الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يعرف ذلك فأقدم على الزلزلة الاستراتيجية من دون تردُّدٍ. كان ينقصُه أن يقول علناً: لا مفرَّ. فلْيكُنْ زلزالٌ. ولْتكُنِ الارتداداتُ في أوروبّا، وكلِّ الغرب. ولا بأس إذا توالتِ الهزَّاتُ في كلِّ العالم.
الولايات المتحدة كانت تعرف ذلك أيضاً. أمعنتْ في إثارة الدبِّ الروسي منَ الإبطِ الأوكراني. جرّتْ وراءها الأطلسي. أطلقتْ حملةً دعائية غوبلزية هائلة. أرادت حريقاً في أوروبّا يتيح لها نورماندي ثانية. تطلعتْ إلى أن تقاتل بـ”أوكرانيا” لا في “أوكرانيا”. راهنتْ بذلك على ما تصوَّرتْه خوف بوتين والدولة الروسية العميقة وراءه. لكنَّ الروس، وبوتين تحديداً، رأوْا أنَّ الطبقات الزلزالية تتحرَّكُ قرب أرض روسيا. النفوذ الأميركي ـ الأطلسي يتصاعد من شواطىء البلطيق إلى البرِّ الأوكراني.. النخب الروسيّة، السياسية والعسكرية والاقتصادية، كانت تراقبُ هذا الأمر منذ سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود. ولو أنَّ الحِقبة التي أعقبت هذا السقوط شهِدت رئيساً غير بوريس يلتسين آنذاك، لكانت الحرب التي نراها الآن قد وقعت في مطلع القرن الحالي.
بوتين المخضرم في وعيِهِ بين الـ”كي. جي. بي” (المخابرات السوفياتية)، وروسيا السوفياتية، وروسيا الاتحادية، وروسيا التاريخية، وروسيا الأورو ـ آسيوية، كان شديد المراقبة، ويُتقِنُ الجمع الاستراتيجي بين كل هذه الأبعاد. النقطة التي تأمّلها كثيراً عندما تسلّم السلطة، هي أنَّ واشنطن تتملَّص تصاعديّاً من كلِّ الاتفاقات والتعهّدات. كان الاتفاق بين ميخائيل غورباتشوف والأميركيين يقوم على تفكيك الاتحاد السوفياتي من دون أن يتقدَّم الأطلسي شرقاً نحو المدى الاستراتيجي الروسي. الولايات المتحدة لم تلتزمْ. المحافظون الجدد رأوْا أنَّ التاريخ انتهى بالسيطرة الأميركية على العالم تحت وطأة بروباغندة العولمة. حرَّضوا على دولة الاتحاد الروسي. رفضوا قبولها في المعادلات الجديدة بعد السقوط السوفياتي. أرادوا إرجاعها إلى ما كان يُعرفُ تاريخياً بإمارة موسكو. نفّذوا خططهم لعرقلة حضورها الدولي. حاولوا أن يُحاصروها في أوروبّا، وفي الشرق الآسيوي، وفي القوقاز، وفي الشرق الأوسط وعلى أبواب أفريقيا.
بات شبه مؤكَّدٍ أنَّ بوتين لا يحلم بأن يربحها كلياً بوجه الأطلسي، لكنه يريد أن يبني خط الدفاع عن بلاده في قلب أوكرانيا لا على أبواب موسكو
ماذا يعني ذلك؟
إنَّه القرار الأميركي بصناعة التوتّر الاستراتيجي ومراكمتِهِ، لتبرير بقاء الأطلسي. ولاستتباعٍ إضافي لأوروبّا. استمرَّ هذا الأمر نحو ثلاثين عاماً. الردُّ الروسي كان بطيئاً لكنه متصاعدٌ. ربّما تعلَّم بوتين هذه القاعدة من تجربته في المخابرات السوفياتية. استخدم التكتيكات التفاوضية قبل بلوغ لحظة الانفجار الاستراتيجي. فسَّرتْ واشنطن تكتيكات بوتين تردُّداً، غير أنَّه كان يصنعُ التردُّدات قبل الزلزال خلافاً للقواعد الفيزيائية. انتبه استراتيجياً إلى تراكم الانتهاكات الأميركية. واشنطن نسفت مذكرة بودابست 1994 (كانت تشدِّدُ على تخلي أوكرانيا عن أي تطلُّعٍ نوويّ). وكرَّتِ السُبْحةُ وصولاً إلى إنفاق مليارات الدولارات لافتعال القلاقل ضدَّ روسيا في أوكرانيا ومن أوكرانيا. الذروة كانت في ما سُمِّي بـِ”ثورة كييف”، ثمَّ التحريض على خرق اتفاقيتَيْ مينسك الأولى والثانية (2014 و2015). السلطة الأوكرانية، ولا سيّما بعد 2014 سارتْ في هذا الخطِّ بعنادٍ واضح، وبخللٍ استراتيجي فاضح.
الحروب صراع إرادات وفقاً لاستنتاجات المفكّر الصيني “سون تزو” قديماً (قبل 2500 سنة)، و”كلاوزفيتز البروسي-الألماني حديثاً (القرن التاسع عشر) وهي تندلعُ عندما تصلُ التراكمات إلى لحظة الانفجار الاستراتيجي. هذا ما يحصل الآن تماماً. القيادة الروسية ترى أنَّ التراكمات التوتُّرية التي صنعتها الولايات المتحدة، تؤكّد أنَّ الإدارة الأميركية العميقة، وعلى رأسها المحافظون الجدد، تريد إسقاط دولة الاتحاد الروسي مثل إسقاط دولة الاتحاد السوفياتي.
بوتين منذ بداية عهده انتقل إلى الرد العمليّ. أعاد بناء القوة العسكرية وحدّثها. حقّقت بلادهُ تفوّقاً على الأميركيين في صناعة الصواريخ. استعاد شبه جزيرة القرم (كان نيكيتا خروتشيف قد أهداها عام 1954 إلى دولة أوكرانيا التي اصطنعها لينين عام 1922). استوعب تركيا جنوب الأطلسي. عزَّزَ مواقعه في البحر المتوسط، ووجَّه رسائله السياسية والعسكرية من سوريا ابتداءً من 2015. رسَّخ تحالفاته الشرقية من الصين إلى إيران، وحمى بلاد القوقاز، وعاد مؤخَّراً ليعلن ما كان يُضمره منذ ثماني سنوات: الاعتراف الرسمي بجمهوريّتيْ دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا. بعد ذلك شنَّ عمليته العسكرية الاستباقية التي لا مفرَّ منها وفقاً لمنظوره الاستراتيجي. إنَّه بوتين.. ذاكرته مثقلة بتحدياتٍ واجهتها روسيا تاريخياً. لا ينسى حملة نابليون (قبل نحو 200 سنة) ولا حملة هتلر (قبل نحو ثمانين سنة) وفي كلتيهما، وفي غيرهما، كانت أرض أوكرانيا الروسية هي مِنصّةُ القفز على موسكو. هذه الحملاتُ كانت تؤدّي دائماً إلى تغييرٍ في العلاقات الدولية. يظهر هذا التغيير في أوروبّا أولاً، ثمَّ في كلِّ الغرب، ثمَّ في العالم. لا يعني ذلك أنَّ النتائج ستكون كلّها في مصلحة موسكو، لكنَّ التغيير حتميٌّ: ما كان قبل هذه الحرب لن يكون هو نفسه بعدها، وتردّدات الزلزال مرشّحةٌ لتفعل فعلها في إعادة رسم الموازين الدولية.
الحربُ حتى الآن محصورةٌ جغرافياً. لكنّها مؤثرة استراتيجياً في كل العالم. ويبدو أنَّ بوتين احتسبها جيداً في نقطة زئبقية بين الواقعية والمغامرة
ما هي النتائج المرتقبة؟
تتضح من تقاطع الجذور القديمة والحديثة الاحتمالات الآتية:
أولاً؛ التحرُّك العسكري الروسي في أوكرانيا سيأخذ مع تداعياته وقتاً طويلاً نسبياً.
ثانياً؛ أفق الحسم العسكري سيواجه صعوبات، أمَّا أفق التسويات فهو أشدُّ صعوبةً. الولايات المتحدة التي راكمت كل أسباب الانفجار لا تريد تسويات في المدى القريب. تريد واشنطن استنزاف أوروبا وموسكو في وقتٍ واحد. ترغب في نسف أي احتمال مستقبلي لتطوير العلاقات الأوروبية – الروسية ولا سيّما مع ألمانيا. وتسعى إلى إزاحة الهوية الأوروبية وإحلال الأطلسية مكانها.
ثالثاً؛ التقاطعات المشار إليها قد تمهِّدُ لتوسيع الصراع عالمياً إذا لم تقتنع واشنطن بضرورة التسوية، فالروس لن يرضوا بمحاولة إسقاط الاتحاد الروسي مثل الاتحاد السوفياتي، وبوتين لن يتوقَّفَ مجاناً.
رابعاً؛ الحربُ حتى الآن محصورةٌ جغرافياً. لكنّها مؤثرة استراتيجياً في كل العالم. ويبدو أنَّ بوتين احتسبها جيداً في نقطة زئبقية بين الواقعية والمغامرة. بات شبه مؤكَّدٍ أنَّه لا يحلم بأن يربحها كلياً بوجه الأطلسي، لكنه يريد أن يبني خط الدفاع عن بلاده في قلب أوكرانيا لا على أبواب موسكو.