كان بلوتارخ اليوناني يرى أنّ الحصول الأسمى على البلاغة يأتي عندما نفتّش عنها في حطام التنافر والنشاز. كأنْ نعتاد على البشاعة التي لا تحتاج إلى تفنيد أو تركيز، لكي نَميز الجمال الذي يستأهل إدراكاً وتفكيكاً.
هنا تتجلّى فكرتان على سريع متأنٍ: أمّا الأولى؛ فهي أنّ البشاعة بسيطة ومتاحٌ فهمهما وعاميّة التدبير، فيما الجمال مركّبٌ، عويصٌ فرزهُ، نخبويٌ التقدير.
إنّ اللغة بهذا الغرار، تتّصف بما فيها من مجازٍ وحقيقة عندما تتّسق مع أقصى ما يرتادهُ الخيال ويسوّغه التعبير. ذلك أنّ المعنى في جسم العربيّة، شبيهٌ بروحٍ محكومة إلى حجم الجسد، فما زادَ منهُ أو تمطّى وانتشر، طالتهُ الروح وشاكله الذهن واستوعبه الإدراك. وما تناقص منه وتضاءل تندّت بهِ الروح وانقبضت بهِ النفس.
كانت اللغة العربيّة تتماهى مع معناها، بيد أنّها إذّ تناكفهُ أو تشاكلهُ، تضارعُ فيه القيمة وتتجاور معهُ في الأهمية. فبات إذّ ذاك، ما يمور في العاقلة، من معنى تعوزه اللغة ولغةٌ أفقرها المعنى، وألجأها إلى الإطناب ودفعها إلى الترادف وخانها على كتف الاختزال؛ إيجازٌ عصيّ واختصارٌ سنيّ.
أما الثانية؛ فهي اعتدال الكفّتين بالقسط العادل بين القبح والجمال في التعبير، لأجل نشدان عدالة رخوة بين ظهيرين متناكفين، بغية منح الحياة في المعنى ودلقِ الروح في اللغة سواءً بسواء، ففضل التوازن على الاختلال غاية ومرمى كما تقضي بذلك تقاليد الدنيا.
في حين ثمّة رواية أخرى تقول بأنّ التوازن موتٌ سريع للعوالم البديلة، وانتهاءٌ وشيكٌ لنوبة الحرس المتأخرين عن اللحاق بحذاء الأميرة في أول الضياع الموسمي لذهب اللحظة، حيث لا شاعر يشدو، أو موسيقى تعلو، أو حلم يسمو، أو فجرٌ يتأخّر عن الضوء من شباب النهار، أو مغيب يستعجل الظلمة من شيخوخة الليل.
قال موندريان: “الفن سيختفي عندما تحصل الحياة على مزيدٍ من التوازن”. ونحن لا نرغب في اختفاء الفن، طالما هنالك مديحٌ للنقيض في زمن الاستقامات الرثّة. ما دام هنالك ضدّان يقبلان التنازل عن ضفتيّهما إذا استباح شاعرٌ بكارة عنادهما، واستمال كاتبٌ عوز حبهما بتلاقٍ غير وامقٍ في سرير اللغة.
كثيراً ما أستعيد أمام أولئك الذين يتوقفون عن تعاطي اللغة في أشدّ حالاتهم توهّجاً وأكثرها توّقاً بحجة العجز عن استمرار زواج اللغة بالمعنى، وطلاقهما الأليم في منتصف النشوة! مقولة فيتغنشتاين “الخبيثة”: “أرى تخوم عالمك حيثما تنتهي حدود لغتك”.
لقد تراءى ليّ في يوم العربيّة، أنّ أجمل ما في اللغة هذه هي أنّها مثقلة بالتعابير زاخرة بالمقاصد. تغصّ بالاختصارات وتنضحُ بالترادف، بلاغتها في تراكيبها وفصاحتها في عباراتها. تتفتّح للعاشق مثل وردة وتنقبض للمُقتر كالعضلة. معانيها ملامح وأسارير، وألفاظها مفاتيح وأساور
هل علينا أن نرثي عوالم ولحظات ومواقف، ساقها قدرٌ؛ رأى في الظلام ما فاتنا إدراكه في النور، تلك التي اغتالتها مخيلة قاصرة وأهدرتها لغة حبيسة، أم يتوجّب علينا أنْ نستعير ما لم نعشه بظنّ المعنى حتى نسدّد ما سنقول بيقين اللغة!
تلك قسمةٌ فيها من الغررِ ما في العيون من قذى ورمص، ومن الالتباس ما في القلوب من زغلٍ ودغلْ.
لقد قال شاعر الجنوب اللبناني شوقي بزيع في إحدى محطاته الكثيرة: “أرى امرأةً خلف ما تقصدين تماماً”. كذلك نحن، كل واحد فيّنا يرى يأساً /حباً/ فكرةً/ حزناً/ خلف ما يقصده الآخر تماماً عندما تحتجب عنهُ اللغة.. فهنالك شيءٌ ثالث يُوجد بعد أنّ يتحرّر اثنان من تقابل غير ضروري في الحياة، لا يجب البحث عنهُ الآن: إنّه مثل مطر استثنائيّ يهطل من أسفل ليصل إلى أعلى. تلك هي العاطفة.
لقد تراءى ليّ في يوم العربيّة، أنّ أجمل ما في اللغة هذه هي أنّها مثقلة بالتعابير زاخرة بالمقاصد. تغصّ بالاختصارات وتنضحُ بالترادف، بلاغتها في تراكيبها وفصاحتها في عباراتها. تتفتّح للعاشق مثل وردة وتنقبض للمُقتر كالعضلة. معانيها ملامح وأسارير، وألفاظها مفاتيح وأساور. تُكنّي بها ولا تصرّح كفراشة وتغمز بها وتلمّح كنوبة حراسة. ضائعها من اللفظ مُدّرَكاً بالمعنى، ومُهْمَلها من المعنى مسحوباً إلى اللفظ. غريبها قريبٌ وقريبها غريبٌ. تماماً مثل المحبّين حين يزهرون في جحيم الحبِ، بينما يذبلُ المبغِضون في جنّة الكراهية، وكما تحيا فكرةٌ في الظلام، تموت لفظة في النور!
إنّ جلّ ما نعرف في هذه الحياة من معانٍ وما لا نعرف من ألفاظ، تذهبُ في خفةٍ الجيئة قبل الحاجة وتؤوب بتمهل الروّحة بعد الإصابة؛ غيابهم في التعبير حضورٌ بليغ في الذهن، وقليلهم في التفكير كثيرٌ وثيرٌ في المخيلة. ومثولهم على الصحائف غيابٌ ثقيلٌ، وكثيرهم في التصوّر قليلٌ خفيفٌ.
فإنّما جُبلتْ هذه اللغة على بناء النقيض من رميم الترادف، وعلى استقامة التوازن من عيب الاختلال. كأنّ ما قرّ فيها واستقرّ؛ ما برح حتى تذرّر واندثر. وما تحرّر فيها وانتشر؛ سرعان ما تجذّر واستمر..