التصعيد العسكري الأمريكي من أوكرانيا إلى لبنان قبيل انتهاء ولاية بايدن

تميّز الأسبوع المنصرم بتصعيد عسكري أمريكي كبير على جبهتين عالميتين، جبهة الشرق الأوسط التي تُمثّل "إسرائيل" أداتها التنفيذية المباشرة ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وجبهة أوكرانيا التي يُمثّل رئيسها فلوديمير زيلينسكي الأداة التنفيذية للحرب الأمريكية الأطلسية ضد روسيا.

برغم خطورة هذا التصعيد الأمريكي الذي يُهدّد بإبادة شعب فلسطين بعد تهجيره وتجويعه وتدمير كل مظاهر الحياة في قطاع غزة، فإنه في الجزء الأوكراني منه يُهدّد بدفع العالم إلى حرب عالمية ثالثة.

وإذا كانت جبهة لبنان وفلسطين هي الأكثر سخونة وأهمية بالنسبة لأبنائها، إلا أن ذلك لا ينفي وجود ترابط موضوعي بين الجبهة الشرق أوسطية وبين جبهة أوكرانيا، فبعد ما يقارب الثلاث سنوات قرّرت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن، وتحديداً في آخر أيامها في البيت الأبيض، قبيل تولي الرئيس المنتخب دونالد ترامب مهام منصبه رسمياً في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل، اعطاء فولوديمير زيلينسكي صواريخ بالستية بعيدة المدى والسماح له بقصف العمق الروسي، فيما أرسلت مبعوثها للشرق الأوسط آموس هوكشتاين إلى لبنان و”إسرائيل” في سياق ما وصفته “محاولة التوصل لوقف اطلاق النار بين لبنان وإسرائيل”، بينما صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية 79 صوتاً من أصل مئة صوت على عدم منع تزويد آلة الحرب “الإسرائيلية” بالذخائر والأسلحة الأمريكية.

وفيما كان هوكشتاين يجتمع بالمفاوضين “الإسرائيليين” كانت طائرات جيشهم تشنُ غارات عنيفة على أهداف مدنية ومبانٍ سكنية في مناطق واسعة من البقاع والجنوب إضافة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، فيما جدّد الجيش “الإسرائيلي” محاولاته البرية للتقدم على محاور شمع – البياضة غرباً والخيام وديرميماس والطيبة ومركبا شرقاً، وذلك في سياق سعيه إلى تحقيق عدد من الأهداف بينها احتلال التلال الحاكمة استراتيجياً في قرى الحافة الأمامية وبلوغ الضفة الجنوبية لنهر الليطاني في النقطة الأكثر قرباً من الحدود (الخردلي أو الطيبة) وتدمير البنى التحتية لوحدات النخبة في المقاومة ربطاً بالمخاوف “الإسرائيلية” من إقدام المقاومين على اقتحام الجليل الأعلى من خلال منظومة من الأنفاق المعقدة التي تمكنوا من تشييدها طوال السنوات التي أعقبت حرب تموز/يوليو 2006 حتى الآن.

وفي قراءة أولية لهذا التصعيد الأمريكي بدءاً من أوكرانيا، تتصرف الإدارة الأمريكية “الديموقراطية” الحالية بكيدية كبيرة ضد الإدارة “الجمهورية” التي ستخلفها في حكم أمريكا لتترك لها أكبر المشاكل الممكنة وأعقدها من جهة، ولتعطي الفرصة لحلفائها في كل من أوكرانيا و”إسرائيل” لتحقيق توازن ميداني ما يُحسّن شروطهما في المفاوضات التي سيلجأ اليها الرئيس ترامب لوقف الحربين في أوكرانيا ولبنان وفلسطين المحتلة، بحسب وعوده الانتخابية.

ونظراً إلى وجود فاصل زمني يُقارب الشهرين لرحيل إدارة جو بايدن، فإن لعبها بالنار لا يدفع إلى المزيد من شلالات الدماء في هذه الأماكن الملتهبة فقط بل أيضاً يُهدّد باندفاع العالم نحو حرب عالمية ثالثة، وما تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن بلاده قد تلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية بعد قرار أمريكا السماح لأوكرانيا بقصف عمق روسيا بصواريخ بالستية بعيدة المدى، إلا في معرض تأكيد هذه الفرضية لا سيما أن بوتين أعقب تصريحه هذا بالقول إن أنواع الصواريخ التي سيستخدمها الأوكرانيون بقصف روسيا “لا يمكن تشغيلها إلا من قبل الدول المصنعة لها”، في إشارة واتهام واضحين لواشنطن بتورطها المباشر في الحرب وتصعيدها.

وماذا عن جبهة لبنان؟

إن زيارة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان، في الأسبوع المنصرم، “كانت إيجابية ومثمرة،” بحسب التصريحات التي أدلى بها هو وكل من رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، لكن اللافت للانتباه بعد زيارته إلى تل أبيب، هو أكثر من مؤشر سلبي: غياب أي تصريح رسمي له يؤكد على المناخات الإيجابية التي أشاعها في بيروت؛ إقدام الجيش “الإسرائيلي” على تزخيم توغله البري في جنوب لبنان بطريقة تدميرية واضحة في قضاء صور كما في الخيام ومحيطها؛ تنفيذ إعتداء خطير ضد أحد الأحياء الشعبية الآمنة في العاصمة اللبنانية بذريعة استهداف أحد قادة المجلس الجهادي في حزب الله، ذهب ضحيته عشرات الشهداء والجرحى.

وفي موازاة هذه المؤشرات، أحدث قرار مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان باصدار مذكرتي إلقاء قبض بحق رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو ووزير حربه المُقال يوآف غالانت، صدمة للإدارة الأمريكية التي كانت متحمسة بالأمس القريب لتنفيذ مذكرة القاء القبض بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بينما قرّرت شن حرب ضد المحكمة قد تصل إلى حد فرض عقوبات على أعضائها وأجهزتها. وإذا كان القرار قد حرف الأنظار عن حرب الإبادة التي تُشنُ ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، فإنه يُشكّل في الوقت نفسه عنصر ضغط كبير على “إسرائيل” سيُترجم عُزلة دولية ربما لا يريد نتنياهو أن يُساهم في تأجيجها عبر تحمله مسؤولية فشل مفاوضات وقف اطلاق النار مع لبنان.

هل فشلت مهمة هوكشتاين؟

بالتأكيد يمكن الإجابة بلا، فالخطوط العريضة للاتفاق أقرت من الطرفين وما تبقى من جدل هو شرط “إسرائيل” السماح لها بمواصلة احتلالها الجوي للبنان بعد وقف اطلاق النار عبر ما تسميه “حرية الحركة الجوية والتدخل عندما ترى تهديداً لأمنها”، وهو الأمر الذي رفضه لبنان، إلا أن “إسرائيل” جعلته جزءأً من مذكرة تفاهم بينها وبين الولايات المتحدة، الأمر الذي يطرح علامات استفهام حيال كيفية تعامل الدولة اللبنانية مع هذه القضية التي تمس بالسيادة اللبنانية؟

إقرأ على موقع 180  هل يجيب مغرب 2020 عن أسئلة التنمية وما جاورها؟

إنطلاقاً من ذلك كله، يُمكن الافتراض أن مهمة هوكشتاين “الإسرائيلية” مجرد قنبلة دخانية وظيفتها إطالة أمد الحرب بهدف تحقيق ما امكن من انجازات عسكرية ميدانية، بأمل ترجمتها طلباً للمزيد من التنازلات لبنانياً. ولكن ما يعرفه “الإسرائيليون” جيداً أن وضع المقاومة في جنوب لبنان سيكون كما هو وضع المقاومة في قطاع غزة حيث تمكن الجيش “الإسرائيلي” من احتلال القطاع كله لكنه لم يستطع انهاء المقاومة ولا استعادة الأسرى “الإسرائيليين” بل زاد في شراسة ضرباتها له حيث اعترف الإعلام “الإسرائيلي” بمقتل 29 جندياً في معارك مخيم جباليا وحدها خلال الأسبوعين المنصرمين. وفي جنوب لبنان لا يهم إلى أي مدى أو قرية يمكن أن يصل جنود الإحتلال، طالما أن رجال المقاومة الأشداء يواصلون اصطيادهم مع دباباتهم وآلياتهم، هذا من دون الإشارة إلى أنه بعد دخول المعركة الميدانية شهرها الثالث في جنوب لبنان، فإن الجيش “الإسرائيلي” الذي حشد أكثر من ثمانين ألف جندي لهذه المعركة لا يزال يقاتل في عمق لا يتجاوز الخمسة كيلومترات في قرى الحافة الحدودية الأمامية، كما أنه لم يتمكن من إعادة مستوطني الشمال ويواجه معضلة اتساع نطاق التهجير جغرافياً، مع تجاوز ضربات المقاومة بالصواريخ والمسيرات شريط نهاريا وعكا وصفد وحيفا نحو عمق تل أبيب.

باختصار، وعدت ادارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بابرام صفقات لإنهاء الحروب، كما ذكر هو في خطاباته التي سبقت الانتخابات، لذلك فان التصعيد الحربي في أوكرانيا لن يُنقذ نظام زيلينسكي من هزيمة مُحدقة به وبحلفائه ستُترجم في اتفاقات ستفرض عليه تنازلات مؤلمة؛ أما التصعيد “الإسرائيلي”، جواً وبراً في لبنان فإنه وإن كان سيزيد حجم التضحيات التي تقدمها المقاومة برجالها وجمهورها ولكنه بالتأكيد لن يعطي فرصة لـ”إسرائيل” لفرض إرادتها طالما أن الكلمة للميدان حيث المقاومة تسطر ملاحم ستُدرس في كبرى الأكاديميات العسكرية في العالم.

ينطبق على سلوك الإدارة الأمريكية الحالية المثل الشعبي اللبناني القائل: “يا رايح كتّر القبايح”، طالما أنّه لن يغير في المعادلات الميدانية حرفاً واحداً.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  أجدني كفرتُ.. بالعروبة!