يقول بيرغمان “انه كان من الواضح جدا ان اولويات القتل يجب ان تبدأ برؤوس البرنامج النووي العراقي، وبينهم خضير حمزة وجعفر ضيا جعفر، وهذا الأخير يُعتبر، بحسب العقيد رافائيل اوفيك عالم الفيزياء النووية في جامعة بن غوريون، “عقل البرنامج (العراقي) والعالِم الأكثر أهمية فيه”، فهو كان خريج جامعة برمينغهام ويحمل شهادة دكتوراه دولة بالفيزياء من جامعة مانشستر وعمل باحثاً في مركز الهندسة النووية في جامعة امبريال كولدج في لندن. كان الرجلان نادراً ما يغادران العراق، وبالتالي كان قتل أحدهما صعباً جداً ان لم يكن مستحيلاً. وكما استعان الرئيس المصري جمال عبد الناصر بالعلماء الالمان لبناء منظومته الصاروخية، فقد استعان العراقيون بالمصريين لتطوير برنامجهم النووي وكان الأهم بين هؤلاء يحيى المشد وهو نابغة في الفيزياء النووية في جامعة الاسكندرية واصبح عالماً رفيع المستوى في مركز الابحاث النووية في التويثا في العراق. وكان المشد يتنقل بصورة دورية بين مصر والعراق وفرنسا فبدأ جهاز “الموساد” يتعقب تحركاته بدءاً من فبراير/شباط عام 1980 ويلاحقه كظله بصورة دائمة في اي وقت يكون فيه في باريس وتحديداً في المؤسسة الفرنسية للحماية من الاشعة في منطقة فونتيناي اوروز قرب العاصمة الفرنسية.
وفي مطلع يونيو/حزيران من ذلك العام ـ يضيف بيرغمان ـ حضّر الفرنسيون شحنة من اليورانيوم للمفاعل النووي العراقي الصغير ايزيس، ولذلك توجه يحيى المشد الى باريس لتفقد نوعية الشحنة، برفقة مساعدين كانا مثل ظله لا يفارقانه لحظة واحدة، ما يخلق صعوبة كبيرة في الوصول اليه. وكانت خطة “الموساد” ان يتم تسميمه عبر واحدة من الادوات التي يستخدمها باستمرار تماما كما جرى تسميم القيادي الفلسطيني وديع حداد وقتله في العام 1978 بمعجون الاسنان الذي يستخدمه. ولكن في اللحظات الاخيرة قرر المشد اختصار زيارته الى فرنسا والعودة الى عائلته في مصر، وهذا يعني ان “الموساد” لم يعد لديه الوقت الكافي لتنفيذ مخططه، ولكن المشد قرر ايضاً ان يمضي آخر ليلة له في باريس وحيداً. وينقل بيرغمان عن خضير حمزة قوله “لقد طلب (المشد) من مساعديه المغادرة لان الفندق كان مكلفاً جداً، وهو كان رجلاً طيباً فقال لهما يمكنكما ان تذهبا الى اماكن تسوق اكثر ملائمة لكما وان تبقيا في فندق ارخص يتناسب مع قدراتكما، هيا اذهبا”. ومع غياب مساعديه الإثنين، اصبح المشد فجأة هدفاً سهلاً جداً. فعاد الى فندقه في الساعة السادسة مساء من يوم 13 يونيو/حزيران حيث اخذ حماماً وتناول سندويشا ومشروبا في بهو الفندق قبل ان يذهب الى غرفته في الطابق التاسع. اختبأ كارلوس قائد وحدة “الحربة” للاغتيالات في “الموساد” مع احد العملاء في زاوية منعزلة في ممر الطابق وراحا يراقبان باب الغرفة. لقد تغيرت الخطة بسرعة كبيرة ولم يعرفا في تلك اللحظة ماذا يجب ان يفعلا. كان كارلوس يحمل مسدساً ولكن الاوامر كانت صارمة بعدم استخدام المسدسات في الفنادق تحت اي ظرف من الظروف وكان كارلوس ملتزماً جداً بالاوامر. وعند الساعة التاسعة والنصف فُتح باب المصعد وخرجت منه شابة كان واضحاً انها مومس، مرت قرب العميلين وتجاهلتهما قبل ان تقرع باب الغرفة رقم 9041 فادخلها المشد. انتظر كارلوس ورفيقه أربع ساعات حتى خرجت المومس من الغرفة عند الساعة الواحدة والنصف فجراً. عندها وجد كارلوس قرب باب المصعد منفضة سجائر معدنية مع قائمة صلبة بطول يقارب المتر، تفقدها جيداً ووزنها بيديه مُستشعراً ثقلها، فوجد انها صلبة بصورة كافية لاستخدامها. فقال لزميله “اخرج سكينك” وكانت سكينة كبيرة، فاقترب الرجلان من باب الغرفة وقرعاه فرد المشد بصوت ناعس خافت من الداخل باللغة الفرنسية “من هناك”؟ فأجابه كارلوس “أمن الفندق، نحن هنا بخصوص ضيفك الأخير”، فتح المشد الباب فسارعه كارلوس بضربة قوية من المنفضة على رأسه فهوى المشد أرضاً وأخذ يزحف على الأرض فطارده كارلوس وضربه مرة أخرى فانتشرت الدماء تاركة بقعة كبيرة على سجادة الأرضية ولم يعد هناك من حاجة لاستخدام السكين. بعدها، غسل العميلان الدماء عن أيديهما ونظفا المنفضة، وغيّر كارلوس قميصه المُغطى بالدماء وطواه ووضعه في جيبه وقبل أن يغادرا حرصا على وضع بطاقة “الرجاء عدم الازعاج” على قبضة باب الغرفة من الخارج، ووضعا المنفضة في مكانها واخذا المصعد نزولاً الى بهو الفندق وغادرا.
وصلت رسائل تهديد واضحة الى العديد من الفرنسيين المشاركين في المشروع العراقي تقول انهم سيكونون في خطر جسيم ان لم يغادروا على الفور. غضب صدام حسين والقى كلمة بعدها بأيام هدّد فيها بـ”تحويل تل ابيب بالقنابل الى كومة من الحجارة”، من دون ان يذكر اي شيء عن عمليات قتل العلماء
يتابع بيرغمان، أن أمن الفندق وجد جثة المشد بعد خمس عشرة ساعة، وظنت الشرطة في البداية انه ضُرِبَ في لعبة جنسية انتهت بطريقة خاطئة ولكن بعد ان عثروا على المومس اطلقوا سراحها فالمشد لم يُسلب شيء من ممتلكاته ولم يزره احد بعد مغادرة المومس التي ذكرت انها رأت رجلين في ممر الطابق، فعرف الفرنسيون بسرعة ان “الموساد” قتل المشد وكذلك عرف العراقيون. وينقل بيرغمان عن حمزة قوله “عرفنا عندها اننا كلنا مستهدفين، لذلك لم اعد أسافر من بعدها الا برفقة ضابط من المخابرات العراقية”. فهم صدام حسين ان القتل المتعمد سيحبط معنويات العلماء العاملين في المشروع النووي فأخذ يوزع السيارات الفخمة والعلاوات المالية السخية لكل المسؤولين الرفيعي المستوى ودفع لزوجة المشد 300 الف دولار تعويضاً، وهذا مبلغ كبير جدا في تلك الايام في مصر، ووعدها بانها واولادها سيحصلون على معاش تقاعدي مدى الحياة. لكن تلك الإغراءات لم يوقف عمليات القتل.
بعد ثلاثة اسابيع من قتل المشد، أُرسِل مهندس عراقي متخرج من بريطانيا اسمه سلمان رشيد الى جنيف للمشاركة في دورة تدريبية لمدة شهرين، على تخصيب اليورانيوم بوسائل الكهرومغناطيسية للفصل المتماثل، وكان يرافقه حارس شخصي لا يفارقه أبداً وقبل اسبوع واحد من موعد عودته الى العراق، اصبح رشيد مريضا للغاية، فاشتبه الاطباء بإصابته بفيروس ما. بعد ستة ايام وتحديداً في 14 سبتمبر/ايلول، توفي رشيد واظهر تشريح الجثة عدم وجود اي فيروس فيها، لقد سمّمه “الموساد”، ولكن لم يعرف احد كيف ولا بأي مواد سامة. بعد ذلك بأسبوعين، كان المهندس المدني العراقي الرفيع المستوى عبد الرحمن رسول، وهو المسؤول عن بناء عدد من الابنية المخصصة للمشروع النووي، يشارك في مؤتمر تنظمه لجنة الطاقة الذرية الفرنسية في باريس. مباشرة بعد حفل الكوكتيل وحفل الاستقبال الذي افتتح به المؤتمر سقط رسول ارضاً بسبب ما بدا أنه تسمم غذائي.. وتوفي بعدها بستة ايام في احد مستشفيات باريس.
يضيف بيرغمان أنه في مطلع شهر اغسطس/اب، وصلت رسائل تهديد واضحة الى العديد من الفرنسيين المشاركين في المشروع العراقي تقول انهم سيكونون في خطر جسيم ان لم يغادروا على الفور. غضب صدام حسين والقى كلمة بعدها بأيام هدّد فيها بـ”تحويل تل ابيب بالقنابل الى كومة من الحجارة”، من دون ان يذكر اي شيء عن عمليات قتل العلماء. لكن العلماء بدأوا يشعرون بالذعر، وينقل بيرغمان عن حمزة قوله “لم يعد احد يريد ان يسافر، لذلك كان صدام يعطينا علاوات كبيرة للسفر، كما اخضع العاملون في المشروع لدورات امن شخصي ودفاع ذاتي، وقام ضابط مخابرات بتعليمنا كيف ناكل وان لا نقبل بتلبية اي دعوات بعد المغيب وان نكون دائما بصحبة احد ما وان نحمل معنا دائما فرشاة اسناننا وعدة الحلاقة حتى ولو بحقيبة جيب صغيرة”.
يتابع الكاتب “الإسرائيلي” أن عدداً صغيراً جداً من المتعاقدين الفرنسيين استقالوا نتيجة خوفهم وتباطؤ العمل في المشروع النووي العراقي ولكن صدام حسين كان يضع كل مقدرات الامة الاستبدادية في خدمة بناء القنبلة وكان بامكانه التخلي عن تقني او ثلاثة لذلك فقد جرى بسرعة استبدال العلماء الذين قتلوا او خافوا واستقالوا وقامت فرنسا بارسال 12 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب وبدأت التحضير لطلبية اخرى. وهكذا فانه في احسن الاحوال اشترت اسرائيل لنفسها بهذه العمليات بعض الوقت قبل ان يستكمل صدام حسين بناء المفاعل والبدء بتشغيله وقدر ذلك الوقت بحوالي 18 شهرا. وكان العراقيون يتوقعون – و”الاسرائيليون” يخافون – بان يمتلك صدام حسين سلاحا نووياً كاملاً وفاعلاً وممكن الاستخدام بحد اقصى قبل نهاية العقد. وتوصل رئيس “الموساد” اسحاق هوفي الى استنتاج ان كل عمليات الاستخبارات في القتل المتعمد والتخريب لم يكن باستطاعتها فعل اكثر مما فعلت لذلك فقد اخبر (رئيس الوزراء حينها مناحيم) بيغن في اكتوبر/تشرين الأول عام 1980 أنه “لن يكون باستطاعتنا ان نوقفه، الطريقة الوحيدة المتبقية لدينا هي ان نقصفه من الجو”. وتعبير “الطريقة الوحيدة” هنا يعني القيام بعمل حربي صريح وواضح، على حد تعبير بيرغمان.