”المفاهيم الشيحية”، ولكن إدراكهم من خلال الخبرة أو التجربة او العقلية المنفتحة، أوصلهم إلى ما نادى به شيحا، فاللبنانيون على سبيل المثال لم يحصروا فؤاد شهاب في زاويته الطائفية، ولا نظروا إلى حميد فرنجية من منظور ماروني، ولا تطلعوا إلى كميل شمعون في المرحلة التي كان فيها “فتى العروبة الأغر” من نافذة انتمائه المسيحي، ولم يدرجوا فيروز والرحابنة وصباح ووديع الصافي في دائرة تضيق على مساحة الطائفة والمذهب.

ما ينطبق على لبنان داخلياً، له شواهده العربية، فمؤسسا صحيفة “الأهرام” المصرية سليم وبشارة وتقلا، لبنانيان مسيحيان، ما كان لأحد من المصريين أن يؤشر إليهما بأصابع الحشر الطائفي، ولا يوسف الخازن وداوود بركات ناشرا “الأخبار”، ولا جرجي زيدان ويعقوب صروف اللذان أصدرا “الهلال” و”المقتطف”، ولا إميل وشكري زيدان أصحاب مجلات “المصور” و”كل شيء” و”الدنيا” و”الإثنين” و”الكواكب” و”حواء”، وفي المجال الفني، يتقدم رائد المسرح المصري جورج أبيض، ومعه جورج نقاش ونجيب الريحاني وبشارة واكيم وعلوية جميل وبديعة مصابني وآسيا داغر وماري كويني والمخرجان السينمائيان هنري بركات ويوسف شاهين، وكلهم مسيحيون لبنانيون، وكذلك هي الحال مع المفكرين فرح انطون وشبلي الشميل وانطون الجميل، ولعل ما يقوله مدير مكتبة الإسكندرية المفكر المصري مصطفى الفقي يوجز الدور الكبير للمسيحيين اللبنانيين (وأهل الشام عموماً) في النهضة المصرية خلال النصف الأول من القرن الماضي، إذ يرى، بحسب ما أوردت “اليوم السابع” المصرية في الخامس من كانون الثاني/يناير 2010، “أن مصر دخلت نفقاً مظلماً بعد هجرة الشوام منها”.

في مقدمة كتاب “جمهورية فؤاد شهاب” لنقولا ناصيف، يقول وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس “إن شهاب سأله إذا كان يعرف سياسياً لبنانياً آثر مصلحة البلاد على مصلحته، وحين أجاب فؤاد بطرس بالنفي، هزّ فؤاد شهاب رأسه واستغرق في صمت عميق”

وأما في سوريا والعراق، وحتى لا تطول قائمة الأسماء، هناك فارس الخوري (1877 ـ 1962) أحد أهم رؤساء مجلسي النواب والوزراء في سوريا، وإميل البستاني (1907 ـ 1963)، السياسي ورجل الأعمال الذي اضطلع بدور فائق الأهمية في بناء الإقتصاد العراقي الحديث، فيما أمين الريحاني (1876 ـ 1940) ارتبط بصداقات رفيعة مع أغلب القادة العرب من مثل عبد العزيز آل سعود وفيصل بن الشريف حسين وفاروق، وبصورة تحول فيها إلى صانع قرارات كبرى ومن دون أن يتقلد موقعاً رسمياً واحداً، وجراء حضوره الفاعل في القضايا العربية عرض عليه مفتي مدينة القدس أمين الحسيني أن يكون عضواً في الوفد الفلسطيني للتفاوض مع الحكومة البريطانية حول مستقبل فلسطين.

إقرأ على موقع 180  الحراك بحاجة لصدمة حقيقية لا للقمع  

مرة أخرى: هل يحتاج لبنان إلى مفكرين مسيحيين؟

نعم، يحتاج لبنان إلى هذه النوع من المفكرين، وقد تحتاج الإجابة بحد ذاتها إلى ما كتبه الأولون، ومنهم يوسف السودا، ففي مقالة بعنوان “حكومة تستحق الشفقة” كتبها في صحيفة “الراية” بتاريخ شباط/فبراير 1938، يقول:

“خطر في بال الحكومة أن تستغني عن اعتمادات المعارف لتوزعها على الإعتمادات الطائفية، فيقوم التعليم الخاص مكان التعليم العام، وتصبح لكل طائفة مدارسها، فينكمش الأرثوذوكس في المدارس الأرثوذوكسية، والموارنة في المدارس المارونية، والكاثوليك في المدارس الكاثوليكية، والسريان في مدارس السريان، والأرمن في مدارس الأرمن، والدروز في مدارس الدروز، والشيعة في مدارس الشيعة، والسنة في مدارس السنيين، فيخرج الموارنة من مدارسهم على روح مار مارون، والأرثوذوكس على روح مار تقلا، والأرمن على روح قديسيان، والسريان على روح مار افرام، والدروز على خاصتهم، والشيعة على تقليدها، والسنة على اتجاهها.. الحكومة التي لا تفهم تربية الأحداث وتثقيف الشباب، لا تستحق إلا الشفقة”.

تلك الدعوة التي تعود إلى ما يزيد عن ثمانية عقود، للمخيلة أن تفتح مداها للتمعن في النتائج التي كان يمكن أن تؤول إليها التربية الوطنية في القطاع التعليمي العام، لو جرى تعميمه وتدعيمه بدل تحطيمه كما هي أحواله في هذه الآونة، حيث لم يقتصر التشظي الطائفي على المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، بل تعداها إلى أن بات لكل طائفة اقتصادها وإعلامها وأحزابها وأنديتها الرياضية ومطاعمها ومقاهيها ومنتزهاتها، بل عاصمتها السياسية، وإلى أن غدا السؤال العضال يطرح أوجاعه على الواقع السياسي اللبناني: هل ما زالت بيروت عاصمة للبنان واللبنانيين؟.

في كتابه “حقائق لبنانية”، يراقب الرئيس بشارة الخوري تراكم السيئات والسلبيات في علاقات الطوائف اللبنانية، بعضها مع بعضها الآخر، ويحذر من تلاشي “الميثاق الوطني”، ولكن مع مجيء اللواء فؤاد شهاب إلى الرئاسة الأولى عام 1958، وقناعته ببناء دولة حقيقية، لوحظ اتجاهه للتعاون مع مفكري تلك المرحلة، وكانوا على كثرة وليس على حالة نضوب كما هو الواقع الآن، ولذلك التفت فؤاد شهاب إلى “الندوة اللبنانية” ورئيسها ميشال أسمر الذي جيّر ندوته لنقاش عناوين من هذا الصنف: “أعمدة البيت اللبناني”، “الجامعة ورسالتها”، تعمير لبنان بالأنباء والإرشاد”، “في سبيل وحدة اللبنانيين”، “مع الشباب والطلاب”، “تعمير البيت اللبناني”، “لبنان في محافظاته”، “لبنان الغد ومؤسساته الفاعلة”.

يقول جورج نقاش صاحب صاحب مقولة “نفيان لا يصنعان وطناً” بعد تحوله إلى منظّر “الشهابية” الأول إنه “خلال أربعة أعوام عمل فؤاد شهاب على تحويل هذه المجموعة العشائرية التي إسمها لبنان، إلى دولة إنسانية وإجتماعية”.

المقصود بالعشائرية الجماعات الطوائفية أو الطائفية كما يذهب أهل اللغة تفضيلاً وتعليلاً، وهنا يتجه القول حصراً إلى أصحاب فكرة الوطن اللبناني، وهم المسيحيون على الأغلب، وعما إذا كانت لديهم قابلية الإبتكار لإعادة إنتاج لبنان الذي يكاد يهوي وتذهب ريحه، وذلك بعيداً عن الفيدرالية وغيرها من طروحات الإحباط والقنوط.

قبل الختام؛ لا بد من فؤاد شهاب:

في مقدمة كتاب “جمهورية فؤاد شهاب” لنقولا ناصيف، يقول وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس “إن شهاب سأله إذا كان يعرف سياسياً لبنانياً آثر مصلحة البلاد على مصلحته، وحين أجاب فؤاد بطرس بالنفي، هزّ فؤاد شهاب رأسه واستغرق في صمت عميق”.

في الختام؛ عودة إلى نزار قباني:

في لبنان، يُكثر السياسيون، ومنهم المسيحيون، الحديث عن “حقوق الطوائف”، وهذا مصطلح تعبوي يقصدون به مصالحهم وصلاحياتهم، وهذا ما يجعل الطوائف اللبنانية أوطاناً قائمة بذاتها، تتهادن مؤقتاً وتتحارب دائماً، وكأنها تتسابق إلى نعي وطن كان ذهبياً ذات يوم.

هل حان آوان تغيير عنوان قصيدة نزار قباني ليصبح: متى يعلنون وفاة لبنان؟

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  بكركي وحزب الله وعشْق "القمصان السود"!