يرد في دراسة الباحثة اللبنانية المتخصّصة والمتبحّرة في أعمال المفكرين محمد أركون ومحمد عابد الجابري نايلة أبي نادر[1] بعنوان “التراث والمنهج بين أركون والجابري” ما يلي:
يشير الزواوي بغورة في هذا السياق إلى أن التحديدات المعرفيّة التي أعطاها أركون للعقل الإسلامي انطلاقا من الفضاء العقلي الذي ساد في القرون الوسطى [هنا تنقل أبي نادر عن بغورة مباشرة]: “تجعل من العقل معطى تاريخيّا، أو تمكّن من الدّراسة التّاريخيّة للعقل، وهو ما يربطه بشكل مباشر بفوكو، وبخاصة عندما يتحدّث عن أشكال العقلانيّة أو أنماط العقلانيّة، ويعتبر نفسه مؤرخا قبل أن يكون فيلسوفا”.
وفي سياق آخر[2]:
تُعتبر العلاقة بين الفكر والمجتمع من أهم إشكاليات الفكر المعاصر، لقد شغلت حيّزاً مهماً من أبحاث أركون في الفكر الإسلامي، وذلك منذ البداية، حين قام بإعداد أطروحة الدكتوراه في الستينيات. لقد استغرق طويلا آنذاك في الاطلاع على معظم مناهج علوم الإنسان والمجتمع التي عرفها الغرب حتى فترة السبعينيات. من هنا جاء تركيزه على المجتمع (…).
وتضيف أبي نادر[3]، عن أركون أيضا:
لذلك يمكن القول بأن كل إنتاج فكري يجب أن يدرس كنتاج “لحقيقة اجتماعية وثقافية كلّيّة”، إذ لا يجوز الفصل ما بين الفكر والمجتمع.
لا حاجة للاستغراق هنا في إثبات التأثّر الكبير لتموضعات ولبعض أدوات محمد أركون البحثية بفلسفة ميشال فوكو. نرى هنا كيف أنّ العقل ذاته قد يصبح في هذا العالم الفلسفي: “ظاهرة تاريخيّة” أو “معطى تاريخيا” كما يشير الزواوي بغورة. من هنا نفهم، بشكل أوضح، كثيرا من نقاط الاختلاف مع طرحنا، والتي تحدّثنا عن عدد منها حتى الآن. هل يسير تاريخ العلم بشكل خطّي وتراكمي عبر الزمن؟ هل ما يصل وعيي اليوم إلى تقبّله على أنّه “معرفة” أو “حقيقة”، كان يمكن لوعي شخص يعيش ضمن نظام عقائدي واجتماعي وثقافي وأنطولوجي مختلف.. أن يتقبّله أيضا على أنّه “معرفة” أو”حقيقة”؟ أيضاً: هل ما “نعرفه” اليوم، حتّى في الدوائر العلميّة، هو حقيقة متعالية وكلّية، لا تتغيّر بتغيّر النظم العقائدية والاجتماعية والثقافيّة (الواعية واللا-واعية) لا سيّما منها غير الموضوعيّة؟
بالطبع، جواب كانط لن يكون كجواب فوكو في المبدأ، لا سيّما إذا ما بقينا ضمن “الذهن-الإدراك المحض” عند الأوّل. إنّ عالم فوكو (وغيره من معاصريه كما سنرى) المعرفي هو عالم مختلف وغريب عن العالم الذي قرّرنا أن نضع طرحنا ضمنه:
من أجل اكتشاف ما فكّر به [أو اعتقد به] قومٌ حقّا في أي عصرٍ محدّد من العصور [والحقب]، ليس محتوى ما قالوه بل كيف قالوه، وانطلاقا من أي افتراضات، هو الذي يعطينا النظرة الثاقبة عن هذا الفكر [أو المعرفة]. نظن أنّ للعلوم حقيقة موضوعيّة، ولكنّ فوكو يصفها على أنّها مجرّد “لغات متقنة الصّنع”[4].
هل يمكن القول إنّنا ضمن تموضع كانطي أو وضعي أو ما-بعد-وضعي كما سبق وشرحنا؟
بالتأكيد إنّ التموضع الذي يتكلّم عنه فوكو مختلف. في علوم الإدارة يسمّى حاليّا، للتبسيط، بمدرسة ما-بعد-الحداثة أو أحيانا بـ”المدرسة البنائيّة” (Le constructivisme)[5]. ليس هناك، مبدئيا: فصل واضح بين الباحث وبين موضوع البحث. تصبح الموضوعيّة ضرباً من الوهم (أو شبه ضرب من الوهم)، وتصبح اللّغة وتحليلها هي الأهم في أغلب الأحيان. أمّا المضمون المفهومي “الموضوعي”، فيتم وضعه في الصفوف الخلفيّة عمليّاً. من هنا نفهم تشديد محمّد أركون على مصطلحات منهجيّة كالتاريخية والألسنيات والسيميائيات والأنثروبولوجيا وما إلى ذلك. بهدف فهم فلسفة أركون بعمق، لا بدّ من فهمٍ معمّق أيضا لفلسفة فوكو، مع التّشديد على اختلاف التموضعات مع تموضعات طرحنا:
كلّ عصرٍ له افتراضات لاشعوريّة [Unconscious assumptions] حول كيفيّة النّظام الموجود في العالم [أو حول النّظام المتحكّم بهذا العالم]، ما يجعل محتوى المعرفة مختلفا جدّا من عصرٍ لآخر[6].
ويضيف بوتلير-باودون[7]:
“الكلمات والأشياء” [١٩٦٦] هو الكتاب الذي جعل من ميشال فوكو مفكّرا مشهورا في فرنسا. بعنوان ثانوي هو “أركيولوجيا لعلوم الإنسان”، هو يهدف إلى إثبات كيف أنّ المعرفة هي منتج ثقافي، مع حقول معرفة مختلفة ليست إلا مجرّد تعبير عن النّظرة المسيطرة إلى العالم.
كلّ “عصر معرفي” (هو الأبستيميه مع التبسيط) يأتي عمليّاً بحقائق مختلفة عن عصر معرفي آخر. المعرفة الصحيحة اليوم ليست بالضرورة المعرفة الصحيحة في عصر أبستيمولوجي آخر
من هنا أهميّة مفهوم “الأبستيميه” الذي كان له التأثير الواضح على أركون (لكن، أيضا، على الجابري، بنسبة مختلفة). فكلّ “عصر معرفي” (هو الأبستيميه مع التبسيط) يأتي عمليّا بحقائق مختلفة عن عصر معرفي آخر. المعرفة الصحيحة اليوم ليست بالضرورة المعرفة الصحيحة في عصر أبستيمولوجي آخر: مثلا، في عصر الغزالي، أو عصر أرسطو، أو عصر الأقويني، أو عصر كانط إلخ. النتائج خطيرة جدّا وعميقة على المستوى المعرفي والمنهجي، ولا تتوقّف عند العلوم الاجتماعية والإنسانية (!) كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الأمريكي طوماس كوهن (ت. ١٩٩٦)[8].
هذا هو إذن عالم أركون وتموضعه الفلسفي-المعرفي الأعمق، ومن خلالهما نفهم الكثير عن مقاربات هذا المفكّر الكبير في ما يخص: “تجديد” الفكر الإسلامي، والمواقف الأيديولوجية الواضحة ولو ضمن البحث، والحقب المعرفيّة، وإنشاء علم لاهوت جديد، وإعادة التأويل، والتاريخية إلخ. وهو بالطّبع عالَم وجودي-معرفي-منهجي عام مختلف عن العالم الذي حدّدناه فيما سبق، ولا يمكن أن يتّفق بالمبدأ مع دقّة النّقد الكانطي المتعالي ومع الحياد الأكسيولوجي ومع الموضوعيّة (بالتّعاريف السالفة الذكر).
إنّ الفكرة الأساسيّة لفوكو هي أنّ عصراً معيناً [كهذا]، أو “إبيستيميه”، عابقٌ بلا-وعي إيجابي [Positive unconscious]، أي نظرة إلى العالم ليس واعيا بها إلى حد بعيد. (…) كلّ أبستيميه هو محتوىً ثقافيّاً ولا “يؤدّي” إلى أبستيميه آخر [خصوصاً: لا يؤدّي إليه بشكل خطّي][9].
من السّهل إذن تخمين السؤال الجوهري (الباطن أو الظاهر) لدى مفكّر متأثّر بفوكو، يتعامل مع التراث الإسلامي (أي كأركون والجابري): هل أبستيميه عصرنا (أي عصر الحداثة أو ما بعده، أو عصر “العقل المنبثق” على حد تعبير أركون) هو نفس أبستيميه عصر نزول الوحي والرسالة المحمّديّة؟ قد يكون تبسيطاً غير مخاطر جدّاً الادعاء: أنّ جلّ مجهود أركون البحثي يتمحور ضمنيا حول الإجابة على هذا السّؤال. نرى بوضوح، مجدّداً: أهميّة تحديد التموضع الثلاثي السالف الذّكر قبل الولوج في أي بحث علمي (أي التموضع: الأنطولوجي-الأبستيمولوجي-الميتودولوجي). ونرى، عند كل مرحلة من النقاش، الفوارق بين التموضعات والمقاربات تظهر بوضوح أكبر. سوف نستمر في ما يلي بعرض موجز لمنهجية أركون (قبل الجابري)، مدخلين ملاحظاتنا عند الحاجة.
لكن، فلنتوقّف هنا، بهدف الدّقّة، عند تعريف عربي لمصطلح “الأبستيميه” (قارن مع مصطلح الـ”باراديغم” عند طوماس كوهن):
[هو] نظام الفكر، أي معظم المسلّمات الضمنيّة التي تتحكّم بمجمل ما يُنتجه الفكر خلال فترة زمنية محدّدة، وذلك بشكل مخفيّ، من دون أن تبرز بوضوح. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ ميشيل فوكو قد بلور هذا المفهوم.
أركون: كل إنتاج فكري يجب أن يدرس كنتاج “لحقيقة اجتماعية وثقافية كلّيّة”، إذ لا يجوز الفصل ما بين الفكر والمجتمع
يذكّر الجابري [أيضا] أنّ هذا المفهوم قد بلوره فوكو، ويحدّده على أنّه “النظام المعرفي في ثقافةٍ ما”، وهو الذي يعطي المعرفة في فترة تاريخية ما “بُنيتها اللاشعوريّة”[10].
فمثلاً (مع التبسيط المقصود): قد يكون فهم فكرة التوحيد (بمصطلحنا: مفهوم التوحيد) في حقبة ما (مثلاً: الحقبة الإغريقيّة المتأخّرة التي ولدت في كنفها فكرة الثالوث المقدّس) مختلفاً عن فهمه في حقب أخرى (مثلاً: الحقبة الإسلاميّة الأولى في الجزيرة العربية التي ولدت في كنفها جذور صورة التوحيد عند علماء الكلام الأوائل؛ أو الحقبة السلجوقيّة-الأيّوبية التي عاش أيامها محي الدين ابن عربي صاحب نظرية وحدة الوجود)؛ وهذا الاختلاف ليس فقط لأسباب “تجريبية” إذا صح التعبير، أو “عقلانية” بحتة. بل، خصوصاً، بسبب تغيّر المعتقدات-المعارف الضّمنيّة اللاشعوريّة المسيطرة بين حقبة وأخرى (أو “المسلّمات الضمنيّة التي تتحكّم بمجمل ما ينتجه الفكر” خلالها).
كذلك الأمر، قد يُفهم التوحيد اليوم على أساس مكتشفات الفيزياء الكمّيّة كما في أعمال دافيد بووهم (ت. ١٩٩٢ م.). المهم، الأبستيميه هو النّظام المعرفي ضمن ثقافة ما، و”ما يمكن أن نعرفه” ليس مجرّد قضيّة موضوعيّةٍ وعقلٍ محض في مقابل التّجربة. إنّها قضيّة أكثر تعقيدا، تدخل فيها المسلمات والعقائد اللاشعوريّة واللا-واعية – المسيطرة في حقبة ما – أيضاً. فما يدريك، لعلّ قفزة أبستيميّة (على حد تعبير كوهن) قد تجعل من قانون الجاذبيّة، يوماً من الأيّام، خدعة معرفيّة قد وقعنا فيها بسبب تعلّقنا بنظامنا المعرفي الحالي؟
بالطّبع، كلّها تساؤلات وأفكار فلسفيّة-معرفيّة شديدة الأهمّيّة[11]. لكن لا يمكن للتّفكير الكانطي والوضعي وحتى البووبري أن يقبل بما سبق من دون نقد عميق، على الأقل على المستوى المنهجي-العملي. هل تتغيّر الإجابة على سؤال كانط الأبستيمولوجي: “ماذا يمكنني أن أعرف؟” بتغيّر الحقبة المعرفيّة؟ بالطّبع، من الصّعب تصوّر ذلك، حتّى عند فيبر الذي يعتمد تعريف كانط للموضوعيّة كما أشرنا.
يجب النّظر إلى طرحنا على أنّه طرح لمنهجيّة تبتغي مقابلة “العقل المفكّر” (العالمي-الكوني وذي القوانين الكلّيّة) مع المعطيات النّصيّة. ربّما هي برودة وصرامة الفكر الألماني الذي نعتمد عليه إلى حدّ بعيد: لكن، أمام موضوع حسّاس كموضوع تأويل الخطاب والنّصوص، لا بدّ، برأينا، من توخّي الحذر الشّديد في ما يخص التموضعات الثلاثة ((١) ما هي نظرتنا إلى الوجود وطبيعته؟ (٢) ما هي نظرتنا إلى حدود العقل؟/ما هي نظرتنا إلى العلاقة ما بين الباحث وموضع البحث؟/ما هي نظرتنا إلى الموضوعيّة إلخ.؟ (٣) ما هي منهجيّتنا؟). والمنطلقات الكانطيّة والفيبريّة حول بناء المفاهيم هي الأنسب برأينا، لتوخي الحذر العلمي من جهة، ولتبني تموضع ثلاثي الأبعاد يكون متماسكاً وصلباً ومناسباً.
بالطبع، إنّ منهجيّتنا تتقبّل فكرة تغيّر التأويلات المستقراة بتغيّر الزمان والمكان والسياق التاريخي-الاجتماعي-الثقافي (وربما أيضاً الاقتصادي)، لكن ليس بسبب تغيّر المعاني في ذواتها، ولا بسبب تغيّر المعتقدات الضّمنية و/أو اللا-شعوريّة للباحثين: وإنّما، قبل أي شيء، بسبب التغيّرات “الموضوعيّة” في الواقع الخارجي.. وفي الاكتشافات العلميّة “الموضوعيّة” أيضا.. ولنا عودة إلى هذه النّقاط بالطبع. (يتبع)
المصادر والمراجع:
[1] أبي نادر، نايلة، ٢٠٠٨، التراث والمنهج بين أركون والجابري، ط.١، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص. ٤٨٢.
[2] مصدر سابق، ص. ٨٢.
[3] مصدر سابق، ص. ٨٢.
[4] بوتلير-باودون، توم، ٢٠١٧، [خمسون عملا فلسفيّا كلاسيكيّا]، لندن-بوسطن: نيكولاس برييليه، ص. ١٠٨.
[5] بيريه، ف.، سيفيل، م.، ٢٠٠٣، [الأسس الأبستيمولوجيّة للبحث]، في تييتار، ر.أ.، ومن معها، [طرق البحث في علم الإدارة]، باريس: دينو (بالفرنسية).
[6] بوتلر-باودون، توم، ٢٠١٧، مصدر مذكور، ص. ١٠٤. إنّه مختصر مختصرات الكاتب حول فلسفة فوكو.
[7] مصدر سابق. ص. ١٠٥.
[8] مصدر سابق، ص. ١٧٢.
[9] مصدر سابق، ص. ١٠٥.
[10] أبي نادر، نايلة، ٢٠٠٨، مصدر مذكور، ص. ٥٦٠.
[11] أفرد الزواوي بغورة دراسة كاملة حول تأثير فوكو على محمد أركون والجابري وغيرهما من العرب المعاصرين: بغورة، الزواوي، ٢٠٠١، ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر: محمد عابد الجابري، محمد أركون، فتحي التريكي، مطاع صفدي، بيروت: دار الطليعة.