وصلنا إلى النّقطة ما-قبل-المنهجيّة (أي الأنطولوجيّة والأبستيمولوجيّة) الأخيرة قبل الغوص في المسائل المنهجيّة البحتة. وهذه النّقطة، المفصليّة في سبيل فهم طرحنا العام، هي حول الفوارق بين تموضعاتنا من جهة وبين تموضعات مشروعَي نقد العَقلين العربي و/أو الإسلامي (أو نقد العقل العربي-الإسلامي) عند المفكّرَين المؤَسِّسَين المعاصرَين: محمد عابد الجابري (مشروع “نقد العقل العربي”، ت. ٢٠١٠ م.) ومحمّد أركون (مشروع “نقد العقل الإسلامي”، ت. ٢٠١٠ م.) من جهة ثانية. ونحن نشدّد هنا على هذين الاسمَين لسبب واضح وجَلي، وهو أنّهما يُعتبران عادةً صاحبَي المشروعين الأكاديميّين (أي ضمن الإطار الجامعي-العلمي) المؤسّسَين والرّائدَين، كما الأكثر إثارة للجدل والنّقاش، في ما يخص محاولات “النّقد” المعاصرة.
ولنا عودةٌ إليهما بشكل مفصّل في الأجزاء اللاحقة بالطّبع. لكن من الضروري هنا توضيح الفوارق العامّة بين مشروعنا وبين هذين المشروعَين الضّخمين في هذا المجال، لا سيّما على المستوى الأبستيمولوجي في خطوطه العريضة. فقد يُقال لنا: لماذا العودة إلى نقد “عقلٍ” سبقَ ونُقد؟ وما الفرق تحديداً بين مقاربتكم ومقاربتَي الجابري وأركون؟ وبمعزل عن عدم اكتمال مشروعَي الرّجلين بطبيعة الحال، وعن ضرورة إكمال عملَيهما المؤثّرَين إلى حدّ بعيد.. فإنّ الطّرح الذي نُقدّمه يتميّز عنهما على عدّة مستويات أساسيّة، يمكن اختصارها، عند هذا الحد، بالأفكار التّالية:
أوّلاً؛ كما يمكن الملاحظة ممّا سبق من عرضٍ حتّى الآن، فقد انطلقنا من تفكير فلسفي حول ما يُمكن تسميته بـ”ملكة التأويل لدى العقل الإنساني” أو بـ”وظيفة التأويل داخل العقل الإنساني”، مستعينين بأدوات الثورة النّقديّة المُتعالية التي قام بها عمانوئيل كانط. لقد انطلقنا إذن من سؤال ذي طبيعة أو ميول “مُتعالِية” على طريقة تعبير كانط: ماذا يمكن للعقل الإنساني أن يؤوّل؟ ثمّ، طبّقنا هذا التّفكير على التراث الإسلامي، وقد استعرنا تسمية تبسيطية هي “نقد العقل الإسلامي التأويلي الطّابع”. لكن، في الحقيقية، كما أشرنا: نحن نقوم بنقد العقل التأويلي بشكل عام، وليس فقط العقل الإسلامي، وإن طبّقنا تفكيرنا على التراث الإسلامي بشكل خاص، بهدف الإجابة على أسئلة الدّراسة.
الجابري لا يقوم بنقد العقل (أو بعض مكوّناته وملكاته ووظائفه) بشكل عام ثم يطبّق النتائج على الظاهرة الخاصّة.. بل هو ببساطة يركّز على الآليات التي يتّبعها المسلمون (لا سيّما نخبهم) في اكتساب المعرفة
إذن، يختلف طرحنا بالتأكيد عن الطّرحين المذكورين بسبب انطلاقه من تفكير ذي طبيعة (أو ميول) متعالية (بالمعنى الكانطي): إذ أنّنا نتساءل، أولاً، ماذا يمكن للعقل أن يؤوّل؟ قبل أن نتساءل عن العقل العربي-الإسلامي كـ”ظاهرة” تاريخية أو دينيّة أو اجتماعية أو ثقافيّة إلخ.
إنّ الغوص في أعمال الجابري وأركون يُظهر أنّ الباحثَين المذكورَين قد تعاملا، فوق كلّ شيء، مع “ظاهرة” تاريخية ونصّيّة (واجتماعية وثقافيّة إلخ.) هي “العقل العربي و/أو الإسلامي”، ولم يلامسا جانب النقد المتعالي “للعقل التأويلي” في ذاته إلا نادراً. ونحن نعتبر أنّ الغوص في “الظاهرة” من غير المرور بالنّقد المتعالي للعقل الذي يؤوّل ويبني المفاهيم، مشكلة تتسبّب بنواقص متعدّدة، عدا عن إدخالها الباحثَين في أفخاخ أبستيمولوجيّة وأيديولوجيّة عديدة كما سنرى.
فحَول المقصود من مشروع “نقد العقل الإسلامي”، يجيب محمد أركون سائله هاشم صالح بما يلي:
“أقصد [بهذا المشروع] إعادة تقييم نقدي شامل لكلّ الموروث الإسلامي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم. ولكن لكي لا يخيفك المشروع سوف أقول بأني أميّز بين ثلاث أو أربع مراحل أساسية: ١) مرحلة القرآن والتشكيل الأوّلي للفكر الإسلامي؛ ٢) مرحلة العصر الكلاسيكي (..)؛ ٣) مرحلة العصر السكولاستيكي (..)؛ ٤) مرحلة النهضة في القرن التاسع عشر وحتى الخمسينيات من هذا القرن [أي القرن العشرين]. (..) لكن دعنا نتوقّف عند المراحل الثلاث الأولى لأنّها هي المراحل التي تأسس فيها العقل الإسلامي وتبلوَرَ وترسّخ”[1].
هل يمكن الحديث عن تطابق، عند هذا المستوى المعرفي، بين زاوية مقاربتنا لنقد العقل (“الإسلامي فقط بين هلالَين”) التأويلي الطابع، وزاوية مقاربة محمد أركون لنقد ما يسمّيه بالعقل الإسلامي كما يصفه في هذا المقطع الأساسي؟ الجواب عندنا هو بالنّفي طبعا، لأنّ هدف أركون هو نقد العقل الإسلامي بما هو “ظاهرة” في العالم الخارجي قبل أي شيء، وهدفنا هو نقده، أولاً، بما هو مَلَكة إنسانيّة مُتعالِية مطبّقة على التراث الإسلامي (وهذا الأخير هو ضمن “الواقع الخارجي” بدوره طبعاً).
وتشير الباحثة اللبنانية المتخصّصة والمتبحّرة في أعمال الرّجُلين، نايلة أبي نادر، إلى أنّ:
“(..) أبرز ما يفصل مشروع أركون عن مشروع الجابري هو التصنيف الثلاثي للعقل العربي الذي توقّف عنده هذا الأخير. إنّ الحفر الأركيولوجي الذي مارسه الجابري أظهر ثلاثة نماذج يتميز الواحد عن الآخر [منها] انطلاقًا من الآليات المتّبعة في اكتساب المعرفة. إنّ تعاطيه مع موضوع بحثه من زاوية الأبستيمولوجيا حتّم عليه أن يتحدث عن النظام البياني الذي يستند إلى الدلالة اللغوية والقياس غير البرهاني، وعن النظام العرفاني الذي هو تعبير عن كشف الحقيقة انطلاقًا من روابط لاعقلانية، والنظام البرهاني القائم على القياس الأرسطي الذي يفيد اليقين”[2].
نلاحظ هنا أيضا أنّ الجابري يقوم بحفر “أركيولوجي” في طبقات العقل العربي، أي أنّه يتعامل معه كظاهرة (فريدة بالمعنى التاريخي كما يعبّر ماكس فيبر وأتباعه)، أي أنه ينقد الظاهرة، لا ملكة-وظيفة التأويل نفسَها كما أسلفنا. ثمّ إنّ محمد عابد الجابري، وإن تحدّث عن منهج يسميه بالأبستيمولوجي، إلا أنه (أي هذا المنهج) من المستوى ما دون المتعالي إذا صحّ التعبير. فهو، مجددا، لا يقوم بنقد العقل (أو بعض مكوّناته وملكاته ووظائفه) بشكل عام ثم يطبّق النتائج على الظاهرة الخاصّة.. بل هو ببساطة[3] يركّز على الآليات التي يتّبعها المسلمون (لا سيّما نخبهم) في اكتساب المعرفة.
وأخيراً وليس آخراً، فإنّ تصنيفه الثلاثي المشهور (البيان، العرفان، البرهان[4]) هو تقسيم للعقل العربي، أيضاً، كظاهرة فريدة. وتشير نايلة أبي نادر، مثبّتة فكرتنا بما لا يقبل الشكّ:
“إنّ اطلاعنا على العديد من الدراسات والمقالات التي نشرت حول مشروع نقد العقل العربي الإسلامي عند أركون ونقد العقل العربي عند الجابري (..). [سمح ذلك للباحثة أن تصل إلى النتيجة التالية:] (..) إنّ التخلّي عن هاتين الصّفتين [أي العربي و/أو الإسلامي] من أجل التفرّغ لنقد العقل المحض أمر لم يشأ أيّ منهما القيام به”[5].
يمكن للقارئ أن يصل إلى فكرتنا بسهولة، خصوصا بعد الاطلاع على هذه المقاطع التوضيحية: إنّنا نقوم بنقد العقل التأويلي أولًا، ثمّ نطبّق ذلك على التراث الإسلامي (أو على ظاهرة العقل العربي-الإسلامي كما يحب الجابريون والأركونيون تسميته)؛ في حين أنّ الجابري وأركون ينكبّان خصوصاً على نقد العقل العربي-الإسلامي (وآلياته في اكتساب المعرفة وفي التأويل وفي التجلي في السلوكيات الاجتماعية وما إلى ذلك).. لكن كظاهرة معيّنة وفريدة. لا داعي برأينا للغوص في تفاصيل أكثر حول هذه النّقطة. لذلك، نكتفي فقط بالتذكير بالعنوان الذي اتخذناه لمشروعنا: “نقد العقل الإسلامي التأويلي الطّابع” (أو “نقد العقل التأويلي مع تطبيقه على التراث/الفكر الإسلامي“). ونضيف بأنّنا لا نقبل اللفّ والدّوران في ما يخص الموضوع والعنوان: إذ نهتم، بما لا يقبل الشك، بالتراث الإسلامي ككلّ (وليس فقط التراث العربي أو الفارسي أو التركي أو الأندونيسي أو..).
هدف أركون هو نقد العقل الإسلامي بما هو “ظاهرة” في العالم الخارجي قبل أي شيء، وهدفنا هو نقده، أولاً، بما هو مَلَكة إنسانيّة مُتعالِية مطبّقة على التراث الإسلامي (وهذا الأخير هو ضمن “الواقع الخارجي” بدوره طبعاً)
ثانياً؛ كما سبق وأشرنا، فإنّ بحثاً يريد أن يكون علميّاً بالفعل، خصوصاً في مواضيع حسّاسة على المستوى العقائدي والقيَمي، برأينا: لا بدّ من أن يقدّم تموضعاً واضحاً ودقيقاً (قدر الإمكان) وصريحاً، على المستوى الأنطولوجي (الوجودي) والأبستيمولوجي (المعرفي) والميتودولوجي (المنهجي)[6]. وقد سبق وتحدّثنا حول هذه النّقاط مع بعض من التّفصيل. فهل التموضع الثلاثي الأبعاد هذا واضحٌ في عمل الجابري وفي عمل أركون؟
برأينا المتواضع، الجواب هو بالنّفي، خصوصا على المستويين الأوّلين (أي الوجودي والمعرفي)، برغم استعمال الباحثَين مصطلحات قريبة من الأسئلة التي يثيرها هذا التّموضع (كالأنطولوجيا والأبستيمولوجيا وما إلى ذلك). بل إنّنا نلاحظ تداخل البحث العلمي مع الموقف الأيديولوجي في كثير من الأحيان، عند الرّجلين، كما تبيّنه الدّراسة المتميّزة للباحثة اللبنانيّة نايلة أبي نادر وفي جوانب متعدّدة[7]. هذا بالإضافة إلى تأثّر الرّجلين، بنسب متفاوتة وبطرق متنوّعة، بفكر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (ت. ١٩٨٤) على ما يبدو[8] وبمفهوم الـ”الأبستيمه” عنده. وإنّه طبعا لإطارٌ معرفي كان ذا تأثير كبير في الثقافة الفرنسيّة لا سيّما في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، إلى جانب عموم تيّار ما-بعد-الحداثة. لكنّه بلا شكّ عالم مشوّش أبستيمولوجيّا بالنّسبة إلى الفلسفة المتعالية الكانطيّة: لأنّنا نرى أنفسنا، في أحيان كثيرة، نخلط الذاتي والموضوعي، والوعي واللاوعي.. ونخرج من إطار التقسيمات الدّقيقة للملكات والمقولات والقواعد المتعالية. وهذا لا يعني أنّ كاتب هذا السّطور ذو نزعة وضعية متطرّفة (سبق وحدّدنا هذه النّقاط)، بل إنّه اتّخذ قراراً بحثيا مفاده أنّ التّموضع الكانطي والفيبري (من ماكس فيبر) والبوبري (من كارل بوبّر) هو الأنسب لأبحاث كهذه.
من هنا، نجدّد التشديد على أنّ هذه الإشكاليّات مردّها إلى عدم التوقّف بما يكفي عند التموضع الثلاثي الأبعاد الذي تحدّثنا عنه. وقد يكون استعمال مفاهيم فوكو وغيره منتجًا ومثمرًا.. لكن، برأينا، لا يمكن أن يأتي إلا بعد الوصول إلى تموضع وجودي-معرفي شديد الدّقة، وبعد القيام، بالتالي، بنقد معمّق لما سمّيناه بـ”ملكة التأويل” بسبب طبيعة التراث الإسلامي كما سبق.
ثالثاً؛ نصل إلى نقطة أكثر قرباً من الزاوية المنهجيّة. إذ أنّنا، انطلاقا مما سبق ذكره، نقدّم طرحاً منهجيّاً عامّاً، هو معنيّ بدوره بتقديم طريقة عامّة لبناء المفاهيم انطلاقاً من النصوص (راجع الأجزاء السّابقة). وقد سبق وأشرنا إلى فرضيّتنا القائلة بتعذّر الوصول، في أي عملية تأويل بالمعنى المختار، إلى أبعد من “بناء مفاهيم” حول المعنى موضوع البحث. إنّنا، إذا صحّ التعبير، نقترح إذن منهجيّة عامّة ذات طبيعة متعالية أيضاً. فهي تتدخّل: “فيما قبل” الوصول إلى تدخّل الأدوات الجابريّة (لا سيّما الأداة التي يسمّيها بالأبستيمولوجية – غير المتعالية بلا شك – والتحاليل التي يسميها بالبنيوية والتاريخية والأيديولوجية)، والأدوات الأركونيّة (أدوات العلوم الاجتماعية والإنسانية على اختلافها، لا سيّما، على سبيل المثال: التحليل الألسني والتحليل السيميائي والتحليل الأنثروبولوجي إلخ.).
إنّ منهجيّتنا تهتم بشكل خاص باقتراح طريقة لبناء المفاهيم، انطلاقاً من الجهد الكانطي المؤسّس، واستناداً إلى نظرة ماكس فيبر حول “النموذج-المثالي” ومحمد باقر الصّدر حول “المفاهيم الإسلاميّة”[9]. فالباحث الذي يتبنّى منهجيّتنا المقترحة، قد يستخدم بعض الأدوات الجابريّة والأركونيّة المذكورة، لكن في مرحلة ثانية: أي بعد تبنّي المنهجيّة العامّة المقترحة للتأويل وبناء المفاهيم، والمفصّلة، بالتّدرّج المدروس، في ما سيلي من فقرات وأجزاء.
الّتموضع ما-بعد-الوضعي المطوّر
ناقشنا حتى الآن: موضوع البحث، والأسئلة البحثيّة، وسياق العمليّة البحثية وأهميّة المشروع البحثي. ومن ثمّ، فقد غصنا في نقاش التّموضع الثلاثي الأبعاد: الأنطولوجي – الأبستيمولوجي – الميتودولوجي، خصوصاً البعدَين الأوّلَين منه. وقد تحدّثنا بشكل خاص عن الثورة النّقديّة الكانطيّة (المتعالية)، مبيّنين تأثيرها الكبير جدّا في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني، ومبيّنين كذلك طبيعتها المتعالية بالنسبة إلى عناوين محمد عابد الجابري ومحمد أركون حول “نقد العقل العربي-الإسلامي”. ثمّ تطرّقنا إلى مفهوم العقل، قبل الحديث عن تعاريف الموضوعيّة في البحث، والمعنى المعتمد للفهم والتأويل.
ثمّ طرحنا المعالم الأساسيّة للثورة الكانطيّة المقترحة في ما يخصّ الفكر الإسلامي، ومن ضمنها الفرضيّات الكبرى المؤسّسة لثورة معرفيّة مفترضة كهذه. ثمّ شدّدنا على أهميّة عمليّة “بناء المفهوم” بما هو تصوّر ذهني-عقلي عن المعنى في نظريّة منهجيّة كنظريّتنا (المستوحاة من المدرسة الكانطيّة وبنتِها الفيبيريّة في علوم الاجتماع، أي من ماكس فيبر كما سيلي).
وأنهينا النّقاش بمقارنة حول أهم نقاط الفرق بين مقاربتنا المعرفيّة ومقاربتَي الجابري وأركون المعرفيّتين، خصوصا على المستوى المتعالِي، واصلين إلى التسمية المقترحة التّالية لمشروعنا قيد النّقاش: مشروع “نقد العقل الإسلامي التأويلي الطّابع”، أو مشروع “نقد العقل التأويلي مطبّقا على التّراث الإسلامي”. وقد شدّدنا طوال حديثنا على تأثّر هذه الدّراسة، طبعا، بالثورة التي قام بها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (ت. ١٨٠٤ م.)، وبالتالي، بفلسفة بناء المفاهيم (وقد نشرنا كتاباً حول تقديم عمليّة بناء المفاهيم هذه: بين ماكس فيبر ومحمد باقر الصّدر؛ تمّت الإشارة إليه في ما سبق).
تموضعنا المعرفي في هذا الدّراسة: بوبريّ، لكنه مطوّر بالفعل، إذ نأخذ مجدّداً باحتياطات المدرسة التأويلية-الفيبرية الأساسية، ونبقى قدر الإمكان ضمن “مناطق الفراغ” المتاحة في كتاب إقتصادنا، خصوصا عند التّعامل مع النّصوص الفقهيّة الطّابع
وبالتالي، نصل إلى النّقطة التي يتوجّب علينا عندها، برأينا، التّبسيط والاختصار في إعلان التموضعين الأنطولوجي والأبستيمولوجي، قبل الإنطلاق بحريّة إلى ساحة التموضع الميتودولوجي (أي المنهجي البحت). وانطلاقاً ممّا سبق، خصوصا موقفنا النّقدي في ما خصّ إمكانية معرفة الواقع الخارجي من خلال “العقل المفكّر” (أو إمكانية معرفة الأشياء في ذواتها من خلاله أيضاً) مع اعترافنا بحقيقية هذا الواقع:
فقد ارتأينا أنّ خير تموضعٍ بحثيّ أنطولوجي-أبستيمولوجي لدراستنا (وهو يسمح بوضعها بلا شك ضمن إطار الأبحاث الأكاديميّة المعاصرة)، هو: “الّتموضع ما-بعد-الوضعي المطوّر”، أي على مذهب الفيلسوف كارل بوبر (ت. ١٩٩٤ م) لكن مع تطويره بما يتلاءم مع موضوع ومعطيات البحث. لقد قام كارل بوبر بثورة نقديّة معرفيّة إضافيّة عندما نقد المدارس الوضعيّة على اختلافها، وتموضعه يتوافق بلا شكّ مع نقدنا قيد النّقاش:
باختصار، وكما سنرى بتفصيل أكبر في الفصول التالية، فإنّ تموضع هذا البحث هو تموضع ما-بعد-وضعي مطوّر بما يتناسب مع طبيعته ومعطياته، وقد بدأنا (بوضع قواعده في أطروحتنا للدكتوراه من جامعة باريس). أي أنه يندرج في إطار التموضع البوبري (من الفيلسوف كارل بوبر؛ راجع: كالمرز، ١٩٨٧[10]) القائم على ركيزتين أساسيتين:
(١) يمكن اعتبار أن نظرية ما هي علمية، بشرط أن يكون من الممكن دحضها (أو نفيها؛ La réfutabilité)؛ (٢) إن أي نظرية لم يتم دحضها بعد، هي نظرية مؤيَّدة بدلا من أن تكون صحيحة أو مثبتة أو مؤكدة (La corroboration؛ (..)).
وهذا التموضع ما-بعد-الوضعي هو مطوّر، كما أشرنا: بسبب طبيعة الموضوع والمعطيات، التي تجبرنا على الأخذ ببعض الاحتياطات المعرفية، وهذا ما يوصلنا إلى تتمّة هذا الحديث المستخرج من أبو حمدان (٢٠٢١ [٢٠٢٢])[11]:
لذلك فقد طورناه من خلال الأخذ بمفهومين رئيسيين عند العالم الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (..)، وذلك عند التعامل مع محاولة فهم التفكير النظري الممكن للفقهاء المسلمين خلف أقوالهم-أحكامهم. لذلك، يمكن القول إن هذا التموضع يندرج ضمن فلسفة اندماجية غير إقصائية بين العلوم الحديثة من جهة، وبين العلوم الإسلامية من جهة أخرى (..)[12].
ندخل هنا بشكل واضح في علاقة مباشرة مع التفكير الأبستيمولوجي الفيبيري، ذي النّزعة الكانطيّة بلا شك: فهو تفكير متأثر بنقد كانط المتعالي من جهة؛ ومن جهة أخرى، هو يريد أن يتعامل مع المعتقدات والقيَم مع بقائه ضمن إطار الموضوعيّة كما عرّفناها:
أما المفهومان الفيبريان المذكوران فهما: الحياد الأكسيولوجي (La neutralité axiologique) والعلاقة مع القيم (Le rapport aux valeurs) كما ترجمناهما عن الترجمة الفرنسية للمتخصصَين المعروفَين جوليان فرويند وريموند آرون. باختصار، يوجب المفهوم الأول على الباحث أن يظل، في كل مراحل البحث، محافظًا على الحياد من وجهة نظر المسلمات والمعتقدات والإيمانيات. وعليه أن يثبت ذلك على الدوام، وأن يتمكن من أن يدافع عن حياديته في أي وقت. في حين ينبهه الثاني أنه في موقع التعامل العلمي مع القِيم، مانعاً إياه من الدخول في فخ “الحُكم القيمي” (Jugement de valeur)[13].
إذن، فتموضعنا المعرفي في هذا الدّراسة: بوبريّ، لكنه مطوّر بالفعل، إذ نأخذ مجدّداً باحتياطات المدرسة التأويلية-الفيبرية الأساسية، ونبقى قدر الإمكان ضمن “مناطق الفراغ” المتاحة في كتاب إقتصادنا، خصوصا عند التّعامل مع النّصوص الفقهيّة الطّابع.
نأمل عند هذا الحدّ أن يكون عرضنا لهذه الأفكار الفلسفيّة – لكن الضّروريّة – قد اكتمل ووفّى: من مواقفنا الأنطولوجية ونقدنا الأبستيمولوجي، إلى التعريفات الأساسيّة، إلى التموضع المعرفي-الأكاديمي المعاصِر. من هنا، نعتبر أنّه يمكننا الآن الولوج في الطّرح المنهجي، بعد أن فهمنا موضوع البحث، وسياقه، وتموضعاته: من عمانوئيل كانط إلى الفلسفة الإسلامية إلى كارل بوبر.. إلى ماكس فيبر. (يتبع)
المصادر والمراجع:
[1] أركون، محمد، ٢٠٠٩، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط.٤، بيروت: دار الطّليعة، ص. ٢٨٣.
[2] أبي نادر، نايلة، ٢٠٠٨، التراث والمنهج بين أركون والجابري، ط.١، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص. ٤٧٧. عن هذا “اليقين”، المتشابه طبعا بالنسبة إلى البعض، نحيل إلى الجزء السّابق ومسائل المكاشفة والمشاهدة والحقائق بما “هيَ هيَ”.
[3] نقول “ببساطة” لا للتّقليل من شأن العمل الكبير للجابري (وأركون) بل لتمييز هذا الجهد عن الجهد ذي الطّبيعة أو الميول المتعالية كما سمّيناه.
[4] لاحظ الشبه الغريب مع ثلاثيّة ملّا صدا الشيرازي المعرفيّة: (القرآن، العرفان، البرهان). قد نعود إلى هذا الشّبه لاحقا.
[5] مصدر سابق، ص. ٤٧٥.
[6] راجع مقدّمة كتابنا حول “بناء المفاهيم في الإسلاميّات” (أبو حمدان، ٢٠٢١ [٢٠٢٢]، مصدر مذكور)، كما والفصل الأوّل منه.
[7] أبي نادر، نايلة، ٢٠٠٨، مصدر مذكور. ننصح بقراءة القسم الثالث (ص. ٤٤٩-٥١٠) حيث يتبين البعد الأيديولوجي في مواضع عديدة، لا سيّما عند الجابري.
[8] راجع مثلا: أبي نادر، نايلة، مصدر سابق، ص. ٤٧٩-٤٨٢. إنّ تموضعنا ضمن مدرسة كارل بوبّر كما سيلي يحلّ برأينا كثيرا من هذه العقد.
[9] راجع: أبو حمدان، ٢٠٢١ [٢٠٢٢]، مصدر مذكور.
[10] كالمرز، أ.، ١٩٨٧، [مدخل إلى الدحضية (أو التزييف)]، في كالمرز، أ.، ما هو العلم؟، باريس: لا ديكوفيرت، ص. ٧٣-٨٩. [Introduction au Falsificationnisme]
[11] مصدر مذكور، “المقدّمة”، ص. ١٧ وما يليها.
[12] مصدر سابق.
[13] نحيل، لمزيد من التّفاصيل حول هذا التموضع وهذين المفهومَين، إلى المصدر السابق.