ليس بالإقتصاد وحده تتفوق الصين على أمريكا

يكره الأمريكيون المركز الثانى ولا يقبلون إلا بالمركز الأول، وتُغذّى الثقافة الأمريكية هذا المفهوم. وكان من الذكاء أن يستعير الرئيس دونالد ترامب عبارة «أمريكا أولا» ويمنحها رحيقا ترامبيا خاصا به، مما جعلها عنصرا مهما أسهم فى انتخابه قبل أكثر من 6 سنوات.

دفع فشل الولايات المتحدة فى التعامل مع تفشى وانتشار فيروس «كوفيدــ 19»، وما تبعه من أزمة اقتصادية وتضخم كبير، ووفاة ما يزيد على 800 ألف أمريكى، إلى طرح سؤال واجب حول ما إذا كانت أمريكا قادرة على قيادة العالم فى ظل الصعود الصينى السريع والحتمى من ناحية، وفى ظل ما تواجهه من استقطاب وانقسام مجتمعى غير مسبوق من ناحية أخرى.
لكن كيف وصلت أمريكا لهذه الدرجة من الشك الذاتى فى قدرتها والنظر بقلق للصين؟
لا توجد إجابة نموذجية عن هذا السؤال الذى يشغل أذهان علماء السياسة وخبراء الاقتصاد ويربك رؤية المؤرخين.

***

بداية منطقية للفهم تتمثل فى مقارنة الدولتين من عدة نقاط أساسية، منها أن مقابل كل مواطن أمريكى واحد يوجد 4.5 مواطن صينى، إذ اقترب عدد سكان أمريكا من 330 مليون نسمة (4.3% من سكان العالم)، واقتربت الصين من 1.4 مليار شخص (18% من سكان العالم)، وبلغ حجم الاقتصاد الأمريكى العام الماضى 21.4 تريليون دولار فى حين بلغ نظيره الصينى 14.2 تريليون دولار، وبلغ متوسط دخل المواطن الأمريكى من الناتج القومى 64 ألف دولار، وبلغ مثيله الصينى أقل من 10 آلاف دولار.
والعلاقة بين الدولتين كثيفة وشديدة التعقيد، وتظهر كثافة العلاقات بين الدولتين، قبل تفشى فيروس كورونا، فى أكثر من 80 رحلة طيران يومية مباشرة بلا توقف بين المدن الرئيسية فى الدولتين، كما يوجد 4 ملايين مواطن أمريكى أصولهم صينية، ويدرس فى الجامعات الأمريكية 360 ألف طالب صينى أكثر من نصفهم طلبة ماجستير ودكتوراه يدرسون موضوعات العلوم التقليدية مثل الأحياء والفيزياء والكيمياء، ويدرسون أيضا العلوم الحديثة مثل الكيمياء الحيوية والفيزياء العضوية، والخلايا والاستنساخ، هذا بالإضافة لموضوعات التكنولوجيا والحاسوب والرياضيات. أما حجم التجارة بينهما فقد بلغ العام الماضى 559 مليار دولار منها 452 مليارا صادرات صينية مقابل 107 مليارات صادرات أمريكية.

أزاحت الصين الولايات المتحدة خلال عام 2019 عن عرش أكبر مصدر لطلبات تسجيل البراءات فى العالم للمرة الأولى منذ إقامة تلك المنظومة قبل أكثر من 40 عاما. ويعد ذلك سببا قويا للقلق الأمريكى، حيث تتعلق اللعبة الكبرى بين الدولتين «بمعركة السيادة الرقمية»

وتاريخيا، مثّل عام 2001 عاما فارقا فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، فى الوقت الذى عرفت فيه أمريكا هجمات 11 سبتمبر.
دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال الصين رخص الأيدى العاملة الماهرة والضخمة فى جذب ملايين المستثمرين، ودفع ذلك لتنطلق الصين وتنجح فى تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال الـ20 عاما الماضية.

***

على النقيض، تورطت أمريكا فى حربها العالمية ضد الإرهاب والذى جرها لحربين مكلفتين فى أفغانستان والعراق خرجت منهما فقط هذا العام. وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعة براون المرموقة، إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات 11 سبتمبر وحتى نهاية العام المالى 2021 إلى 6.4 تريليون دولار، ناهيك عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء.
ولم تعرف الصين التورط فى أى نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودى مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى استراتيجية توسع فى بحر جنوب الصين، مما أجج خلافات على الحدود البحرية مع إندونيسيا والفيليبين وفيتنام.

***

تعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن أمريكا ــ الفكرة والحدوتة (والقصة) ــ عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة الأمريكيين أن العالم ينتظر من الولايات المتحدة قيادته.
لكن دفعت 4 سنوات من حكم ترامب لزيادة مخاوف المدارس الفكرية الأمريكية من قرب زمن الأفول الأمريكى. ومثلت أحداث 6 يناير/كانون الثاني الماضى عندما اقتحم المئات من أنصار دونالد ترامب مبنى الكابيتول لعرقلة التصديق على نتائج انتخابات 2020 علامة سلبية فارقة فى التاريخ الأمريكى. ووصف السيناتور الجمهورى بن ساسى اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكى بأنه «تعرض أعظم رمز للحكم الذاتى فى العالم للنهب، بينما كان زعيم العالم الحر لا يكترث ويغرّد ضد نائبه لقيامه بواجبه الدستورى الذى أقسم عليه».
وعلى الرغم من ذلك يؤمن الكثيرون بأن إزاحة أمريكا من على قمة هرم قيادة العالم لا يزال بعيداً، استشهاداً بأن العالم يحيا بالصورة والطريقة التى يختارها العقل والذوق الأمريكي من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة من الآيفون وتويتر إلى الفيسبوك وجوجل، ومن أمازون إلى مايكروسوفت ومرورا باليوتيوب وإنستجرام.
ويرون كذلك أن طريقة الحياة الأمريكية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية، ناهيك عن السينما واللغة الإنجليزية وسحرهما حول العالم، ومقارنتها باللغة المهددة لعرشها، وهى اللغة الصينية.
وتؤمن هذه المدرسة بغياب أى خطر حقيقى على القيادة الأمريكية، ويدعم ذلك احتفاظ الجامعات الأمريكية بمسافة طويلة جدا تبعدها عن أى منافسة حقيقية مع أى من نظيراتها حول العالم، وطبقا لترتيب أفضل جامعات العالم الذى تجريه جامعة شنغهاى الصينية، كان نصيب الولايات المتحدة 17 من بين أهم 20 جامعة حول العالم، فى تصنيف عام 2020.
فى الوقت ذاته، أزاحت الصين الولايات المتحدة خلال عام 2019 عن عرش أكبر مصدر لطلبات تسجيل البراءات فى العالم للمرة الأولى منذ إقامة تلك المنظومة قبل أكثر من 40 عاما. ويعد ذلك سببا قويا للقلق الأمريكى، حيث تتعلق اللعبة الكبرى بين الدولتين «بمعركة السيادة الرقمية».

إقرأ على موقع 180  نفط إربيل ضحية تضارب "حسابات" بغداد.. وأنقرة!

***

ودفع تعقد صناعة التكنولوجيا لتعاون الطرفين فى الكثير من المجالات، بل دفع كذلك لاعتمادهما على بعضهما البعض بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال يُكتب على تليفونات شركة آبل الأمريكية عبارة «صُمم فى كاليفورنيا، وجُمع فى الصين»، ولهذا السبب لن نرى صراعا، بل سباقا إلى أن تتغير طبيعة المصممين والمجمعين.
وعلى الرغم من تأكيد مؤسسة جولدمان ساكس أن الاقتصاد الصينى سيحل محل الأمريكى كأكبر اقتصاديات العالم عام 2027، فإن هذا لن يعنى الكثير إلا إذا منح النظام الصينى الثقة لنفسه وسمح لشعبه باستخدام ما هو ممنوع هناك حاليا مثل تطبيق فيسبوك وتويتر، أو قراءة نيويورك تايمز وأخبار وكالة رويترز.
ودون ذلك الانفتاح الضرورى لن تستطيع الصين منازعة أمريكا فى ريادتها للعالم حتى لو وصلت الصين لرقم واحد فى الاقتصاد أو براءات الاختراعات.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هل يكسب الأردن بتقاربه مع المقاومة الفلسطينية؟