عقلية التآمر لدى الحكام العرب، ومنذ مئة سنة، غدت ناموساً ثابتاً ونبراساً متوارَثاً، لأنهم يعلمون أنهم كما جيء بهم إلى مناصبهم يُقتلعون من مناصبهم إن هم لم يأتمروا بأوامر من وضعوهم في مناصب القيادة، ولم يتآمروا على شعوبهم.
ليس لدى الشعوب العربية آلية دستورية وقانونية لمحاسبة حكامها، غير أنها، لكثرة ما حارت في تفسير سلوكهم، انتبهت أخيراً إلى أن هؤلاء الحكام لا يسمعون كلام شعوبهم لأن آذانهم لا تلتقط إلا صوت المنعم عليهم بمناصبهم والقادر على تثبيتهم في الحكم من دون أي مبالاة بملايين المتظاهرين في ساحات العواصم العربية يهتفون مع البردوني، ومنذ خمسين سنة:
الـحاكمون وواشـنطن حـكومتهم والـلامعون.. ومـا شـعّوا ولا غربوا
حـكامنا إن تـصدوا لـلحمى اقتحموا وإن تـصدى لـهُ الـمستعمر انسحبوا
هـم يـفرشون لـجيش الغزو أعينهم ويـدّعـون وثـوبـاً قـبل أن يـثبوا
فليس ثمة حاكم عربي واحد يرى أن أموال الدولة (أموال الشعب المرصودة لتنمية الوطن والمواطنين وللتنمية فقط) ليست أمواله ولا يحق له أن يتصرّف بها كما يشاء فيهِب منها من يشاء ويحرم منها من يشاء ولا ينفذ مشاريع إنمائية لتحرير طاقات المواطنين وتطويرها، وإنما المشاريع التي يسمح بتنفيذها هي تلك التي لها علاقة بالأجندة التنموية التي تخدم مصالح حكّامه لا مصالح وطنه: لا تعليم، لا بنية تحتية، لا كهرباء، لا ماء، لا أرض، لا فضاء، لا سماء الخ.. حكام لبنان نهبوا اللبنانيين مثلما حكام العراق نهبوا العراقيين وهم مثل سائر الحكام العرب الناهبون للشعوب العربية وهذا النهب توصي به وتشجع عليه الحكومات التي تحكم حكوماتنا وتهنّئهم على ما يفعلونه حتى لا تذهب هذه الثروات الفكرية والمادية.
ستأتي النهضة العربية لا محالة ومعها النصر المؤجل، على الرغم من أن المعطيات التاريخية والجغرافية المطروحة في المعركة هي على النحو التالي: المنطقة العربية تعجّ بثروات مادية وفكرية تراها الدول الكبرى ملكاً لها، وترى أن المنطقة العربية يجب ألّا تحتاجها كي لا توظفها في أي مشروع تنموي استراتيجي
الكَتَبة والكتّاب
ومع ذلك، فالقول بأن الشرق الأوسط هو موضوع تآمر استمرّ طوال القرن الماضي، ومرشحٌ للاستمرار في القرن الجاري، هو موضع استنكار معترضين كُثُر يستخدمون ذريعة يرددونها من دون أن يفقهوا لها معنى، وهي “نظرية المؤامرة”، فهم لا يرفضون القول بمؤامرة الغرب وإسرائيل على بلادنا “من المحيط إلى الخليج” فحسب، بل يرفضون أيضاً مقولة الغرب الاستعماري والاستيطان الصهيوني؛ فلكي تكتمل الاستراتيجية/ المؤامرة، ولكيلا يبدو الأمر كذلك فإن الكتَبَة (صحافيين ومفكرين ومثقفين..) المدافعين عن الحكام لديهم سلاح يحاربون به كل من يصوّر الأمر على حقيقته ويرمونه بتهمة السطحية والانسياق وراء “نظرية المؤامرة” أي أنه مغفّل يستسهل تفسير الأمور وأحداث التاريخ فيفسّر كل شيء بالتآمر والتواطؤ الخ.. فما أن يُقال إن ثمة مؤامرة مهما كان سياق الكلام الذي تَرِدُ فيه، يسارعون إلى رمي قائلها بالجرم والحرم والتجريم والتجريد من العقل ويصنفونه مع الأغبياء والجُهّال، وهم لا يدرون أن تهمة الجهل تصيبهم هُم بالذات: في دراسة نشرتها “نداء الوطن” للباحث عبد الرازق بني هاني (10 كانون الثاني/ يناير 2017) تفضح مكنون لعبة الاتهام بالجهل الذي يُرمى به القائلون بالمؤامرة، ينقل الباحث عن المؤرّخ جون سويني John Sweeney أستاذه الذي نال على يده شهادة الدكتوراه، أنّ في علم التاريخ فرعاً يُسمّى “التاريخ النفسي” (psycho-history أوPsychohistoire ) وهو علمٌ بأصول وقواعد، غرضه “هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع” أي تجهيل الناس. فمن هم الناس الذين يستهلكون سلعة التجهيل ويتم تجهيلهم؟ يقول الكاتب نقلاً عن باحث في مؤسسة “راند” البحثية (Rand Corporation) إنّ هناك مؤسساتٍ، تابعة لحكومات دولٍ عُظْمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة، متخصصة في تجهيل الناس وتستهدف ثلاث فئات من مستهلكي سلعة التجهيل:
أولاً، الفقراء، وجُلّهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، والمناطق النائية والأرياف، وعمال المزارع، وما شابه هذه الفئات. غير أنّ المستغرَب هو أن يكون معلمو المدارس وأساتذة الجامعات هم أيضاً في هذه الفئة التي تستهدفها سلعة التجهيل، ويستهلكونها بنشاط وحماسة. وهذه الفئة وحدها قد تصل نسبتها في الولايات المتحدة إلى 70% من السكان؛
ثانياً، المتدينون المستسلمون للقدر ويظنون أنه لا يتغير، وهؤلاء مسؤولون عن تجهيل عدد كبير ممّن لديهم ميول دينية؛
ثالثاً، المغفلون الذين يعملون في الحكومات، وبخاصة في الدول الفقيرة، وبالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم، وبخاصة للمعنيين بالشأن السياسي والاقتصادي. وتنحصر مهمّتهم في تيئيس هؤلاء من إمكانية الإصلاح، ودفعهم إلى ممارسة الكذب على عامة الناس وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق.
ومن أخطر ما ينقله الكاتب عن الباحث المذكور، أنّ بث العداوة بين الأشقاء يندرج ضمن صناعة التجهيل وترويجه.
هذا عن الكتَبَة، أما الكُتّاب فأقصى ما يبتغونه من كتاباتهم هو الحصول على استحسان بعضهم لبعض أو امتعاض بعضهم من بعض، فهُم يقرأون بعضهم بعضاً ـ ولا يقرأهم أحدٌ سواهم ـ فيقول بعضهم مثلاً عن كتابة بعض: “ما أجمل ما كتبه فلان” أو “ما هذه الكتابة السخيفة” وهكذا.. وعند هذا الحد يتوقف الأمر. ولذا فإن آلاف الأطنان من الكتابات ليس لها وزن ذرة فاعلة في مجرى الأمور التي تبقى على حالها، أو تتراجع إلى الأسوأ؛ فالكتابة عندنا ليست ذات وظيفة تنموية ولا وظيفة فكرية ولا يعني ذلك أن كل كتابة عندنا ليست فكرية كلا فحال ثرواتنا الفكرية كحال ثرواتنا المادية، هائلة، لكن لا دور تنموياً لها في الداخل (الخارج يأمر بذلك وحكّام الداخل ينفذون الأوامر)، وكما أن ثرواتنا التي هي موضع جشع وطمع الدول الكبرى، تذهب إلى الخارج، بموجب التفاهم القائم (التواطؤ) بين حكّامنا وحكّام حكّامنا، كذلك ثرواتنا الفكرية لا توظَّف في الداخل بل تذهب إلى الخارج أيضاً، ليستعينَ بها ويوظِّفَ أصحابَها خبراءَ وعلماء وأطباء ومهندسين وعمالاً أكفاء الخ… ثرواتنا الفكرية والمادية لا تسهم في التنمية الداخلية إلا بالمقدار الذي يتطلّبه الحفاظ على توازن الوضع القائم (والهش) الداخلي. على أية حال مهنة الكتابة الفكرية والتوعوية في طريقها إلى الانقراض، في العالم كله حيث تسود اليوم لغة الصورة والرموز والعبارات الجاهزة سلفاً سواء على الانترنت أم في وسائل التواصل الاجتماعي، يستعين بها الكاتب على نحوٍ آلي، إلا أنها انقرضت عندنا أكثر منها عند الآخرين: فإذا كنتَ كاتباً مفكراً فلن تحصل على فلس واحد من كتاباتك وعليك أن تموت بغيظك، فهذه بلاد [بأمر من حكامها] لا محل فيها لمفكرين يسعون بها إلى الخروج من سيطرة المستعمر المستمرة منذ قرن والمرشحة لتدوم أيضاً قرناً آخر.
النصر.. المؤجّل!
يمكن اختزال الوضع الحالي في المنطقة العربية اليوم بتيارين عريضين: الأول، يرى أن العالم بألف خير ورديّ زاه علينا أن نرضى به وألّا نكون معادين له، لا بل علينا أن نتعاون مع الغرب وإسرائيل؛ الثاني، يرى أن هذا العالم جائر ولا يمكن القبول به، ولا بد من مقاومته. راهناً الغلبة للتيار الأول ما دامت المؤامرة مستمرة، فهو يمضي بوضوح من نصر إلى نصر غير آبه بوجود التيار الثاني الذي لا يبدو هو الآخر أنه مستسلم للهزيمة، فهل يكون له النصر بعد زمنٍ وإن طال، وبعدما تستكمل الخطة الإسرائيلية تغلغلها في كل الجوانب الرخوة من الجسم العربي؟
ما تفتقده بلادنا اليوم هو قيادات جريئة وشجاعة تفتكّ ثرواتنا المادية من قبضة المستعمر، وتحرر طاقاتنا الفكرية من الخضوع لإرادته، وتُلغي مصادرة الخارج لها وتضعها في خدمة الداخل ونهضته
ستأتي النهضة العربية لا محالة ومعها النصر المؤجل، على الرغم من أن المعطيات التاريخية والجغرافية المطروحة في المعركة هي على النحو التالي: المنطقة العربية تعجّ بثروات مادية وفكرية تراها الدول الكبرى ملكاً لها، وترى أن المنطقة العربية يجب ألّا تحتاجها كي لا توظفها في أي مشروع تنموي استراتيجي، وهي لا تحتاجها لأنها لا تستطيع استثمارها نظراً لحالتها التكنولوجية المزرية. وإذا افترضنا أنّ هذه الثروات الطبيعية هي موضع صراع بيننا وبين الدول الطامعة فينا، فإن الصراع، في ظل الوضع القائم، سيكون بين منطقة عربية لا تجمعها دولة واحدة، وهي لم تكن دولة في يوم من الأيام، وبالتالي فهي لا تمتلك قوة عسكرية [ولا حتى أرضيّة شعبية مهيّأة ومعبّأة] لحمايتها والدفاع عنها، وبين دول مبنيةٌ وراسخة وتمتلك كل أسباب القوة العسكرية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية.. لذا، فالمنطقة العربية ملزمة بأن تنطلق في حربها من أجل النصر المؤجل والمنشود، من الدول المؤقتة التي أنتجها سايكس بيكو والتي قادتُها غير متواطئين مع دول استعمارية تحميهم في مناصبهم. وستبقى النهضة العربية مؤجلة ما دام “سيستام” التأجيل أو النظام الضامن لهذا التأجيل قائم وفاعل، وهو نظام عماده الجامعة العربية القيّمة على شلّ كل خطوة نحو تقارب الدول العربية سياسياً واقتصادياً، والحارسة لاستقلال كل دولة عربية عن الأخرى، استقلالاً لا بأس بأن يصل إلى حد العداء والصراع. وستبقى النهضة العربية مؤجلة ما دام على رأس كل دولة عربية طاقم حكّام حريص على الطاعة وتنفيذ ما يتطلّبه نجاح المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، وما دامت الدول الكبرى ترى أن من صلاحياتها وواجباتها أن تتدخل في أي شيء يحدث في أي بلد عربي.
ما تفتقده بلادنا اليوم هو قيادات جريئة وشجاعة تفتكّ ثرواتنا المادية من قبضة المستعمر، وتحرر طاقاتنا الفكرية من الخضوع لإرادته، وتُلغي مصادرة الخارج لها وتضعها في خدمة الداخل ونهضته. غير أن هذه القيادة لن تكون وفق ما يعتقد البعض بأن “جيشاً من الأرانب يقوده أسد، هو خيرٌ من جيش من الأسود يقوده أرنب”، فالأرنب المعروف بذكائه ونباهته يشكو من الخوف والجبن ويحتاج إلى شجاعة الأسد، والأسد المعروف بشجاعته يحتاج إلى ذكاء الأرنب. لذا، فإن ما نحتاجه حقاً هو قيادات يتوافر لها القوة والعقل معاً، ذكاء الأرنب وشجاعة الأسد، ليجعل القائد من هذا المزيج السحري الفعال روحاً تنبثّ في جسد جيشه الذي هو لا محالة ـ ككل جيش وكل شعب ـ مزيج من أسود وأرانب في آن.
(*) الجزء الأول: هذا الشرق الأوسط لِمَن: وحدة عربية أم امبراطورية إسرائيلية