هذا “الشرق الأوسط” لِمَن: وحدة عربية أم امبراطورية إسرائيلية (1)؟

تناولت مقالة سابقة بعنوان "على هامش مؤتمر قرطبة: النهضة العربية ما هي؟" مسؤولية الخارج عن عجز منطقتنا العربية، منذ أكثر من قرن من الزمن، عن النهوض والتقدم. في المقالة التالية (بجزئيها الأول والثاني) مسؤولية الداخل عن هذا العجز:

ذكّرني عنوان مقالة جميل مطر “لمن يكون الشرق الأوسط؟”، المنشورة في موقع “180post”[1]، بقولة ذلك الأعرابي الذي خرج ذات صباح من خيمته ونظر بعيداً في مدى الأفق، وكأنما يراه للمرة الأولى، وقال: “ليت شعري، هذه الدنيا لمن؟”. ولئن كان البدوي يتساءل من دون أن يعوزه جواب، فقد كان ثمة جواب آخر عند الشاعر الصهيوني شموئيل يوسف عجنون[2] الذي جاء من أوكرانيا مطلع القرن الماضي ونصب خيمةً في ظاهر مدينة يافا الفلسطينية، وروى حكاية هذه الخيمة التي أراد لها أن تكون “بيتاً من حجر”، في مجموعته القصصية “بين مدينتين”. فهو حين أطلّ من خيمته وطرح السؤال نفسه في روايته الخيمة، كان من ورائه بن غوريون يمدّ بصره أيضاً، فسأله: ماذا ترى في المدى يا عجنون؟ فأجابه “أرضاً بلا شعب”ّ! عبارة تداولها الأوروبيون كثيراً، ثم فهموها على نحوٍ ما، وفهمها العرب على نحو مختلف، وفهمتها الصهيونية على نحو آخر. ولعلّ المثل الشائع عندنا: “الرزق السايب يعلّم الناس الحرام” ولِد يومَ طرح ذلك البدوي سؤاله عن هذه الدنيا السائبة، فالشرق الأوسط، “أرض الله الواسعة”، كأنه “رزق سايب”، أخلته السلطنة العثمانية إثرَ هزيمة جيشها الإنكشاري أمام جيوش الإنجليز والفرنسيين عندما احتلوا تلك الأرض، وشعارهم: “الأرض لمن ينظم أوضاعها ويرتّبها” (Les lieux appartiennent à ceux qui les organisent) متأبّطين خرائط الترتيب والتنظيم والضم والتقسيم.. وقد ذكرنا في مقالة سابقة[3] أن الدول الاستعمارية اتفقت، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، على عدم السماح للمنطقة العربية بالنهوض اقتصادياً وسياسياً، وأوكلت إلى إسرائيل مهمة الفصل بين شطري المنطقة أي ما يُعرَف بالمشرق العربي والمغرب العربي، ومنع قيام قيادات تأخذ بيدها زمام هذا النهوض، ونعتنا هذا الاتفاق بأنه مؤامرة على منطقتنا، ظهرت مراراً وتكراراً في سلسلة من الاحداث امتدت من إجهاض ثورة الشريف حسين والاحتلال الصهيوني لفلسطين وولادة القضية الفلسطينية، والعدوان الثلاثي على مصر، وحرب 67، وغزو بيروت، وطرد منظمة التحرير، والاحتلال الأميركي للعراق، وتخريب خمس دول عربية وتدمير عواصمها واستنزاف جيوشها.. وما زال المسلسل مستمراً حتى وصل إلى اعتراف بعض قادة الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، بأن كل ما ترتب على هذا المسلسل هو صوابٌ وازدهارٌ وتقدمٌ وحضارةٌ، وهو التاريخ الذي يختطّ مجراه بتوسعة احتلال فلسطين ليشمل الشرق الأوسط برمته، من دون أن يُسمّى هذا الاعتراف بالاسم، وإنما أوجِد له تسمية أخرى: التطبيع.

سواء كانت مؤامرة أم لا، فهي استراتيجية محكمة الإعداد، وما زالت جارية التنفيذ، والمؤامرة فن عسكري وسياسي يتغنّي به الاستراتيجيون في كل زمان ومكان، من يوليوس قيصر وطارق بن زياد إلى بول وولفوفيتز وبريجنسكي، مروراً بكلاوزفيتز وميكيافيلي. وأهمية الكلام على المؤامرة هو كشفها وإحباطها قبل وقوعها، أما بعد وقوعها فـ”لاتَ ساعةَ مندم”. لكن عندما تصبح المؤامرة ديدناً ودأباً يعتاده الناس حدّ النوم والغطيط يصبح كشفها سلاحاً لإيقاظهم وتوعيتهم، ما أن نفهمها ونستوعبها وندرك كيفية اشتغالها وآلية وظيفتها، حتى تصبح مقاومتها ممكنةً، بل مضمونة النجاح. وكوننا نائمين غافين حتى الغفلة، فتلك حقيقة وواقع قائم، نبّه إليه إبراهيم اليازجي في أواخر القرن التاسع عشر بصيحته: “تنبهوا واستفيقوا أيها العرب”[4]، ولا تزال الدعوة إلى اليقظة مستمرة وما أكثر الشعراء العرب الذين أطلقوا صيحة التوعية هذه، وإن ممزوجةً بنفَس اليأس أحياناً، كما فعل محمد مهدي الجواهري حينما خاطب الجموع بمرارة ساخرة: “نامي جياع الشعب نامي/ حرستك آلهة الطعام/ نامي فإن لم تشبعي/ من يقظةٍ فمن المنام”. كما نبّه إليه، ومنذ العام 1938 جورج أنطونيوس في كتابه الشهير “يقظة العرب”[5]. فكيف أمكن تواصل مسلسل احتلال المنطقة العربية على مدى قرن من الزمن وصفه غسان تويني والصحافي الديغولي جان لاكوتور بأنه قرن كان “كأنه لم يكن” أو “قرن عديم النفع”[6]؟ وما الذي جعل أن المنطقة العربية بقيت على حالها؟[7].

ليست النهضة قراراً سياسياً فقط، بل هي خطة استراتيجية متكاملة أركانها سياسية واقتصادية وتعليمية وعسكرية. والقول بأن أبرز معوّقات النهوض العربي خارجية لا يعني إخفاء المعوقات الداخلية التي لا تقلّ عنها خطورةً بل هي مساوية لها من حيث الأهمية والخطورة، فالتناغم بين حكّام الدول العربية، وواضعي استراتيجيات الشرق الأوسط، والقائم على الخضوع من جهة الحكام العرب، وضمان بقائهم في سدة الحكم من جهة الدول الكبرى، يشكل جسر عبور ينقل إرادة الخارج إلى الداخل

مسؤولية الداخل والخارج

لئن كانت المؤامرة المستمرة بلا انقطاع هي دور الخارج في تعطيل نهوض الدول العربية، فما هي مسؤولية الداخل عن هذا التعطيل؟ من أبرز معوقات نهوض المنطقة العربية [كما ذكرنا في مقالة سابقة[8] سعيُ دول الغرب الاستعمارية (فرنسا وإنجلترا منذ أواسط القرن التاسع عشر، ثم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية) إلى منع قيام قيادات عربية تأخذ بيدها زمام النهضة، وهذه الحقيقة تُخفيها تسميته غرباً فحسب، وإنما لإظهارها يجب تسميته باسمه: الغرب الاستعماري، والاستعماري هنا ليست من باب التعيير أو الذمّ والشتم، بل هي من باب الاعتراف بالواقع على حقيقته، أي سيطرة الغرب وتفوقه، كما كان العرب وغيرهم من الشعوب مستعمرين ومتفوقين في حقب تاريخية مختلفة، وكذلك كانت العلاقات الاستعمارية تختلف من حقبة إلى أخرى باختلاف الحضارات التي سادت فيها.

ليست النهضة قراراً سياسياً فقط، بل هي خطة استراتيجية متكاملة أركانها سياسية واقتصادية وتعليمية وعسكرية. والقول بأن أبرز معوّقات النهوض العربي خارجية لا يعني إخفاء المعوقات الداخلية التي لا تقلّ عنها خطورةً بل هي مساوية لها من حيث الأهمية والخطورة، فالتناغم بين حكّام الدول العربية، وواضعي استراتيجيات الشرق الأوسط، والقائم على الخضوع من جهة الحكام العرب، وضمان بقائهم في سدة الحكم من جهة الدول الكبرى، يشكل جسر عبور ينقل إرادة الخارج إلى الداخل، ويستبدل البطش الاستعماري الأجنبي ببطش محلي وطني، ويصل المعوّق الخارجي بالمعوق الداخلي، بحيث أن فرض إرادة الخارج واستراتيجياته ومخططاته على بلادنا لا يقوم بها على نحو ظاهر، بل يتولّى ذلك، وبالنيابة عنه، الحكام المحلّيون (وهذا ما يُسمّى تآمر القيادات العربية على شعوبها) الذين تصبح مخططات واستراتيجيات الخارج خططهم واستراتيجياتهم، يبررونها باسم الانفتاح والتقدم والحداثة والاستفادة من المعونات الخارجية والقروض مقابل تعطيل الطاقات المحلية الوطنية وتعطيل تحريرها وتثويرها وتطويرها من أجل التنمية الداخلية، على نحو ما فعل ويفعل كثير من دول العالم التي كانت متخلفة وخاضعة للاستعمار ثم استخدمت طاقات شعوبها وثرواتهم الفكرية والمادية بالتعليم والتشغيل والتفعيل بموجب خطط استراتيجية شاملة.

ذلك كله للقول بأنّ علاقتنا بالغرب هي علاقة خضوع، ولو زعم مدّاحوها بأنّها انفتاح على المعرفة والحضارة، فالتعلّم والانفتاح على العلم والمعرفة لا يحتاجان إلى علاقة خضوع وتبعية، بل على العكس من ذلك تماماً يحتاجان إلى تحرر من دونه لا تستقيم عملية التعلّم أصلاً، والتي هي أمر طبيعي بين الشعوب، ينبع من الداخل ولا يُفرَض فرضاً، والعلم ملكٌ للبشر جميعاً، وهو عملية تفاعل متبادل، قائمة على التعلم والتعليم في آن، ولنا نحن العرب باع طويل في مسألة التعلم والتعليم هذه، فقد تعلّمنا من الإغريق علومهم الفلسفية ثم تعلّمها منا رواد النهضة الأوروبية، كما تعلّموا منا الطب والفلك والجغرافيا، واليوم نتعلّم منهم علومهم الحديثة ولنا فيها مجلّون (فلسطينيون بخاصة) في مختلف فروع هذه العلوم، فحاجتنا إلى التعلم من الغرب اليوم هي كحاجة الغرب إلى التعلّم منا بالأمس كما اليوم. ومسألة التعلّم والتعليم هي ركنٌ أساس في استراتيجية النهوض الشاملة، الممنوعة عندنا، من الداخل ومن الخارج في آن، وفق علاقة بين حكامنا في الداخل وحكّامهم في الخارج، علاقة قائمة على نهب ثرواتنا الفكرية والمادية، مقابل ضمان بقاء حكامنا في مناصبهم.

التعددية والنهوض والوحدة

تتميز الشعوب العربية، كالعديد من الشعوب الأخرى، بتعددها الديني واللغوي والعرقي، وإن كان الطابع الغالب في مكونات هذه المجتمعات هو اللغة العربية والثقافة الإسلامية. هذا التعدد هو مصدر من مصادر غنى المنطقة العربية، كما في مناطق العالم كافة، يتغنى به الغرب في مجتمعاته، لكنه حوّله عندنا إلى مصدر حروب ونزاعات لا تنتهي، في ظلّ غياب المشروع السياسي التوحيدي الجامع لجميع مكوّناتها الاجتماعية على غرار الاتحاد الأوروبي أو الأفريقي أو الأميركي أو الروسي.. وفي ظلّ غياب حكم ديمقراطي قائم على التفاهم بين جميع هذه المكونات وإحقاق حقوقها المدنية والسياسية كاملةً، ما أتاح للدول الاستعمارية وضع يدها على هذا النسيج التعددي، وعملت منذ القرن التاسع عشر على تمزيقه باستمالة هذه الجماعة الثقافية ضد تلك، أو هذا الفريق أو الحزب السياسي ضد ذاك الفريق أو الحزب، واستسهلت التلاعب بالعلاقات بين مكوّنات المجتمعات العربية المتعددة ثقافياً وعرقياً ودينياً وخصوصاً مذهبياً، حتى بات التدخل الخارجي في العلاقات السياسية والاجتماعية بين مكونات المجتمعات العربية تقليداً ثابتاً، وبات من ثوابت الحسابات الاستراتيجية الدولية التي تمارسها الدول الكبرى والقوى العظمى في العالم أن ما يُسمّى بالمنطقة العربية، هو منطقة منطقها الداخلي معروف ومدروس ولا يتغيّر، فهي منطقة تلغي نفسها بنفسها عبر صراعاتها الداخلية، فلا يُحسَب لها أي حساب في الموازين الاستراتيجية الدولية. وهذه الثابتة تُدرَّس في معاهد الدراسات الاستراتيجية في الدول الاستعمارية. حتى أنّ عبارة “المنطقة العربية” حُذِفت كتسمية جغرافية إقليمية، من قاموس العلاقات الدولية والخرائط المعتمدة دولياً، واستبدِلت بتسمية جديدة “الشرق الأوسط” المتداوَلة في المحافل والمؤسسات الدولية، ويتداولها العرب من دون أن يكون لأي قيادة عربية أي دور في وضع استراتيجية لها، فقد بات مثل هذه الاستراتيجية من اختصاص جهات غير عربية يُسهِم في وضعها أطراف شتى بل يتصارع على وضعها دول كبرى مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل التي تبقى لها اليد الطولي في وضع استراتيجية الشرق الأوسط، ومنع قيام قيادة عربية في أي بلد عربي ترى أنه يستحيل لأي بلد عربي أن ينهض اقتصاديا وسياسيا وعسكريا بمفرده لأن مقومات هذا النهوض لا تتوافر إلا بالتكامل بين مقوماته ومقومات البلد العربي المجاور له، فالنهضة ليست قراراً سياسياً فقط بل هي خطة استراتيجية متكاملة أركانها سياسية واقتصادية وتعليمية وعسكرية، وتحتاج إلى قيادات واعية وذات إرادة سياسية حازمة. وقد ظهر بالفعل مثل هذه القيادات في مختلف الدول العربية كمصر والسودان والجزائر واليمن والعراق وسوريا وفلسطين وتونس وليبيا (نذكر منهم على سبيل المثال جمال عبد الناصر، شكري القوتلي، فؤاد شهاب، صدام حسين، عبد الرحمن سوار الذهب، حافظ الأسد، معمر القذافي، الحبيب بورقيبة، هواري بو مدين…) وكان مثل تلك الاستراتيجية الشاملة واضحاً في ذهن العديد منهم، وعلى سبيل المثال، في الخطاب الذي ألقاه القذافي في العام 1988 حول خطر إسرائيل ومطامعها التوسعية، ويبدو وكأنه يُلقيه اليوم: “يريدون أن يضعوا أيديهم على هذه المنطقة ليسيطروا على مضيق جبل طارق وعلى خليج سرت وباب المندب وقناة السويس ومضيق هرمز. إنهم يحاربوننا في نهر الأردن وفي نهر اليرموك ونهر العاصي والليطاني، وهذه الأنهار تحتلها كلّها القوات الإسرائيلية لكيلا يستطيع العرب أن يستفيدوا من هذه الأنهار، وسيأتي الدور على دجلة والفرات سيتم احتلالهما. نحن أمة في خطر. (…) أي توجه غير التوجه الوحدوي الجادّ والفوري، بدون تردد وبدون خوف هو خيانة لمستقبل الأمة العربية، وأجيالها القادمة. إسرائيل لا تقاتل ضد الفلسطينيين فقط، بل تقاتل الأمة العربية جمعاء. هذا قتال وجود وليس قتال حدود. وهم ينتظرون اليوم الذي تُحلّ فيه مشكلة فلسطين، لكي يتفرّغوا للهجوم على بقية الشعوب العربية. الخندق الفلسطيني يقاوم نيابة عنكم ويجب دعمه وحشد كل الإمكانيات وراء الخندق الفلسطيني لأنه الخط الأمامي للدفاع عن الأمة العربية. إذا سقط هذا الخط ستتقدم القوات الإسرائيلية إلى البلاد العربية من المحيط إلى الخليج. يريدون إقامة امبراطورية إسرائيلية فوق الأرض العربية. ليس هناك حماية إلا الوحدة العربية (…). الأمة الأميركية تتحداكم يجب أن تتحدوها. لا أن تطأطئوا رؤوسكم أمامها، ولو قدّمنا ملايين الشهداء في سبيل هذا التحدي”.

لئن كانت الغاية من كشف طبيعة علاقة الغرب بنا وحقيقة علاقتنا بالغرب هي إضاءة الطريق أمامنا لنعرف أين نسير وكيف نتجه، فلكي نبيّن أن الاستبداد الداخلي هو جزء من العمل الخارجي، وتنفيذ لإرادة الخارج بالوكالة

جلد ذات أم مصارحة؟

إقرأ على موقع 180  "الطوفان" يُحيي "القضية".. والكلمة العُليا للمقاومة

هذا التلاعب بمكونات منطقتنا العربية الذي يشكّل إحدى ركائز استراتيجية الدول الاستعمارية في منطقتنا، وتمارسه بأساليب مستترة أحياناً ومكشوفة أحياناً أخرى، وبوسائل الترغيب أحياناً والترهيب أحياناً أخرى، هو جزء مما يُسمّى المؤامرة على بلداننا. استمرت الدول الاستعمارية بتأليب المكونات الاجتماعية بعضها على بعض، للمزيد من تفتيت المجتمعات العربية ومنع قيام إطار جامع يوحّدها في كيان سياسي يضمها جميعاً ويجعلها قادرة على النهوض بقواها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعلى النمو والتطور وإقامة علاقات إيجابية مع الدول الأخرى، تُسهِم في بناء حضارة إنسانية وترسيخ السلام وصنع التاريخ. هذا المنع هو بالضبط المهمة التي أوكلتها الدول الاستعمارية إلى إسرائيل كشرط من شروط المساعدة على قيامها كدولة في قلب المنطقة العربية، والمساعدة على استمرار بقائها على الرغم من المقاومة التي لم تنقطع منذ قيامها. بذلك امتلكت الدول الاستعمارية وإسرائيل، علاوةً على القوة العسكرية السافرة التي تستخدمها ضد مجتمعاتنا، قوة إضافية ناتجة عن إذكاء النزاعات بين مكونات مجتمعاتنا التي بدأت بدراستها منذ منتصف القرن الثامن عشر (بفضل جيش من الباحثين الاثنوغرافيين والانتروبولوجيين والدبلوماسيين المستعربين والمستشرقين العاملين في إطار الخارجية الفرنسية والبريطانية والروسية والهولندية والألمانية).

ليس الكلام على مسؤولية الداخل مناسبة لجلد الذات، لسنا “مازوشيين” ولا مصابين بعقدة “تعذيب أنفسنا”، وإنما هو للمكاشفة والمصارحة، فلئن كان ثمة ما يُعاب على الشعوب العربية فأمرٌ واحد لا غير: السكوت على حكّامهم. ولا يتسع المجال هنا لمناقشة مقولة “الاستبداد الشرقي” التي روّج لها الكتبَة ليبرروا بها “التخلّف العربي”، منذ أن تُرجِم إلى العربية كتاب كارل ويتفوغل[9] واستندوا إليها ليفسروا العجز الداخلي عن النهوض بخنوع الشعوب العربية وقبولها بالخضوع، فهُم يرون أن الاستبداد والطغيان طبعٌ في حكام هذه الشعوب يفسر دوام بقائهم في مناصبهم واستمرارهم في قمع شعوبهم وحرمانها من حرياتها وحقوقها في ثروات البلاد. بل يكفي أن نشير إلى أن الانتروبولوجي روبرت أدامز[10] أثبت بطلان هذه المقولة. ليست هناك شعوب خانعة ترضى بالاستبداد، ووقوع القارة السوداء برمتها تحت الاستعمار الغربي (البلجيكي البرتغالي الإسباني الفرنسي البريطاني) ليس مرده إلى خنوع شعوبها، واحتلال فلسطين ليس سببه قبول الفلسطينيين بالاحتلال. ولئن كانت الغاية من كشف طبيعة علاقة الغرب بنا وحقيقة علاقتنا بالغرب هي إضاءة الطريق أمامنا لنعرف أين نسير وكيف نتجه، فلكي نبيّن أن الاستبداد الداخلي هو جزء من العمل الخارجي، وتنفيذ لإرادة الخارج بالوكالة، فعلاوةً على قوة التدخل العسكري للدول الاستعمارية وعمليات الفصل الجغرافي القسري التي مارستها على المجتمعات العربية بتقسيمها اعتباطاً إلى دول “مستقلة”[11]، ثم إلى دويلات، وضعت على رأس هذه الكيانات قيادات لا تخدم مصالح شعوبها بل تخدم مصالح الدول الاستعمارية.

(*) غداً الجزء الثاني والأخير

المصادر والمراجع:

[1]  https://180post.com/archives/13637    15/10/2020 :

[2]  أديب وشاعر ولِد في أوكرانيا في عائلة يهودية ويُعتبَر مع حاييم نحمان بياليك من أبرز الأدباء الذين كتبوا بالعبرية الحديثة.

[3]  منشورة بتاريخ 22/12/2021 على موقع 180Post ، تحت عنوان: “على هامش مؤتمر قرطبة: النهضة العربية ما هي؟”.  

[4]  تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طما الخطب حتى غاصت الركب/ اللَّهُ أَكبرُ ما هَذا المَنام فَقَد/ شَكاكُمُ المَهد وَاِشتاقَكُمُ الرَّبُّ/ ألِفتُم الهون حَتّى صارَ عِندَكُمُ/ طَبعاً وَبَعضُ طِباعِ المَرءِ مُكتَسَبُ/ كَم تُظلمون وَلَستُم تَشتَكون وَكَم/ تُستَغضَبونَ فَلا يَبدو لَكُم غَضَبُ.

[5] كتبه بالإنجليزية  The Arab Awakening وتُرجِم إلى العربية (عندما شاهد جحافل الصهاينة يتوافدون إلى فلسطين حيث كان يعيش. وقبله كتاب نجيب عازوري “يقظة الأمة العربية “) وكتبه بالفرنسية  Le réveil de la nation arabe وتُرجِم إلى العربية، خلافاً لكتابه الآخر “خطر اليهود العالمي” (كتبه بالفرنسية أيضاً Le Péril Juif universel ولم يُترجَم إلى العربية)

[6]  في كتابهما، بالفرنسية: Jean Lacouture et Ghassan Tuéni, Un siècle pour rien, Ed. Albin Michel, 2002

[7] حتى أن أحد الظرفاء علّق بصورة كاريكاتورية على هذه الحال المأسوية، بقوله: لو قُيِّض لسايكس وبيكو اللذين قسّما المنطقة أوائل القرن الماضي، أن يستفيقا لحظةً ويطِلّا من قبريهما، لكان أول ما يقولانه لنا: “عجباً! أما زلتم مقسّمين منذ ذلك الزمن؟! أما زالت المنطقة كما تركناها؟!” ثم يُغمى عليهما ويموتان بالسكتة القلبية. حتى أن أحد الظرفاء علّق بصورة كاريكاتورية على هذه الحال المأساوية، بقوله: لو قُيِّض لسايكس وبيكو اللذين قسّما المنطقة أوائل القرن الماضي، أن يستفيقا لحظةً ويطِلّا من قبريهما، لكان أول ما يقولانه لنا: “عجباً! أما زلتم مقسّمين منذ ذلك الزمن؟! أما زالت المنطقة كما تركناها؟!” ثم يُغمى عليهما ويموتان بالسكتة القلبية.

[8]  موقع 180Post ، تحت عنوان: “على هامش مؤتمر قرطبة: النهضة العربية ما هي؟” بتاريخ 22/12/2021 .

[9] مولية”، ترجمة محمد الرشودي، 2016

[10] Robert McCormick Adams, Irrigation’s impact on society

راجع أيضاً: سعيد الصويان، نظرية الاستبداد الشرقي

http://www.saadsowayan.info/html/A

[11] مستقل بعضها عن بعض، ولكن ليس عن الدول الاستعمارية التي “منحتها” الاستقلال.

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إسكات السيّد الحيدري.. غفلة تكتيكيّة أم خطأ استراتيجي؟